Please login to verify this Profile
الحماية القانونية للمستحضرات الصيدلانية في بحث قانوني مميز .
إعداد الباحث( عثمان محمود محمد بني يونس/ القاهرة)
المبحث الأول : براءة الاختراع الدوائية ودورها في حماية المستحضرات الصيدلانية قبل اتفاقية التريبس.
المبحث الثاني : حماية المستحضرات الصيدلانية بعد اتفاقية التريبس.
المبحث الأول براءة الاختراع الدوائية ودورها في حماية المستحضرات الصيدلانية قبل اتفاقية التريبس
لم تكن قوانين الدول النامية تضع- قبل اتفاقية التريبس– أي قيود تمنع الاستفادة من المعلومات المتعلقة ببيانات الاختبارات الدوائية ونتائج التجارب التي تقدم من شركات الأدوية إلى الجهة الحكومية المعنية للحصول على ترخيص بتسويق الأدوية.
وهذا الوضع كان يتفق مع مصلحة شركات الأدوية الوطنية في الدول النامية، لأن نشاطها يعتمد بصفة أساسية على إنتاج الأدوية التي ابتكرتها من قبل شركات الأدوية الكبرى وطرحتها في الأسوق، مستفيدة في ذلك من بيانات الاختبارات ونتائج التجارب التي سبق إجراءها وتقديمها للوزارة المعنية، دون حاجة لإعادة الاختبارات والتجارب على ذات هذه الأدوية من جديد( ). والسؤال الآن هو: ما هو الدور الذي لعبته براءاة الاختراع الدوائية لحماية المستحضرات الصيدلانية قبل اتفاقية التريبس، وإلى أي مدى نجحت براءاة الاختراع في حمايتها، وهو ما سنتناوله في المطالب التالية:
المطلب الأول: براءة الاختراع الدوائية.
المطلب الثاني: براءة الاختراع الدوائية ودورها في الحماية القانونية للمستحضرات الصيدلانية.
المطلب الأول براءة الاختراع الدوائية.
يرى بعض الفقهاء أن الاختراع هو كل اكتشاف أو ابتكار جديد قابل للاستغلال الصناعي سواء كان ذلك الاكتشاف أو الابتكار متعلقاً بمنتجات صناعية جديدة أم بطرق ووسائل مستحدثه أو بهما معاً( ) .
وتعتبر براءة الاختراع الدوائية من أهم التطبيقات العملية للملكية الصناعية سواء من حيث طبيعة الامتيازات التي تخولها لمخترعين الدواء أو ذوي حقوقهم، أو من حيث وسائل الحماية المقررة قانوناً لهذه الامتيازات، ولعل ما يؤكد ذلك أن كل القوانين المتعلقة بالملكية الصناعية أو الملكية الفكرية بصفة عامة، التي تمكِّنا من الإطلاع عليها تجعل براءات الاختراع الدوائية في مقدمة اهتماماتها وتخصص لها جزءً مهماً من المقتضيات القانونية وتجعلها على رأس ما تفرده للملكية الصناعية من مقتضيات( ).
ومما لا شك فيه أن البراءة الدوائية تساعد في فهم الوسائل الناجحة لحماية هذه البراءة والحفاظ على الحقوق المترتبة عليها، وتعتبر البراءة الدوائية صمام الأمان لحاملها إذ تمثل رخصة وسند تخول صاحبها مواجهة الشركات الدوائية صاحبة المنتج الدوائي ممن يعتدي على حقوقها والتي تخولها في الوقت ذاته الاستئثار بتلك الحقوق طول فترة حماية البراءة الدوائية، وهذا يعني أن المنتجات الدوائية تنطبق عليها هذا النوع من الحماية، وخاصة أنها ناتجة عن جهد بشري، إذ أن المبتكر أبدع شيئاً لم يكن له وجود فعلي قائم.
وتلعب براءة الاختراع الدوائية دوراً فعالاً في حماية حقوق أصحاب الصناعات الدوائية بصفة خاصة، لأن البراءة الدوائية تمثل قطب الرحى في حماية حقوق شركات الدواء، حيث تمثل الشهادة التي تثبت حقوق هذه الشركات على الأدوية التي قاموا باختراعها وتجربتها، فضلاً عن أنها تعتبر بمثابة السند الذي تستند عليه تلك الشركات لمنع الآخرين من الاعتداء على هذه الحقوق أو المطالبة بالتعويض في حالة وقوع الاعتداء( ).
المطلب الثاني براءة الاختراع الدوائية ودورها في الحماية القانونية للمستحضرات الصيدلانية.
أثارت الطبيعة القانونية لبراءات الاختراع الدوائية اختلافاً واضحاً بين المهتمين بحقوق الملكية الفكرية، فيرى بعض الفقهاء أن براءة الاختراع الدوائية هي صك تمنحه الدولة للمخترع ليحمي به اختراعه من أجل استئثار استغلاله فترة معينة من الزمن بمعنى أنها حماية استئثارية لحق المخترع، ويسقط الاختراع بعد هذه المدة في الملك العام، بحيث يستطيع أي شخص له القدرة العلمية والكفاءة المهنية أن يستغله ويجني العائد المناسب من ورائه دون أن يطالبه بمقابل هذا الاستغلال( ).
وعلية، فإن الدواء حضيَّ بحماية قانونية سابقاً قبل اتفاقية التريبس عن طريق براءة الاختراع الدوائية كمُصنَّع وليس كمُنتَج، وتكاد تكون هذه الحماية في كافة التشريعات السابقة لاتفاقية التريبس، كون البراءة منشئة للحق حيث أعلن صاحب الحق عن رغبته في الاحتفاظ بحقوقه القانونية على الابتكار الدوائي على أن يذيعه، ولما كانت هذه الحقوق لا تقرر للمخترع إلا بالحصول على البراءة فكاَّن هذه الوثيقة هي التي تنشئ هذه الحقوق وتجعلها محلاً للحماية التشريعية، وبدونها يصير الابتكار من الأموال العامة، ولا يستطيع المخترع أن يدعي عليه بأي حق خاص( ).
ومع مرور الزمن، تحوَّل التشديد بإتجاه رؤية نظام براءات الاختراع الدوائية بمثابة أسلوب لتوليد الموارد اللازمة لتمويل الأبحاث والتطوير وحماية الاستثمارات الدوائية، وبما أن نظام براءات الاختراع الدوائية يعرض مستوى قياسي من الحماية في كافة المجالات التي يغطيها، فلا توجد صلة مباشرة بين قيمة الحق الممنوح للاختراع والتكاليف المتكبدة في الأبحاث والتطوير، ويمكن أن تكون هناك صلة بين قيمة الاحتكار وفائدته العملية. وحتى تتحقق الحماية، فلا بد من تسجيل الاختراع في الدول التي يرغب المخترع في حماية اختراعه فيها، والتسجيل لا يتم إلا بعد تحقق ثلاث شروط بموجبها يتم منح المخترع شهادة ( براءة الاختراع )، تثبت أنه مالك لهذا الاختراع الدوائي، ويستطيع ممارسة كافة الحقوق التي كفلها القانون. وهذه الشروط بشكل مختصر هي أن يكون الاختراع جديداً لم يتم الكشف عنه في أي مكان بالعالم لا بالوصف المكتوب أو الشفهي، وأن يكون الاختراع ذو خطوة ابتكاريه، أي انه لم يكن واضحاً للشخص الفني في نفس المجال، وأن يكون الاختراع قابلاً للتطبيق الصناعي في أي مجال من مجالات الصناعة بمفهومها الواسع( ).
وتعد براءات الاختراع من أهم صور الملكية الصناعية المتعددة التي يشملها المشرع الوطني بحمايته، إلى جواز نماذج المنفعة، والنماذج الصناعية، لعلامات التجارية بأنواعها الثلاث، والأسماء التجارية، وبيانات المصدر، المسميات الجغرافية، المنافسة غير المشروعة( ).
وتمثل براءة الاختراع الدوائية أهم حقوق الملكية الفكرية التي تأتي من خلال جهود منظمة وأبحاث علمية دقيقة يمكن أن تؤدي إلى ظهور أدوية جديدة من شأنها أن تحقق عوائد مالية كبيرة، لذا كان من الطبيعي أن تولى اتفاقية التريبس والتشريعات العربية هذا النوع من حقوق الملكية الفكرية عناية خاصة ظهرت من خلال النصوص التي تنظم الحقوق الممنوحة لأصحاب براءات الاختراع . وقد كانت الدول قبل اتفاقية التريبس تتمتع بحرية في استبعاد مجالات بعينها من حماية براءات الاختراع، فقد كانت المستحضرات الصيدلانية من ضمن الصناعات المستبعدة من حماية براءات الاختراع في التشريعات المصرية، ومعظم التشريعات العربية والدول النامية مثل الهند والصين والبرازيل، بل وكذلك بعض الدول المتقدمة مثل اسبانيا والبرتغال وفنلندا( ) .
وقد عالجت اتفاقية التريبس الحقوق الممنوحة لصاحب براءة الاختراع في المادة الثامنة والعشرين من الاتفاقية، وفرقت هذه المادة بين نوعين من البراءات:
الأولى: هي براءة المنتج التي تعطي صاحب إبداع أدى إلى ظهور منتج دوائي جديد يصلح للاستخدام ومأمون الفاعلية من حيث الآثار الجانبية، وهذا النوع من البراءة تخول صاحبها حقوقاً استئثارية يستطيع من خلالها أن يحصل على مقابل ما قام به من أبحاث وتجارب في سبيل الوصول إلى هذا المنتج الدوائي الجديد( ).
أما بالنسبة للنوع الثاني من براءة الاختراع: فهي براءة الطريقة الصناعية التي تعطي لصاحب إبداع أدى إلى التوصل إلى طريقة جديدة للحصول على دواء معين، ولقد أقرت اتفاقية التريبس لهذا النوع من البراءة أحكاماً خرجت بها عن القواعد العامة المتعارف عليها من التشريعات المختلفة والتي تقرر أن عبء الإثبات يقع على المدعى حين نقلت الاتفاقية عبء الإثبات إلى المدعي عليه، وبطبيعة الحال فلقد تأثر المشرع المصري بأحكام الاتفاقية وقرر هذا المبدأ في المادة 34 من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية المصري، كما تأثر بذلك المشرع الأردني في قانون براءات الاختراع كما سنرى لأحقاً.
وتعتبر اتفاقية التعاون الدولي بشأن براءات الاختراع مكملة لاتفاقية باريس، وتتضمن ثلاثة عناصر رئيسية هي الطلب الدولي، والبحث الدولي، والفحص المبدئي الدولي، وتوفر الاتفاقية لمودع طلب براءة الاختراع في دولة ما الحماية المطلوبة في كافة الدول الأعضاء المشاركة في الاتفاقية، ومن ثم يحصل على ميزة كبيرة تتمثل في معرفة أسرار الاختراعات عن طريق نشر وثائق براءات الاختراع التي يترتب عليها تشجيع البحث والابتكار في الدول النامية، ويتيح بالتالي لذوي الخبرة الوقوف على أخر ما وصل إليه غيرهم في شتى المجالات التكنولوجية ويساعد أصحاب البراءات ورجال الأعمال في تقدير القيمة الاقتصادية لبراءاتهم الجديدة، ومدى الفائدة التي تعود عليهم من تسويق منتجاتهم( ).
غير أن الحماية التي تمنحها التشريعات الوطنية لم تكن كافية لتحقيق مصالح الدول الصناعية المتقدمة، لأنها حماية محدودة لا يتجاوز نطاقها الحدود الجغرافية للدولة التي تعترف بهذه الحقوق. وقد أوجبت اتفاقية التريبس على الدول الأعضاء حماية اختراعاتهم الدوائية سواء انصب الاختراع على الدواء ذاته أو على طريقة تصنيعه، بينما كان الوضع في الماضي مختلف تماماً – قبل العمل بأحكام اتفاقية التريبس – فكانت قوانين براءات الاختراع السارية في غالبية الدول النامية لا تمنح البراءة عن الاختراعات الدوائية وقد أتاح هذه الوضع للشركات الوطنية في الدول النامية إمكانية تحضير الأدوية الجديدة، دون دفع مقابل للشركات الأجنبية التي ابتكرتها وهي غالبا شركات تنتمي إلى الدول المتقدمة( ).
فعلى سبيل المثال كانت الشركة الأم (المخترعة) تطرح المنتج الدوائي للتداول وكذلك طريقة تركيبه كيميائياً بعد أن تقوم بتسجيله في مكتب براءات الاختراع، وكانت شركات الدواء الوطنية تتحايل على هذا الوضع، بأن تقوم بإنتاج المركب الدوائي بطريقة تركيب أخرى لتفلت من قيد براءة الاختراع وتقوم ببيعه بأسعار رخيصة، لذا فإن اتفاقية التريبس حظرت ذلك بأن كفلت حماية المنتج الدوائي للشركة المخترعة.
فلا يجوز تصنيعه أو استخدامه أو عرضه للبيع أو بيعه أو استيراده حتى لو تم تركيبه بطريقة أخرى. ويصبح هذا الاختراع الدوائي ملكاً للشركة المخترعة فقط ولا يحق لأحد سواها الاقتراب منه بأية صورة من الصور السابقة طوال فترة الحماية الممنوحة له وقدرها عشرون عاماً( ).
المبحث الثاني حماية المستحضرات الصيدلانية بعد اتفاقية التريبس
تعد اتفاقية التريبس الأولى التي نظمت حماية المعلومات غير المفصح عنها، والتي فرضت التزاماً على الدول إسباغ الحماية على تشريعاتها في النظام التجاري الدولي والتي تخضع للحفظ والرقابة كأسرار من شأنها الكشف عنها أن يحرم أصحابها من المزايا التنافسية في مواجهة الغير دون حق( )، ولم تتفق الدول المتقدمة على صيغ تتولى بها حماية المعلومات غير المفصح عنها في تشريعاتها الداخلية، ففي الولايات المتحدة تحمي هذه المعلومات باعتبارها ملكية قانونية، وفي سويسرا تمنح لها الحماية في قانون العقود، وفي ألمانيا تحظى بالحماية القانونية في إطار ممارسة الأعمال الأخلاقية، أما في البلدان النامية فلم تعرف في غالبيتها مثل هذا النوع من الحماية في قوانين محددة ( ).
وإذا كانت اتفاقية التريبس قد أولت عناية خاصة لحماية المعلومات غير المفصح عنها في أحكام المادة(39) وقررت قواعد لحمايتها، وكذلك فعل المشرع الأردني والمصري والبحريني والسعودي والعُماني واللبناني بالنسبة لحماية هذا النوع من المعلومات، فلا شك أن التعرض لما هية بيانات الاختبار سيكون له عظيم الأثر من الناحية النظرية والسريرية. وقد جاءت المادة(39) من اتفاقية التريبس لتضفي هذه الحماية على المعلومات غير المفصح عنها، وتلتزم كافة الدول الأعضاء باتخاذ كافة التدابير التشريعية اللازمة لتعديل قوانينها القائمة لحماية حقوق الملكية الفكرية المبينة باتفاقية التريبس، بما في ذلك بيانات الاختبار طبقاً لما هو وارد بالمادة(39/3) من الاتفاقية، لذلك قامت العديد من الدول بالفعل بتعديل تشريعاتها الداخلية وإضفاء حماية قانونية صريحة للمعلومات ذات الطابع السري.
كما أن بعض تشريعات الدول النامية لم تضع- قبل اتفاقية التريبس– أي قيود تمنع الاستفادة من المعلومات المتعلقة ببيانات الاختبارات ونتائج التجارب التي تقدم من شركات الأدوية إلى الجهة الحكومية المعنية، للحصول على ترخيص بتسويق الأدوية. وهذا الوضع كان يتفق مع مصلحة شركات الأدوية الوطنية في الدول النامية، لأن نشاطها يعتمد بصفة أساسية على إنتاج الأدوية التي ابتكرتها من قبل شركات الأدوية الكبرى، وطرحتها في الأسوق، مستفيدة في ذلك من بيانات الاختبارات ونتائج التجارب التي سبق إجراءها وتقديمها للوزارة المعنية، دون حاجة لإعادة الاختبارات والتجارب على ذات هذه الأدوية من جديد. وقد أكدت اتفاقية التريبس في المادة 39 في الفقرة الأولى بشكل واضح حماية المعلومات غير المفصح عنها عن طريق قواعد المنافسة غير المشروعة التي تنص عليها المادة 10 مكرر من اتفاقية باريس.
ومن ثم يلزم لحماية المعلومات غير المفصح عنها وفقاً لأحكام المادة 39 (2) من اتفاقية التريبس أن تتوافر شروط معينة في المعلومات حتى يمكن حمايتها قانوناً، هي: السرية، وأن يكون للمعلومات قيمة تجارية نظراً لكونها سرية، وأن يتخذ حائز المعلومات تدابير جدية للمحافظة على سريتها( ) . وفي حقل حماية بيانات الاختبار ذات الكيانات الكيميائية الجديدة، والتي تعتبر من قبيل المعلومات السرية – كتشريع مستقل – يوجد عدد قليل من الدول العربية يتوافر لديها قوانين خاصة تحمي بيانات الاختبار التي تعتبر من قبيل الاسرار التجارية، مثل الأردن التي صدر فيها قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية رقم 15 لسنة 2000( )، وفي البحرين صدر القانون رقم (7) لعام2003 بشأن الأسرار التجارية( )، والتي تناولت حماية بيانات الاختبار بوضوح، ومصر والمغرب ولبنان وقطر( ) والتي سيتم التطرق لهم لاحقاً في هذه الدراسة.
يتضح مما سبق اهتمام الدول بإضفاء حماية قانونية خاصة وصريحة لبيانات الاختبار التي تعد المحل الرئيسي لتطور صناعة الدواء على النحو الذي حددته اتفاقية التريبس “trips” نتيجة الإدراك العام لحقيقة وأهمية وجود قواعد قانونية آمره لحماية هذه البيانات على النحو المتبع بالنسبة لأي عنصر آخر في الملكية الصناعية كبراءات الاختراع والنماذج الصناعية.
ولا بد من الملاحظة أن بيانات الاختبار تبقى متمتعةً بالحماية القانونية كأحد ضروب الملكية الفكرية، طالما بقيت المعلومة محل النظر سرية من قبل مالكها وطالما أنه لم يتم الحصول عليها بطريقة مستقلة، أو قانونية من قبل الآخرين، وتبقى حماية بيانات الاختبار هي محل الحماية القانونية في هذا المجال، إذ يترتب على إذاعة سريتها فقد قيمتها الاقتصادية المنشودة منها. ونظراً لاعتبار بيانات الاختبار من قبيل الأسرار التجارية كما ذكرنا سابقاً، كان حكماً إعتبار حماية المعلومات مكملة لحقوق الملكية الفكرية، ونظراً لكثرت المصانع الدوائية الكبرى التي تفضل الاحتفاظ باكتشافاتها العلمية سراً دون أن تتقدم للحصول على براءة اختراع بشأنها، حتى ولو توافرت فيها كافة الشروط المتطلبة قانونياً للحصول على البراءة، بل وحتى في الحالات التي يلجأ فيها مالك البيانات إلى الحصول على براءة اختراع لحماية ابتكاراته، فقد يحتفظ سراً ببعض المعلومات والخبرات التكنولوجية المرتبطة بها بحيث لا تكفي المعلومات المتضمنة في البراءة لاستغلالها على نحو فعّال، ويحتاج الأمر إلى الاتفاق مع المخترع للحصول على المعرفة الفنية منه بناءً على تعاقد مستقل.
وتصنف بيانات الاختبار بأنها ذات فائدة اقتصادية، إذ قام صاحبها باتخاذ إجراءات مناسبة للمحافظة على سريتها، وعلى الرغم من تعدد الأنظمة القانونية لحمايتها، إلا أن هذه النظم تتفق فيما بينها على توافر شروط معينة حتى يمكن حمايتها قانوناً، وتحرص الشركات الكبرى على إبقاء المعلومات السرية لمصلحتها حال قيامها، فلا يخلوا الأمر من سعيها إلى ضمان احتـكارها التكنولوجي، فالاحتفاظ بهذه البيانات في طي الكتمان تحفظ لمبتكريها مكانة في السباق الرهيب إلى خلق قنوات إنتاجية أكثر تطوراً، إذا لا يفيد الغير منها في بحوثه لجهله بها، ومع سيطرة الشركات ودولية النشاط على المعلومات السرية والابتكارات، أفضى ذلك على السوق الدولية طابعاً مميزاً إذا تعمل في ظله تلك الشركات في إطار من منافسة القلة ( ) .
وتطبيقاً على ذلك، فإن حماية بيانات الاختبار في المستحضرات الصيدلانية، تتوافر بمجرد التوصل إلى خلطة كيميائية أو تركيبة معينة تستخدم في صناعة الأدوية. ومن هنا نجد أن اتفاقية التريبس أوجدت نوعين من الحماية لهما مزايا وعيوب، الأمر الذي يتيح لصاحب البيانات والاختبارات وما توصل إليه من نتائج معملية أحقيته في اختيار الطريقة التي يراها مناسبة في الاحتفاظ بسرية هذه البيانات.
لماذا لا تكون اول معجب
بحث قانوني عن قاعدة تطهير الدفوع في الأوراق التجارية .
أ/ عيسي العماوي
مقــدمة :
الأوراق التجارية هي صكوك تمثل حقاُ نقدياُ واجب الدفع في ميعاد معين وقابلة للتداول بالطرق التجارية علي أن يستقر العرف علي قبولها كأداة وفاء بدلاُ من النقود.
هذا والأوراق التجارية تمارس دورها في دنيا التجارة باعتبارها أداة وفاء وائتمان، وكذلك أيضاُ وسيلة لتنفيذ عقد الصرف, ويعتبر مبدأ عدم الاحتجاج بالدفوع أو تطهير الورقة التجارية من الدفوع احد أهم دعائم قانون الصرف رغم أنه أثر من آثار التظهير الناقل للملكية في الأوراق التجارية. ومفهوم هذا التطهير أن الورقة التجارية تنتقل بالتظهير خالية من الدفوع التي يمكن للمدين الاحتجاج بها في مواجهة الحامل السابق للورقة التجارية, حيث لا يمكن لمدين بقيمة هذه الورقة التجارية علي سبيل المثال أن يدفع في مواجهة الحامل ببطلان العقد الأصلي الذي كتبت الورقة التجارية علي أساسه.
وتبدو أهمية هذا الموضوع في أنه خروج عن القواعد العامة في القانون المدني الذي تقضي فيه بأحكام الحوالة أن الحق ينتقل من المحيل إلي المحال إليه بكل ضماناته و دفوعه فيستطيع المحال عليه أن يدفع في مواجهة المستفيد بكل الدفوع التي كان من الممكن أن يواجه المحيل بها. أما في الأوراق التجارية فان هذا الكلام لا يجد له ذكراُ إلا من باب المقارنة حيث أن قانون الصرف يختلف فيه الأمر كلياُ حيث لا يمكن للمدين بالحق الموجود بالكمبيالة أن يدفع في مواجهة الحامل بالدفوع التي كان يمكنه الدفع بها في مواجهة الحاملين السابقين, إلا أن ذلك مرتبط بكون الحامل حسن النية,
خطة البحث :
تقتضي دراسة البحث أن نقسمه إلي المطالب الآتية:
1- المطلب الأول: مفهوم قاعدة تطهير الدفوع
2- المطلب الثاني: شروط إعمال قاعدة تطهير الدفوع
3- المطلب الثالث: الدفوع التي لا يطهرها التظهير
4- المطلب الرابع: الدفوع التي يطهرها التظهير
المطلب الأول : مفهوم قاعدة تطهير الدفوع
كما سبق أن قلنا أن القاعدة في قواعد القانون المدني أن الإنسان لا ينقل لغيره أكثر مما يملك, كما أن حوالة الحق تقضي بان الحق ينتقل إلي المحال إليه بكل صفاته وضماناته وعيوبه, ومعني هذا أن المدين بالحق محل الحوالة يمكن له أن يدفع في مواجهة المحال إليه بكل الدفوع التي كان من الممكن أن يدفع بها في مواجهة المحيل.
إن القول بذلك في القانون التجاري لاسيما في تظهير الأوراق التجارية يقضي علي أسس وقواعد القانون التجاري، حيث سيعطل قابلية الأوراق التجارية للتداول باعتبارها أداة وفاء وائتمان، فمن ذا الذي يقبل ورقة تجارية قد يفاجأ بأي لحظة بشخص آخر يواجهه بدفع لم يكن له يد فيه فيحرمه من الحصول علي حقه [1] , لذلك كان لابد أن يتميز القانون التجاري في هذا المجال فابتدع العرف التجاري قاعدة تضمن لصاحب الحق ألا يفاجأ عند رغبته عند تحصيل حقه، وإذا بقاعدة تطهير الدفوع تولد من رحم الحاجة لتساهم في تعزيز وظائف الأوراق التجارية كأدوات للوفاء والائتمان , ورغم أن هذه القاعدة من ابتكارات العرف التجاري إلا أن الفقه والقضاء تأثرا بهذا الابتكار وسلما به فأضحت قاعدة مستقرة في عرف المحاكم حتى قبل أن تنص عليها التشريعات[2] .فالقانون المصري لم ينص عليها في القانون القديم إلا أنه عاد ونص عليها في قانون التجارة الجديد رقم 17 لسنة 1999 المادة (397)، وكذلك نص عليها مشروع القانون التجاري الفلسطيني في المادة (398) و التي جاء فيها “( ليس لمن أقيمت عليه دعوى بكمبيالة أن يحتج على حاملها بالدفوع المبنية على علاقاته الشخصية بساحبها أو بحامليها السابقين، ما لم يقصد الحامل وقت حصوله عليها الإضرار بالمدين ). ويقصد بالتطهير أن تظهير الورقة يطهرها من الدفوع أي أن الحق الثابت فيها ينتقل إلي المظهر إليه نظيفا من كل عيب غير ظاهر في الورقة, وهذا معناه أن المظهر إليه ينتقل إليه حق ليس هو الحق الذي كان المظهر السابق, وعلي ذلك فكل تظهير ينقل المظهر إليه حقاُ جديدا خالياُ من العيوب السابقة علي التظهير [3] .
المطلب الثاني : شروط إعمال قاعدة تطهير الدفوع
لكي يتم إعمال قاعدة تطهير الدفوع لابد من توافر شروط معينة وهي أن يكون حامل الورقة التجارية قد تلقاها عن طريق التظهير الناقل للملكية, والثاني أن يكون حامل الورقة حسن النية وهذا ما سنتناوله فيما يلي :
الشرط الأول :أن يكون الحامل قد تلقي الورقة التجارية عن طريق التظهير الناقل للملكية:
ويقصد بالتظهير ” بيان يكتب في ظهر الورقة يفيد معني النزول عن الحق العرفي المدرج لإذن شخص آخر [4], والمتنازل يطلق عليه اسم المظهر والمتنازل إليه يطلق عليه اسم المظهر إليه ” ويقصد بالتطهير التوكيلي مجرد توكيل المظهر إليه في قبض قيمة الكمبيالة في ميعاد الاستحقاق , حيث لا يهدف المظهر نقل ملكية الحق الصرفي الثابت في الكمبيالة إلي المظهر إليه , أما التظهير التأميني فهو رهن الحق الثابت بالورقة التجارية لمصلحة دائن للمظهر أي هو رهن للحق الصرفي الذي تحتويه الورقة ضماناُ لدين علي المظهر لصالح المظهر إليه
إذن لكي تطبق قاعدة تطهير الدفوع فلابد أن يكون التظهير تظهيراُ ناقل للملكية أما التظهير التوكيلي أو التظهير التأميني فانهما لا يطهران الورقة التجارية من الدفوع، وكذلك إذا آلت الورقة التجارية إلي الحامل بطريقة الحوالة ( حوالة الحق ) فانه لا يترتب علي ذلك تطهيرها من الدفوع ويمكن للمدين أن يدفع في هذه الحالة في مواجهة الحامل بالعيوب التي كان من الممكن أن يدفع بها في مواجهة الدائن الأصلي [5] فلا يستفيد من قاعدة التطهير إلا من ظهرت له تظهيراُ ناقلاُ للملكية لأنه يتلقى الورقة نظير دفع قيمتها لمن نقلها إليه وبالتالي فطبيعي أن يكون له حق جدير بالحماية نظير ما دفع [6] ، كما أن الورقة إذا ما انتقلت إلي الحامل بأي طريقة أخري خلاف التظهير فإنها لا تطهر من الدفوع مثال إذا وصلت إلي الحامل بطريق الوصية أو الميراث حيث يعتبر الوارث أو الموصي له خلفاًُ خاصاُ للموصي أو المورث [7] .
الشرط الثاني :حسن النية:
أي أن يكون حامل هذه الورقة الذي يستفيد من هذه القاعدة حسن النية, حيث أن هذه القاعدة إنما قررت لحماية الحامل حسن النية لأنه جدير بهذه الحماية [8] ، ولذلك فقد اشترط حسن نية الحامل لإعمال قاعدة تطهير الدفوع, ويعتبر حسن نية الحامل مفترض إلي أن يثبت المدين عكس ذلك بكافة طرق الإثبات.
ومع ذلك فإذا كان الحامل سيء النية فان القاعدة لا تنطبق في حقه ويمكن للمدين مواجهته بالدفوع التي كان عليه أن يواجه بها الدائن السابق, إلا أن مفهوم حسن النية وسوء النية كان محلاُ لاختلاف حول المقصود بسوء النية وحسنها حول إذا ما كان المقصود بسوء النية هو مجرد علم الحامل الجديد بهذه الدفوع، وهو ما ذهب إليه رأي من الفقه, في حين يذهب رأي آخر إلي سوء النية إنما يقصد به تواطؤ الحامل مع الدائن السابق.
وعلى ذلك فإننا سنعرض فيما يلي إلي كل من الرأيين ثم نتحدث عن رأي اتفاقية جنيف ومن ثم موقف المشروع الفلسطيني التجاري.
1- الاتجاه الأول:
يذهب هذا الاتجاه إلي أن الحامل يكون حسن النية إذا لم يكن يعلم بوجود العيوب المتعلقة بالورقة التجارية، وقت تظهير الكمبيالة إليه، فإذا كان يعلم بوجود العيوب المتعلقة بالورقة التجارية وقت تظهير الكمبيالة إليه فإذا كان يعلم بها فانه يعتبر سيء النية, كما أن حسن النية يعد مفترض طبقاُ للقواعد العامة وعلي مدعي سوء النية إثبات ذلك، عن طريق إثبات علمه بالدفوع وقت تظهير الكمبيالة، وفي ذلك تخفيف عنه لأنه لا يثبت إلا مجرد العلم ولا يثبت الغش أو التواطؤ أو قصد الإضرار [9] .
2-الاتجاه الثاني:
أنصار هذا الاتجاه لا يكتفون بالعلم الفعلي, بل يستلزمون إثبات أن الحامل عند تلقيه الكمبيالة كان متواطئا مع من ظهرها إليه, وقصد كلاهما من نقل الملكية حرمان المدين الصرفي, من الدفوع التي كان يمكن له التمسك بها لو بقيت الكمبيالة في يد حاملها السابق, فقصد الإضرار بالمدين في هذا الاتجاه يتوفر لهذا الحامل الجديد والمظهر وذلك بتجريد المدين من وسائل دفاع التي كان يمكنه استخدامها لو لم تتم عملية التظهير، وهذا الاتجاه يضع عبئاُ ثقيلاُ علي المدين المصرفي إذ يتعين عليه إثبات وجود التواطؤ ولا يكفيه إثبات العلم أو حتى إثبات قصد الإضرار.
3-موقف اتفاقية جنيف :
ثارت هذه الاتجاهات أثناء المناقشات التي دارت في جنيف لإعداد قواعد دولية موحدة وقد توصلت هذه الاتفاقية إلي حل وسط بين الاتجاهين، حيث لم تأخذ بالرأي الأول الذي يسوى بين سوء النية ومجرد العلم لما في ذلك من إرهاق للحامل الجديد, كما لم تأخذ بالاتجاه الثاني وهو الذي يستلزم التواطؤ لإجحافه بالمدين الصرفي ويلقي عليه حمل ثقيل هو إثبات التواطؤ بين الحامل الجديد والمظهر، و خرجت الاتفاقية بمعيار جديد فاستبقت علي العلم من الرأي الأول ولكن ليس العلم المجرد وإنما أخذت من الاتجاه الثاني قصد الأضرار فخرج المبدأ القائل بان سوء نية الحامل يكون عندما يقصد الإضرار بالمدين،
وسار متأثراُ باتفاقية جنيف قانون التجارة المصري الحديث الذي نص في المادة 397 على ما يأتي ( ليس لمن أقيمت عليه دعوى الكمبيالة أن يحتج على حاملها بالدفوع المبنية على علاقته الشخصية بساحبها أو بحامليها السابقين, ما لم يكن قصد الحامل وقت حصوله علي الكمبيالة الإضرار بالمدين ) وهي تطابق نص المادة 17 من قانون جنيف الموحد وهذا ما اخذ به مشروع القانون التجاري الفلسطيني في المادة 397 وكذلك المشرع الأردني في المادة 147.
المطلب الثالث :الدفوع التي لا يطهرها التظهير
هناك دفوع يستطيع المدين التمسك بها في مواجهة حامل الورقة حتى لو كان حسن النية ومنها:
1- الدفوع المستمدة من شكل الكمبيالة:
لأن الحامل هنا يفترض علمه بها حيث أن ظاهر الورق يوحي بها, فلا يعذر بجهله بها مهما كان حسن النية [10] , وذلك لأن العيب ظاهر وواضح يمكن تبينه بمجرد الإطلاع علي الورقة , وليس في ذلك أي مفاجأة لحامل الورقة حيث من السهل عليه اكتشاف العيب , كما أن التظهير الناقص يعد تظهيراُ توكيلياُ وبالتالي لا يطهر الورقة من الدفوع [11] , كما أن هناك من يري أن العيب الشكلي الذي قد يشوب الورقة التجارية يعتبر في واقع الأمر داخلا في كل علاقة صرفية تنشا عنها مما يمكن القول معه بان الدفع المتعلق بشكل الورقة أو مضمونها هو دفع عام مشترك في كل العلاقات الناشئة عن الورقة [12] .
وأفضل مثال للدفع المستمد من شكل الكمبيالة هو عدم توافر بعض البيانات الإلزامية حيث أن المشرع ينزع صفة الكمبيالة عن الصك الذي لا يستوفي البيانات الإلزامية ولا شك أن فوات بيان من هذه البيانات أمر ظاهر لا يمكن جهله, إما ادعاء عدم العلم بلزومه فهو يدخل في مفهوم الجهل بالقانون وهو عذر لا يعتد به [13] .
2- الدفوع المبنية علي بطلان الالتزام الصرفي:
وهذا يكون في بعض الحالات وهي الدفع بانعدام أو نقص الأهلية فالشخص عديم الأهلية أو ناقصها يستطيع أن يتمسك ببطلان التزامه في مواجهة أي دائن يطالبه بقيمة الورقة التجارية, وذلك يعود إلي حماية ناقص الأهلية علي اعتبار أن مصلحته أولي بالحماية من الحامل [14] , حيث أن المشرع المصري نص علي بطلان الالتزامات الصرفية لناقص الأهلية الذي ليس تاجراً ولكنه جعل هذا البطلان مقصورا عليه حيث نصت المادة 386 من القانون التجاري المصري علي أن ( إذا حملت الكمبيالة توقيعات أشخاص ليس لهم أهلية الالتزام بها .. فان التزامات غيرهم من الموقعين تبقي صحيحة ) إلا انه إذا حاول ناقص الأهلية إخفاء نقص أهليته بطرق احتيالية فانه يمكن للحامل الرجوع عليه بعيدا عن قانون الصرف ومطالبته بالتعويض [15] .
3- الدفع بتزوير التوقيع:
من زور توقيعه علي كمبيالة سواء بصفته ساحباُ أو مظهرا أو ضامناً أو قابل أو بأي صفة أخري يستطيع الدفع بهذا التزوير في مواجهة الحامل حتى لو كان يجهل بأمر التزوير, لان المشرع يولي الاهتمام لحماية هذا الشخص باعتباره مجنياُ عليه في جريمة تزوير, مع مراعاة أن الدفع بالتزوير قاصر علي صاحب التوقيع المزور, فلا يستطيع موقع آخر الاستفادة من ذلك إعمالا لمبدأ استقلال التوقيعات الذي نصت عليه المادة 386 مصري ( إذا حملت الكمبيالة توقيعات مزورة فان التزامات غيرهم من الموقعين تبقي مع ذلك صحيحة ) ويقابلها المادة ( ) في مشروع القانون التجاري الفلسطيني, ويوضح ذلك أكثر نأخذ مثال أن شخصاُ سحب كمبيالة ووقعها بتوقيع نسبه زوراُ إلي (أ) وكانت مسحوبة لصالح (ب) فان (أ) يستطيع الدفع بتزوير توقيعه في مواجهة (ب) فإذا تم تظهيرها ل (ج) فيظل ل (أ) إمكانية التمسك بالتزوير في مواجهة (ج) ولكن لو رجع (ج) علي (ب) فلا يملك الأخير الدفع بتزوير توقيع (أ) عملاُ بمبدأ استقلال التوقيعات [16] .
4-الدفع بانعدام النيابة أو تجاوزها:
تجوز النيابة في سحب الأوراق التجارية أو تظهيرها، ولكي تترتب الآثار علي ذلك يجب إبراز صفة النيابة والتزام النائب لحدود نيابته, فإذا ما تجاوز هذه الحدود أو ثبت عدم وجود النيابة أصلاُ, فان تصرف مدعي النيابة لا يلزم الأصيل لأنه يعتبر هنا كمن زور توقيعه, ولذلك يمكن لها الدفع بذلك حيث لا تطهر الورقة التجارية من الدفع بهذه الحالة, وقد عالج المشرع المصري هذه الحالة بتبني قواعد قانون جنيف الموحد والتي جعلت مدعي النيابة أو النائب الذي يتجاوز سلطاته يتحمل قيمة الكمبيالة فإذا أوفاها تأول إليه الحقوق التي كانت ستؤول إلي من ادعي النيابة عنه, وهذا آخر واضح من المادة 389 من القانون التجاري المصري.
5- الدفوع المتصلة بالعلاقة الشخصية التي تربط الحامل بالمدين الصرفي:
فلو أصبح المسحوب عليه القابل دائناُ للحامل الأخير ثم جاء هذا الحامل مطالباُ إياه بقيمة الكمبيالة فيمكنه التمسك بالمقاصة في مواجهته [17] , وفي هذه الحالة لا تنطبق قاعدة تطهير الدفوع علي العلاقة المباشرة بين المدين بالورقة التجارية وحاملها , فالدفوع الناشئة عن العلاقة التي تربط الحامل شخصياً بالمدين ( سواء كان الساحب أو المسحوب عليه أو أحد المظهرين ) لا يطهرها تظهير الورقة التجارية، فإذا كان المدين بالكمبيالة دائناُ لحامل الصك بناء علي علاقة خارجة عن نطاق الكمبيالة فانه يستطيع مطالبة الحامل بالمقاصة بدينه كما يحق للمسحوب عليه رغم توقيعه علي الصك أو علي الورقة التجارية بالقبول أن يرفض الدفع إذا لم يكن لديه مقابل الوفاء وظل الساحب هو نفسه حامل الصك لعدم وجود سبباُ لالتزامه [18] .
المطلب الرابع : الدفوع التي يطهرها التظهير
وفيما يلي نضع بين أيديكم نماذج للدفوع التي يطهرها التظهير :
1-الدفوع المبنية علي عيوب الإرادة:
قد يحدث أن يتم التوقيع علي الورقة التجارية تحت تأثير عيب من عيوب الإرادة مثل الغلط أو التدليس أو الإكراه أو الاستغلال، فانه يجوز لمن عابت إرادته أن يتمسك بهذا الدفع في مواجهة الحامل الذي اتصل به عيب الإرادة, ولكن إذا ما تم تظهير الورقة التجارية إلي آخر فانه لا يستطيع أن يتمسك بهذا الدفع القائم علي عيب الإرادة في مواجهته، لان التظهير قد طهر هذه الورقة من الدفوع التي تنشا من العلاقة مع الحامل السابق، ولكن بشرط حسن نية الحامل الجديد، ويسوى الفقه بين جميع عيوب الإرادة في هذه النتيجة, وان كان البعض يري ضرورة استثناء الإكراه الملجأ الذي تنعدم معه الإرادة كالحصول علي التوقيع عن طريق القصر المادي [19] .
2- الدفوع المبنية علي انعدام سبب التزام الموقع علي الورقة أو عدم مشروعيته:
إذا ما وقع علي كمبيالة أو ورقة تجارية أخري بدون سبب أو إيفاء بدين قمار أو دفع قيمة صفقة مخدرات مثلاُ, فانه لا يمكن الاحتجاج بهذا الدفع إلا قبل الحامل الذي قصد الإضرار بالمدين والذي كان يعلم بعدم مشروعية السبب, أما الحامل الآخر حسن النية فانه لا يمكن للمدين الدفع بانعدام السبب أو عدم مشروعيته في مواجهته, حيث لا يضره أن يكون الالتزام له سبب مشروع طالما أن القانون يفترض في كل التزام أن له سبباُ مشروعاُ ما لم يقم الدليل علي عكس ذلك [20] .
3- الدفوع المبنية علي فسخ العلاقة الأصلية:
في الغالب ما يكون التوقيع علي الورقة التجارية وسيلة لتنفيذ التزام سابق ناشئ عن علاقة أصلية, فقد تكون هذه الورقة التجارية عبارة عن ثمن لبضاعة معينة في علاقة بيع بين الموقع والحامل ( المستفيد ) فإذا ما ظهرت هذه الورقة إلي حاملين آخرين ثم فسخت العلاقة الأصلية وهي في هذا المثال عقد البيع فان ذلك لا يجد له أثراُ بالنسبة للحامل إذ انه يبقي غريباُ عن هذه العلاقة الأصلية, وان حقه مرتبط بالورقة التجارية التي تعتبر هي مصدر الحق الموجود فيها وليس العلاقة الأصلية, فلا يملك المدين الدفع بانقضاء العلاقة الأصلية في مواجهة هذا الحامل, وينسحب ذلك علي كل أسباب بطلان العلاقة الأصلية مثل عدم مراعاة الشكل القانوني أو انعدام المحل… الخ [21] .
خاتمة :
وهكذا نكون قد تناولنا قاعدة تطهير الدفوع في الأوراق التجارية فتعرضنا
– لتحديد مفهومها و تبين لنا أن هذه القاعدة هي من القواعد التي رسخها العرف التجاري، وعملت بها المحاكم قبل أن تنص عليها التشريعات الحديثة، ومضمون هذه القاعدة أن المدين بالورقة التجارية لا يستطيع أن يدفع في مواجهة حاملها بما كان يمكنه أن يدفع به في مواجهة الحاملين السابقين.
– إن قاعدة تطهير الدفوع تعتبر خروجا عن القواعد العامة في القانون المدني ذلك أن مضمون الحوالة في القانون المدني يعني أن الحق ينتقل من المحيل إلى المحال إليه محملا بكافة دفوعه وضماناته، حيث يستطيع المدين أن يدفع في مواجهة المحال إليه بكل الدفوع التي كان يمكنه أن يدفع بها في مواجهة الدائن الأصلي (المحيل).
– إن اعتبارات القانون التجاري جعلت من قاعدة تطهير الدفوع استثناءا على قواعد القانون المدني، حماية للمدين وحتى لا يفاجأ بدفوع لا علم ولا علاقة له بها.
– و لكن القاعدة لم تترك هكذا بل وجدت شروط لتطبيقها وهي أن يكون التظهير ناقلا للملكية، فلا يكفي التظهير التوكيلي أو التأميني لتطهير الورقة التجارية من الدفوع، وكذلك لابد أن يكون الحامل الجديد حسن النية أن لم يقصد الإضرار بالمدين.
– وكذلك أيضا فإن هناك دفوع لا تخضع لهذه القاعدة حيث يمكن الدفع بها حتى ولو كان الحامل حسن النية مثل الدفوع المستمدة من شكل الكمبيالة، والدفع بتزوير التوقيع، والدفع بانعدام النيابة أو تجاوزها، والدفع المتصل بالعلاقة الشخصية التي تربط الحامل بالمدين الصرفي.
– وهناك دفوع يطهرها التظهير مثل الدفع المستمد من بطلان العلاقة الشخصية، والدفوع المستمدة من عدم المشروعية وانعدام السبب، والدفوع المستمدة من عيوب الإرادة.
والله ولي التوفيق .
الهوامش :
انظر في هذا المعني مصطفي كمال طه – الأوراق التجارية والإفلاس – دار الجامعة الجديدة للنشر – سنة 1997- ص 73 فقرة 94 [1]
[2] انظر في هذا المعنى فاروق احمد زاهر- دروس في القانون التجاري – دار النهضة العربية – ص76
[3] علي جمال الدين عوض – الأوراق التجارية – دراسة للقضاء – مطبعة جامعة القاهرة سنة 1995 ص 59 فقرة 68
[4] حمدي بارود ص3 – مرجع سابق
[5] مصطفي كامل طه – ص78 فقرة 100 – مرجع سابق
[6] علي جمال الدين عوض – ص61 فقرة 69 مرجع سابق
[7] فوزي محمد سامي شرح القانون التجاري الجزء الثاني الأوراق التجارية مكتبة دار الثقافة النشر والتوزيع عمان سنة 1997 م ص145
[8] محمود الكيلاني – القانون التجاري- الأوراق التجارية- المطابع التعاونية- عمان- سنة 1994 ص73
[9] مختار بريري قانون المعاملات التجارية الجزء الثاني – الإفلاس – الأوراق المالية دار النهضة العربية سنة 2000 ط1 ص317 فقرة 336 وهذا ما كان يأخذ به القانون المصري القديم
[10] حمدي بارود – مرجع سابق ص 33
[11] سميحة القليوبي – مرجع سابق – ص90
[12] فاروق أحمد زاهر – دروس في القانون التجاري المصري – الكتاب الثاني – الجزء الأول – الأوراق التجارية والإفلاس – دار النهضة العربية – سنة 95 – ص79
[13] مختار بريري – مرجع سابق – ص326 ف 346
[14] مصطفي كمال طه – مرجع سابق – ص 76
[15] مختار بريري – مرجع سابق – ص 330 ف 346
[16] مختار بريري – مرجع سابق – ص 327 وكذلك سميحة القليوبي – مرجع سابق ص 91
[17] حمدي بارود – مرجع سابق – ص33
[18] زكي زكي الشعراوي – الوجيز في القانون التجاري – الجزء الأول – الطبعة الخامسة – دار النهضة العربية – ص 183
[19] أشار إليه مصطفي كمال طه – مرجع سابق – ص77 وكذلك أشار إليه مختار بريري – مرجع سابق – ص 334
[20] فوزي محمد سامي – شرح القانون التجاري – الجزء الثاني في الأوراق التجارية – مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع عمان – سنة 1997 – ص143
[21] مصطفي كمال طه – مرجع سابق – ص77
لماذا لا تكون اول معجب
بحث قانوني عن التحكيم في العمليات المصرفية .
د. موسى خليل متري
رئيس قسم القانون التجاري
كلية الحقوق – جامعة دمشق
مخطط البحث
أولاً – ماهية العمليات المصرفية:
1- ميزات العمليات المصرفية :
أ – المقصود بالعمليات المصرفية
ب- خصائص العمليات المصرفية
ج- تطبيق قانوني خاص للعمليات المصرفية
2- الصعوبات التطبيقية أما م القضاء:
أ – في بيان الخصائص وتطبيقها
ب- في مفهوم الفائدة
ج- في العمليات المصرفية الإسلامية
ثانياً – ضرورة التحكيم في العمليات المصرفية:
1- إيجابيات وسلبيات التحكيم
أ – التحكيم نظام قضائي خاص
ب- ميزات التحكيم بالمقارنة مع القضاء
ج- المآخذ على التحكيم
2- أسس التحكيم المصرفي:
أ- شرط التحكيم في العقود المصرفية.
ب- المؤسسة التحكيمية
ج- تنفيذ فرارات التحكيم في النزاعات المصرقية
خاتمة
التحكيم في العمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول
ملـــــخص
هل يمكن التحكيم في العمليات المصرفية ؟
رفضت المصارف بشكل عام اللجوء إلى التحكيم نظراً لوجود مآخذ عديدة عليه ترفع من نسبة المخاطر القضائية والقانونية والتي تعتبر من مخاطر العمل المصرفي.
في الدول ذات الاقتصاد المتحول والتي اتجهت من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وجدت المصارف إن نسبة المخاطر القانونية والقضائية باللجوء إلى القضاء الوطني مرتفعة أيضاً.
لذلك كان لابد من دراسة خصائص العمليات المصرفية والصعوبات التي يواجهها القضاء في حل النزاعات المصرفية قبل تناول سيئات وإيجابيات التحكيم من أجل الوصول إلى نظام نحكيمي للعمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول. إيجاد هذا النظام أصبح ضرورة مرحلية بشرط إيجاد نظام يتجاوز المآخذ التي يقدمها المصرفيون على التحكيم وأهم الشروط هي إيجاد هيئة عامة تابعة للمصرف المركزي تهتم بالتسويات وحل النزاعات المصرفية بين المصارف بين بعضها البعض وبين المصارف من جهة والعملاء من جهة أخرى على أن تمنح هذه الهيئة التحكيمية صلاحيات قضائية لجهة إيقاع الحجز الاحتياطي وتنفيذ قراراتها التحكيمية كقرارات قضائية وغيرها.
Arbitration in the Banking Operation.
Abstract
Could banks refer any litigation concerning theirs banking operation to Arbitration?
In general, banks prefer to have judicial system that apply clear rules and have a well established jurisprudence.
Nevertheless, in emerging economy, banks suffer from the lack of understanding of the judicial system of the banks operations. The specificity of the banking contracts are disregarded by judges. Moreover, the Islamic banks systems are totally ignored.
To avoid the risk of the legal and judicial system in the countries of emerging economy, Arbitration becomes a necessity. Then, the advantages of the arbitration should be kept and solutions to disadvantages should be found. The solutions are at three levels: drafting arbitration clause, establishing an institution of arbitration within the Central Bank and given the arbitration awards the same effect of judicial judgments.
التحكيم في العمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول.
مقــــدمة
مع بداية القرن الحادي والعشرين انتقلت سورية من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وأحد مظاهر هذا التحول تمثل بفتح السوق السورية المصرفية للقطاع الخاص حيث صدر في عام 2001 القانون رقم 28 تاريخ 16/4/2001 الذي سمح بتأسيس مصارف خاصة في سورية، وترافق معه القانون رقم /29/ تاريخ 16/4/2001المتعلق بالسرية المصرفية والذي عدل بموجب المرسوم التشريعي رقم /34/ تاريخ 1/5/2005وتلاه المرسوم التشريعي رقم /35/ تاريخ 4/5/ 2005 لعام 2005 الذي سمح بإحداث مصارف إسلامية.
تهافتت المصارف العربية إلى سورية وكان أحد المخاطر الرئيسية لديها المركز القانوني والقضائي للمصرف في سورية بعد غياب العمل المصرفي الحر عنها لمدة تقارب الـ 40 عاماً.
هذه المخاطر تمثلت في كيفية تجاوز الصعوبات القانونية العديدة وأهمهما:
– ضرائب مرتفعة.
– رسم طابع مرتفع نسبياً.
– نظام محاسبي مغيب.
– تدقيق حسابات ضعيف.
– قانون ينتمي إلى المدرسة الفرنسية التي تحمي المدين.
– قضاء غير خبير بالخلافات المصرفية وندرة في الاجتهادات.
– قضاء لم يتم إعداده علمياً وعملياً على خصائص العمليات المصرفية وعلى فهم السوق المصرفية.
– جهل في العمل المصرفي الإسلامي وآلياته.
إضافة إلى عدد آخر من المصاعب التي ترفع من نسبة مخاطر العمل المصرفي وبالتالي إلى ضعف العروض المصرفية وانكماش في التنافس …. الخ.
لذلك بدأت المصارف، المعروف عنها عدم حبها للتحكيم بسبب مآخذ عديدة عليه، تطرح السؤال التالي : هل يمكن تجاوز بعض هذه المخاطر القانونية القضائية باللجوء إلى التحكيم ؟
الجواب على هذا السؤال يستدعي البحث في ماهية العمل المصرفي على مستوى العلاقة بين البنك والعميل (أولاً) قبل تناول ضرورة اللجوء إلى التحكيم كمرحلة لابد منها في الدول ذات الاقتصاد المتحول (ثانياً) آخذين سورية كمثال عملي وعلمي بخاصة وأنها بلد له تاريخ عريق في القانون والقضاء ومتميز بالموارد البشرية إلا أنه مغّيب عن العمل المصرفي الحديث.
أولاً – ماهية العمليات المصرفية:
تحكم العمل المصرفي مجموعة من القواعد القانونية الموجودة في عدد من القوانين مثل القانون المدني والقانون التجاري وقانون العقوبات وقانون السرية المصرفية وقانون تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب إضافة إلى أعراف مصرفية مستقرة وتعليمات تصدر عن المصرف المركزي واتحاد المصارف … الخ.
أمام هذا التنوع في مصادر القوانين المطبقة على العمليات المصرفية، أخذت مجموعة من الفقهاء تبحث في إيجاد قواعد قانونية تهتم بالعمليات المصرفية بحد ذاتها نظراً لخاصيتها (1) ونظراً للتطبيقات القضائية الخاطئة (2).
1- خصائص القواعد القانونية المصرفية:
للعمليات المصرفية ميزات لا توجد في غيرها من الأنشطة التجارية. لذا لابد من تحديد مفهوم العمليات المصرفية قبل تناول خصائصها واحتياجاتها القضائية الخاصة.
أ – مفهوم العمليات المصرفية:
هل يوجد تعريف واضح وشامل لها ؟ هل عمل المصارف مستقر منذ أمد أم أن الصناعة المصرفية بتطور مستمر ؟
البحث عن تعريف قانوني شامل للعمليات المصرفية عمل غير مضمون النتائج بخاصة وأن الصناعة المصرفية كنشاط اقتصادي في تطور مستمر والابتكارات المصرفية مستمرة من يوم إلى آخر. فماهو المقصود بالعمليات المصرفية.
1ً- تقليدياً:
في مدرسة السوابق القانونية Common Law عدد من الاجتهادات التي حاولت تعريف العمليات المصرفية والمصارف أكثر هذه التعاريف دقة هو التعريف الذي قدمه اللورد ديننغ Lord Denning في الدعوى التي قامت بين
United Dominions Trust Ltd. Vs Kirkwood حيث ذهبت المحكمة إلى تحديد الصفات الواضحة للعمل المصرفي التقليدي بقولها : “توجد صفتان عادةً في المصارف حالياً –i- تقبل المصارف الأموال من وتدفع الشيكات للعملاء وتضعها في الاعتمادات الممنوحة لهم –ii- يسددون قيمة الشيكات أو أوامر الدفع المسحوبة عليهم من قبل عملائهم ….. هاتان الصفتان تحملان معهما صفة أخرى تتمثل في مسك الحسابات الجارية أو ما يشابهها في دفاترهم حيث يتم تسجيل الدفعات الداخلة والخارجة من الحساب[1].
أما في القانون الفرنسي، فقد عرفت المادة الأولى من القانون الصادر بتاريخ 13/6/1941 المصارف بأنها الشركات والمؤسسات التي تتخذ مهنة لها إيداع الأموال للجمهور واستخدام الأموال لحسابات الغير في عمليات قطع ومنح قروض عمليات مالية”[2].
أما في الفقه فقد تم تعريف “المصرفي” من قبل الفقيهين الفرنسيين Roblot et Ripert كما يأتي: “المصرفي هو تاجر يضارب على الأموال وعلى القروض وهو لا يساهم بشكل مباشر بإنتاج أو توزيع أو انتقال الثروات ولكن يساعد الصناعيين والتجار في استثماراتهم”[3]
مما تقدم نستنتج أن عمل المصارف تقليدياً يقوم على:
– الحصول على مال من الجمهور.
– إقراض المال للغير.
– تنفيذ أوامر الدفع من شيكات وحوالات وغيرها.
2ً- حديثاً :
الأعمال التقليدية الثلاثة للمصارف التجارية (والتي تدعى بالعامية مصارف المفرق) كانت بعيدة في سوق لندن (أكبر أسواق المصارف بالعالم) عن مصارف الاستثمار التي تعمل في التجارة الدولية وتقوم بتمويل المشاريع وتمنح الضمانات المصرفية للحكومات وغيرها.
في الثمانينات من القرن الماضي بدأت المصارف في مختلف أرجاء العالم وتحت ضغط المصارف الكبرى الأمريكية واليابانية تتأثر بالمدرسة الألمانية ، حيث نشطت منذ القرن التاسع عشر المصارف الشاملة وبدأت المصارف في كل أوروبا بتقديم خدمات مصرفية شاملة تشمل العمليات التقليدية وتمويل المشاريع وإقراض الدول واتحاد عدد من المصارف لعملية إقراض كبيرة Syndicated loan حتى أنها بدأت بتقديم خدمات التامين إلى جانب الضمانات المالية للحكومات وغيرها من الشركات الكبرى.
هنا بدأت مشكلة تعريف المصرف والعمليات المصرفية حيث أصبح إيجاد تعريف شامل جامع يميز العمليات المصرفية عن غيرها من العمليات المالية والتمويلية … الخ. عمل شائك وبالغ الصعوبة بصفة عامة يمكن القول أن البنوك الشاملة هي البنوك التي لم تعد تنفيذ بالتخصص التقليدي للأعمال المصرفية ” بل أصبحت تحد نشاطها إلى كل المجالات والأقاليم والمناطق وتحصل على الأموال من مصادر متعددة”[4] ومنها أعمال الاستثمار هذا التعريف الفقهي لم يجد له أثراً في القانون الوضعي حيث لجأت القوانين الحديثة إلى تعداد العمليات المصرفية (القانون السوري رقم 28 لعام 2001) أو إلى تعريف المصرف على أنه الشخصية الاعتبارية التي تعترف لها السلطة المعنّية بالصفة المصرفية [5] . أي أن القوانين الوضعية فشلت في إعطاء تعريف جامع شامل مميز وموضوعي للمصارف والعمليات المصرفية.
ب- خصائص العمليات المصرفية:
أمام ضعف التعريف أصبح من الضروري تحديد ميزات العمليات المصرفية والتي يمكن جمعها بالتالي:
1ً- الصفة التجارية،فأغلب، إن لم يكن كل، دول العالم منحت العمليات المصرفية الصفة التجارية بحكم ماهيتها بغض النظر عن القائم بها (المادة 6/د من قانون التجارة السوري).
2ً- أنها ذات صفة تقنية تنظم الإجراءات المتبعة وتستخدم مصطلحات استقرت بالعمل المصرفي، هي ذات معان قد لا تتفق والمعنى اللغوي رغم أنها تفي بالأغراض التي توضح إرادة أطرافها بالموضوع المتفق عليه، عملاً بالقاعدة ” العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”.
3ً- إتباع البنوك من حيث الموضوع أسلوباً واضحاً في النماذج المصرفية كالعقود وغيرها من حيث الشكل والموضوع بحيث تكون العلاقة واضحة بين أطراف التعامل بعيدة عن اللبس والغموض وتصاغ بطريقة يسهل تفسير شروطها وتوضح ما يصبو إليه أطرافها في تعاملهم بطريقة قانونية مبنية على النظم التجارية والأعراف والعادات.
أما من حيث الشكل فلها شكل خاص تتبعه كافة المصارف ذات آثار خاصة كالتعامل بالأوراق التجارية وغيرها.
4ً- تعتمد كافة البنوك في نماذجها على أسلوب موحد قد يصفها البعض بأنها عقود إذعان رغم توضيحها لحقوق وواجبات كل من البنك وعملائه.
تأسيساً على الأسلوب الموحد لكافة النماذج ولعدم قيام البنوك بتعديل شروطها بالإضافة لحاجة العملاء السريعة لإتمام التعامل يتم توقيع العملاء لهذه النماذج دون دراسة الشروط أو الدراية بتفاصيلها.
5ً- تتميز القوانين المصرفية بأنظمة موحدة على المستوى الدولي كالاعتمادات والكفالات وبوالص التحصيل والنقل وغيرها مما يتعلق بالتجارة الخارجية بحيث لا تعطي العميل المجال لتغيير أو تعديل نصوصها المطبوعة لأنها نظم عالمية مقننة بواسطة مشرعي غرفة التجارة الدولية وتطبق بين كافة الدول العربية والأجنبية.
6ً- إن العمليات المصرفية تقوم دائماً على الاعتبار الشخصي أي على ثقة أطرافها ( أو هذا هو المفروض) وهذا يسهل العمليات. فالبنك ينظر إلى أخلاق عميله ومركزه المالي ليطمئن في تعامله معه كما أن الاعتبار الشخصي الذي ينتظره العميل من البنك هو نوع العمل والخدمة وحسن المعاملة والسرعة التي تختلف من بنك لآخر.
ونظراً لأهمية هذه الخصائص قامت بعض القوانين التجارية للدول العربية بتقنين العرف المصرفي بالإضافة للقرارات الهامة الناشئة عن اتحادات المصارف التي أصبحت مع الزمن مستقرة وقاعدة يستند إليها بكافة النزاعات في غياب التشريع الخاص بدلاً من أحكام القانون المدني أو التجاري.
ج- قواعد خاصة لتطبيق القانون المصرفي:
بالرغم من الخصائص المتقدمة للقواعد القانونية المصرفية وللعمليات المصرفية فإن هذه العمليات تخضع بحسب الأصل – للقواعد القانونية العامة – سواء في إبرامها أو في إثباتها أو تفسيرها، ولكن ظروفاً خاصة طوعت هذه القواعد بحيث جعلت لتطبيقها هنا أسلوباًَ خاصاً نذكر أهمها هنا.
1ً – في إبرام العقود المصرفية:
إن العقود المصرفية تنعقد بالتراضي شأنها شأن كل عقد أخر، يلزم فيه رضى البنك ورضى العميل. ويلاحظ في هذا السياق أن الإعلانات التي يذيعها البنك لا تعتبر إيجاباً بل مجرد دعوة للتفاوض بهدف التعاقد، ذلك أن العقود المصرفية ملحوظ فيها الاعتبار الشخصي وأن عبارة الإعلان تكون غير محددة بحيث أنها لا تعني كل عناصر التعاقد، وإنما قد يعتبر إيجاباً من البنك المطبوعات التي يقدمها للعملاء متضمنة عناصر التعاقد تفصيلاً.
ويكون رضى العميل غالباً بمجرد الموافقة على النموذج الذي يحرره البنك، ولذا يراه الشراح إذعاناً لتعذر مناقشة الشروط الجوهرية في العقد ولكونها تتشابه بين بنك وآخر، ولكون التعامل مع البنوك أصبح لا غنى عنه في الحياة الحديثة بل انه كثيراً ما يوقع العميل على بيان يفيد أنه اطلع على شروط معينة وأنه قبلها في حين انه لم يطلع عليها فعلاً أو أنه لم يفهم المراد منها ، وكثيراً ما يكون رضى العميل مستفاداً من مجرد تنفيذه التزامه الناشئ من العقد.
لابد لنا من وقفة هنا مع اعتبار العقود المصرفية عقود إذعان، أن مثل هذا القول على إطلاقه فيه الكثير من الإجحاف، وهو صحيح في بعض أنواع العقود وفي بعض الدول، ولكن في دول أخرى حيث هناك عدد كبير من المصارف المتنافسة والتي تعمل بأساليب مختلفة، فإنه لم يعد صحيحاً القول بأن الخدمة المقدمة واحدة ومتطابقة لدى جميع المصارف.
وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى أن عقد فتح الاعتماد لا يعتبر من عقود الإذعان[6].
2ً- إثبات العمليات المصرفية:
الأصل أن تثبت الأعمال المصرفية – بوصفها أعمالاً تجارية بكافة طرق الإثبات، ومع ذلك فاللجوء إلى الشهادة أو حلف اليمين أمر نادر. والغالب أن يحصل الإثبات من خلال النماذج المطبوعة التي يوقعها البنك والعميل، أو بالقيود التي تحصل في حساب العميل وترد في الكشوف الحسابية التي ترسل إليه دورياً، وقد يكون لبعض القيود قوة القرينة على وجود تصرف معين كاقتضاء البنك فوائد عما قدمه للعميل، فهو يفيد في إثبات القرض مثلاً . هناك بعض التصرفات لاتثبت إلا بشكل معين، ومن ذلك التصرفات التي ترد على الأسناد التجارية – (التظهير مثلاً يحتاج إلى الكتابة).
3ً- تفسير العمليات المصرفية:
يخضع تفسير العمليات للقواعد العامة المتبعة في تفسير الأعمال القانونية لكن مع مراعاة ظروف إبرام هذه العمليات والأهداف الاقتصادية المقصودة فيها، وهو ما قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى جعل عملية التفسير هنا أصعب من تفسير العقود المدنية وتفصيل ذلك أن إرادة الطرفين قد لا تتفق مع الأسلوب أو الإطار الذي اتخذه الطرفان للوصول إلى هدفهما من العملية، فيكون ثمة محل للموافقة بين الأثر الذي اتجهت إليه الإرادة والأثر الذي ينتهي إليه الأسلوب الذي أفرغت فيه الإرادة، وهو أثر قد يفرضه الأسلوب المتخذ وان كان أحد الطرفين لم يكن يريده، لهذا نرى أن القضاء كثيراً ما يستعين بالعادة المصرفية وظروف إبرام العقود والهدف الاقتصادي الذي يستهدفه الطرفان للوصول إلى التكييف الصحيح للعمل، وبالتالي تحديد أثاره طبقاً للقواعد القانونية التي يجب أن تحكمه.
كذلك يجد القضاء صعوبة في تفسير العمل عندما يكون أمام حلقات متتابعة تنفيذاً لعملية واحدة تشارك في تنفيذها عقود متعددة فيضطر في مجموع هذه العقود لتفسير كل منها على حدة مع تقديره لوحدة الهدف الاقتصادي. (كما في الاعتماد المستندي).
فالقاضي ينظر إلى التزام البنك ويحدد مداه في نطاق عقد فتح الاعتماد وفي شروط هذا الاعتماد الصادر عن البنك، كما يقدر مدى التزام كل من الأطراف دون أن يغفل التزامات الأطراف الأخرى، رغم أن كلاً من هذه العلاقات تكون من الناحية القانونية مستقلة عن بعضها البعض.
لذلك نستطيع القول أن تعدد عمليات البنوك وتعقدها وظروف نشأتها والأسلوب الذي يتخذ لتحقيق الأهداف المطلوبة منها يجعل تكييف هذه العمليات وتفسيرها مختلفاً من حيث الروح التي تسيطر على القاضي فيها والاعتبارات التي عليه احترامها، وإن لم يجعل هذا التفسير مختلفاً قانونياً عما هو متتابع بالنسبة لأعمال القانون المدني وذلك عملاً بأحكام المادة 409 من قانون التجارة السوري والتي تنص على أن ” العمليات المصرفية غير المذكورة في هذا الباب تخضع لأحكام القانون المدني الخاصة بالعقود المختلفة الناجمة عن العمليات المذكورة أو العقود التي تتصف بها هذه العمليات “.
على أن العقد في القوانين الوضعية في سوريا وفي الاجتهادات التطبيقية لتفسير العقود والعمليات المصرفية يجعلنا نتبنى ما ذهب إليه الأستاذان Ripert و Roblot[7] وبخاصة لجهة إلزام القاضي بالنظر أولاً في الإرادة المشتركة للطرفين، سواء في تكييف العقد أو في تحديد مضمونه، وثانياً بإعادة النظر في اتفاق الطرفين لملاءمته مع الهدف الاقتصادي المطلوب من العقد ويفترض عندئذ أنهما قبلا كل الآثار المعتادة التي تقررها العادات المصرفية للأداة التي استخدماها كما يراعي أن ثمة أدوات ترتب أثاراً خاصة وحتمية كالأسناد التجارية وهذه الآثار تتداخل مع ما أراده الطرفان.
2- في الصعوبات التطبيقية أمام القضاء:
أظهرت الخبرة العملية أن القضاء في دول ذات الاقتصاد المتحول عانت من صعوبات جمة في فهم العمليات المصرفية الحديثة وتجلّت هذه الصعوبات في ثلاثة مظاهر مهمة تتعلق في تطبيق خصائص العمل المصرفي وفي مفهوم الفائدة وفي العمليات المصرفية الإسلامية.
أ – صعوبات في تطبيق الخصائص المصرفية:
مثالان عمليان يتعلقان بالكفالة المصرفية والاعتماد المستندي إضافة إلى قواعد الإثبات في العمليات المصرفية.
1ً- في التفسير:
لجأت بعض المحاكم السورية عند النظر بدعوى تتعلق باعتماد مستندي إلى ربط عقد الاعتماد بعقد التوريد أو البيع الذي فتح من أجله علماً بأن المادة /3/ من القواعد الموحدة للاعتمادات المستندية 500 والتي تطبق في جميع دول العالم تنص على استقلال الاعتماد المستندي عن أي عقد آخر تم فتح الاعتماد من أجله مما أربك المتخاصمين في بعض الأحيان.
والسؤال الذي طرح نفسه أمام القضاء يتعلق بالتكييف القانوني للقواعد الموحدة للاعتماد المستندي فهي ليست باتفاقية دولية لكنها مطبقة من الغالبية العظمى المصارف في دول العالم إن لم تكن جميعها.
لذلك يمكن تكييف القواعد الموحدة للاعتماد المستندي على أنها عرف دولي خاص بالاعتمادات المستندية والعرف التجاري وفقاً للمادة /4/من قانون التجارة السوري واجب التطبيق عند تحديد آثار العمل التجاري حيث نصت المادة 4/أ على ما يأتي: “على القاضي، عند تحديد آثار العمل التجاري، أن يطبق العرف المتوطد …”. ومع ذلك كانت هنالك تطبيقات خاطئة للاعتمادات المستندية وتفسيرها.
2ً- في الإثبات:
العمليات المصرفية التي تعتمد على التقنيات الحديثة مثل إرسال الحوالات عبر الرسائل القصيرة بالهاتف الجوال والحوالات عبر السويفت تعاني من مشاكل الإثبات بخاصة وأن النقاش دار مع عدد من القضاة المترأسين للغرف التي تبت بالخلافات التجارية حيث نشأ خلاف حاد حول إمكانية الاتفاق على قواعد إثبات غير واردة في قانون البينات السوري. فالبعض وافق على إمكانية اتفاق أطراف علاقة تعاقدية حول إثبات تنفيذ التزاماتهم بسجلات إلكترونية بالرغم من عدم صدور قانون المعاملات الإلكترونية والبعض الآخر أصر على عدم جواز إيجاد وسائل إثبات جديدة لم ينص عليها قانون البينات وبالتالي لابد بهكذا نوع من العمليات المصرفية من اللجوء إلى الخبرة.
اللجوء إلى الخبرة لا يمكن أن يكون مصدر استقرار قضائي لأن المادة /155/ من قانون البينات تنص على أن “رأي الخبير لا يقيد المحكمة”.
وبالتالي يمكن للقاضي الخروج عنه مما يؤدي إلى صعوبة الركون إلى الخبرة في إثبات عدد من العمليات المصرفية.
ب- في الفائدة :
مفهوم الفائدة والفائدة المصرفية مازال غير واضح المعالم في القضاء السوري وفقاً لما يأتي:
1ً- الفائدة في القانون:
توافقاً مع الشريعة الإسلامية التي منعت الفائدةجاءت المادة /227/ من القانون المدني لتلزم المدين المتأخر بتسديد دينه بدفع فائدة على سبيل التعويض مقدارها 4% بالدين المدني و5% بالدين التجاري.
وسمحت المادة /228/ من القانون المدني للأطراف المتعاقدة الاتفاق على مقدار فائدة لا يتجاوز مقدارها الـ 9% ودائماً ضمن مفهوم الفائدة على سبيل التعويض.
أجازت المادة /232/ المطالبة بتعويض تكميلي إذا أثبت الدائن أن الضرر الذي يجاوز الفائدة قد تسبب فيه المدين بسوء نية.
وبالتالي لا يجوز التعويض بأكثر من 9% من مقدار الدين كفائدة ما لم يثبت وجود ضرر إضافي إضافة إلى سوء نية المدين وقد استقر الاجتهاد على اعتبار حد الـ 9% من النظام العام الذي لا يجوز تجاوزه،لكن ما هو وضع الفائدة المصرفية.
2ً- الفائدة المصرفية:
نصت المادة 234 من القانون المدني على أن الفوائد التجارية التي تسري على الحساب الجاري يختلف نعدلها باختلاف الجهات ويتبع في طريقة حساب الفوائد المركبة في الحساب الجاري ما يقضي به العرف التجاري. هذه المادة تم تفسيرها بشكل ضيق للحسابات الجارية فقط مما استدعى صدور قانون خاص بتاريخ 2/4/1988( تحت ظل اقتصاد موجه) برقم /17/ أجاز تحديد معدلات الفوائد في جميع العمليات المصرفية الدائنة والمدينة بما يتجاوز الحد الأقصى المنصوص عليه في المادة /228/ من القانون المدني وترك أمر تحديد معدل الفوائد لمصرف سورية المركزي مجلس النقد والتسليف.
كما صدر عن محكمة النقض (الغرفة الجزائية) في معرض البت بدعاوى جزائية أساسها القانوني ” جرم المراباة” الذي يعاقب عليه بموجب المادة /647/ وما يليها من قانون العقوبات اجتهادات نصت على أن ” القرض المالي لغاية تجارية لا يؤلف قرضاً ربوياً ولو تجاوزت الفائدة المشترطة فيه الحد القانوني” حيث كانت الفائدة في هذه الدعوى 11%.
وفي دعوى أخرى كانت الفائدة 12% عطفت محكمة النقض على اجتهادها السابق.
بالرغم من وجود هذا النص، لجأت المحاكم المدنية الناظرة في النزاعات التجارية إلى إجراء الخبرة في كل دعوى يزعم فيها المدعى عليه المدين للمصرف بأن الفائدة المطبقة من قبل المصرف هي فائدة فاحشة بهدف تخفيض معدل الفائدة إلى 9% (والتي وردت كتعويض وليس كفائدة مصرفية).
يتضح مما سبق أن المحاكم التجارية لاتزال تطبق المادة /228/ من القانون المدني المتعلقة بالفائدة التعويضية وليس بالفائدة المصرفية على الرغم من صدور القانون رقم /17/ لعام 1988 وعلى الرغم من وجود اجتهادات لا تعتبر الفائدة التي حصلت إلى 12% ربا فاحشاً.
هذا التطبيق يقلق المصارف لجهة عدم الأخذ بنص قانوني صريح ولجهة حدود الفائدة التي تشكل ربا فاحشاً لأن الاجتهاد اعتبر أن نسبة 12% لا تشكل ربا فاحش لكنه لم يبين ما هي الفائدة التي تعتبر ربا فاحشاً هل هي 15% أكثر أم أقل ؟!!
3ً- الفائدة والعملة المتداولة:
في عدد من القضايا المصرفية الدولية، المدعي كان مصرفاً أجنبياً (لبنانياً أو فرنسياً أو قبرصياً) والمدعى عليه مقترض سوري امتنع عن تسديد دينه، فلجأ المصرف الأجنبي إلى القضاء السوري ظناً منه أن صدور قرار محلي أسهل بالتنفيذ من تنفيذ قرار صادر عن محاكم أجنبية.
أثناء المرافعة اصطدم المصرف بمفهوم الفائدة في سورية وكونها من النظام العام علماً بان القرض منح بالعملة الأجنبية ووفقاً لقانون أجنبي.
فهل اللجوء إلى القضاء السوري ينسف عقداً أبرم وفقاً لقانون دولة أخرى ؟
أكثر من ذلك، هل يمكن تطبيق مفهوم الفائدة المصرفية في سورية على قرض صدر بعملة أجنبية حيث أن نسبة التضخم تتجاوز الـ 15% ؟
لبيان مدى توافق هذا الأمر مع العرف التجاري، نعطي المثال التالي:
– حصل شخص على قرض من مصرف ياباني وبالين الياباني حيث نسبة الفائدة المحددة من المصرف المركزي لا تتجاوز مثلاً الـ 3%، فلو طبقنا معدل الفائدة التعويضية في سورية وهي حسب المادة /228/ 9% فيكون المصرف المقرض قد حصل على ثلاثة أضعاف حدود الفائدة المصرفية دون أن يعتبر ذلك ربا.
وبالمقابل لو كان القرض صادراً عن مصرف أرجنتيني حيث معدل الفائدة المصرفية 14%، فيكون هذا القرض (بغض النظر عن نسبة التضخم) مخالف للنظام العام ولحدود الفائدة في سورية.
هذا التطبيق الأعمى لمعدل الفائدة بغض النظر عن القانون الواجب التطبيق على القرض المصرفي وبغض النظر عن العملة المتعامل بها يخالف أحكام المادة /4/ من قانون التجارة التي تلزم القاضي بتطبيق العرف التجاري.
ج- في العمليات المصرفية الإسلامية:
1ً- حداثة القانون :
صدر بتاريخ 4/5/2005 المرسوم التشريعي رقم /35/ الذي سمح بتأسيس مصارف إسلامية لا تعمل على الفائدة والزم القانون هذه المصارف باتخاذ هيئة مرجعية دينية للقيام بأعمالها المصرفية.
تأسس أول مصرف إسلامي في سوريا بدمشق وباشر أعماله في نهاية 2007.
أي أن الشارع السوري وبالتالي القضاء السوري لا يعرف عن المصارف الإسلامية أي شيء بخاصة وأنه بدأ تدريس التمويل الإسلامي والمصارف الإسلامية لطلاب الماجستير بكلية الحقوق بجامعة دمشق في عام 2006.
هذه الحداثة في العمل المصرفي الإسلامي يزيد من المخاطر القانونية المصرفية ويؤدي على انكماش العمل المصرفي الإسلامي بخاصة وأن السوابق القضائية لمصارف إسلامية أجنبية كانت غير مشجعة.
2ً- في عدم فهم عمليات المصارف الإسلامية:
نذكر هنا مثالين على عدم قدرة القضاء في فهم عمليات المصارف الإسلامية الأول عندما حاول احد المصارف الإسلامية الخليجية توريق الدين الممنوح لأحد السوريين، فعمد القاضي إلى عرض المشكلة أمامه بطريقتين:
– الطريقة الأولى الربط بين الدين الأصلي قبل توريقه وبين الدين بعد توريقه دون فهم سبب التوريق بالمصرف الإسلامي.
– الطريقة الثانية عدم الربط بينهما وبالتالي مضاعفة مقدار الدين حيث يمكن للمصرف الإسلامي المطالبة بالدين وبالسندات الصادرة به.
المثال الثاني كان عندما مول أحد المصارف الإسلامية اعتماداً لاستيراد السيارات.
حيث ترد البوالص والمستندات باسم المصرف الذي يظهرها للعميل (وفقاً لقواعد عمل المصارف الإسلامية [8]
وقد استلم العميل السيارات وامتنع عن سداد الدين فرفع المصرف الإسلامي الدعوى وطلب إلقاء الحجز الاحتياطي على أموال العميل فرفض القاضي ذلك بحجة أن السيارات وصلت إلى سورية باسم المصرف الإسلامي وفقاً للمستندات التي سلمها للعميل بالتظهير وبالتالي “فالمستورد لم يكن العميل والاعتماد لم يفتح باسمه.
شرح عملية تمويل التجارة الدولية للقاضي الناظر في النزاع أخذت بعض الوقت حيث استطاع العميل بيع السيارات للعراق قبل إلقاء الحجز عليها.
هذا التطبيق العملي يظهر صعوبة حماية العمليات المصرفية الإسلامية أمام القضاء مما يستدعي البحث عن حلول بديلة.
ثانياً – ضرورة التحكيم في العمليات المصرفية:
التحكيم عبارة عن إجراء بديل للتقاضي وليس للمحكمين سلطات القضاء فكيف يمكن للمصارف الركون إليه كبديل أفضل من القضاء للتخفيف من مخاطرهم القضائية والقانونية.
هذا الأمر يستدعي البحث في وميزات وسيئات التحكيم قبل تناول كيفية تجاوز الصعوبات.
1- إيجابيات وسلبيات التحكيم:
للبحث بالإيجابيات والسلبيات يجب دراسة الطبيعة القانونية للتحكيم وميزاته بالنسبة للقضاء وأهم سلبياته الواجب تجاوزها.
أ- التحكيم نظام فصائي خاص:
هنالك أكثر من عشرات التعاريف للتحكيم تجمع جميعها على أن التحكيم عبارة عن طريقة لحل النزاعات بحيث يتفق المتنازعون على عرض نزاعهم على شخص أو محكمة مستقلة لإصدار قرار ملزم لهم.
ويختلف التحكيم بذلك عن القضاء بأنه اتفاقي أي أن أساسه القانوني هو اتفاق الأطراف سواء عند توقيع العقد أو عند نشوء النزاع.
إلا أن هذا الأساس القانوني الاتفاقي لا يتم على نوع واحد من التحكيم فهنالك تقسيمات عديدة له(1) وهذه التقسيمات لاتغير من طبيعته القانونية التي لابد من دراستها (2).
1ً – أنواع التحكيم:
يقسم التحكيم حسب موضوعه إلى عدة أنواع: البحري والبناء والتجاري المحض والمواد الأولية والتأمين والملكية الفكرية… الخ. وبعض أنواع التحكيم له نظام خاص بها، فالتحكيم بخصوص عقود البناء يخضع لنظام الـ FIDIC . كما يقسم حسب طبيعة أطراف التحكيم إلى تحكيم خاص وتحكيم هيئات القطاع العام وبهذا الصدد يوجد هنالك المحكمة التحكيمية و الدائمة في لاهاي.
على أن أهم أنواع التحكيم يقسم إما حسب الجنسية إلى تحكيم وطني أو دولي أو حسب إجراءات التحكيم والسلطة المشرفة عليه حيث يقسم إلى تحكيم مؤسساتي وتحكيم توافقي.
– التحكيم الوطني والدولي:
يقول البعض أن التحكيم هو دائماً وطني لأنه يتم في مكان ما بمدينة معينة كائنة في دولة ما وبالتالي فإن له الطابع الوطني لهذه الدولة[9]. مثل هذه المقولة تستحق المناقشة ولكن الواقع العملي يمّيز بين التحكيم الوطني والدولي لعدة أسباب أهمها أن التحكيم غير مرتبط بالمكان الذي يتم فيه وان الأطراف التي غالباً ما تلجأ للتحكيم هي شركات خاصة أو مؤسسات قطاع عام وليسوا أفراداً طبيعيين.
وللتمييز بين التحكيم الوطني والدولي أسباب عدة أولها هو رغبة المتحاكمين بعدم تدخل المحكمة الوطنية بإجراءات التحكيم إذ غالباً ما يسمح القانون الوطني للقضاء بالتدخل في التحكيم الوطني. لهذا السبب تبنت عدة دول ومنها فرنسا وسويسرا نظاماً قانونياً خاصاً للتحكيم الدولي دون التحكيم الداخلي[10].
سبب أخر للتمييز هو أن بعض الدول ترفض التحكيم لحل النزاعات فيما إذا كانت الدولة نفسها أو أحد أشخاص القطاع العام طرفاً فيه إلا إذا كان تحكيماً دولياً وفي مجالات معينة.
أحد أهم أسباب التمييز هو أن التحكيم الدولي يجمع غالباً في طيا ته جنسيات ونظماً قانونية ومبادئ مختلفة ويجب على أعضاء المحكمة التحكيمية أخذها بعين الاعتبار.
أخر هذه الأسباب يتعلق بالطرق المختلفة لتنفيذ أحكام المحكمين حيث أن قرارات التحكيم الداخلية تكتسب صيغة التنفيذ بطرق وعلى أسس قانونية مختلفة عن تلك الدولية. هذه الأخيرة تنظم الاعتراف بها وتنفيذها اتفاقيات دولية أهمها اتفاقية نيويورك لعام 1958 للاعتراف وتنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية والدولية.
بعد بيان الأسباب لابد من معرفة المعايير التي يتم وفقها التمييز بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي. لا يوجد في الواقع معايير معترف بها في جميع أنحاء العالم ولكن هنالك معياران أساسيان مستعملان حالياً لبيان دولية التحكيم.
المعيار الأول يعتمد على طبيعة النزاع – إذا كان النزاع دولياً كان التحكيم دولياً. فالمادة الأولى من قواعد التحكيم المعتمدة في محكمة التحكيم الدولية لغرفة التجارة الدولية ICC ذهبت إلى اعتماد هذا المعيار. وكذلك ذهب القانون الفرنسي للتحكيم الدولي الصادر عام 1982 إلى هذا المفهوم الواسع للتحكيم الدولي معتمداً على دولية النزاع. والنزاع يكون دولياً وفق أحد المعيارين التاليين الأول اقتصادي وهو وجود مصالح أو تأثير النزاع في التجارة الدولية ، والثاني قانوني ويذهب إلى أن أي نزاع أو عقد يمكن أن تطبق عليه قوانين عدة دول، يعتبر العقد أو النزاع الناتج عنه دولياً.
المعيار الثاني يتعلق بجنسية أو مكان إقامة أو مكان ممارسة إدارة أو أعمال أطراف النزاع. هذا ما اعتمده القانون السويسري الذي ذهب إلى اعتبار التحكيم دولياً فيما إذا كان الأطراف من جنسيات مختلفة أو في أماكن إقامة مختلفة عند توقيع اتفاقية التحكيم.
هذا الاختلاف بين القوانين دفع بالنموذج القانوني عن التحكيم الصادر عن UNCITRAL إلى اعتماد المعيارين السابقين أو أحدهما.
من الواضح إذاً أن اختلاف المعايير وما يمكن اعتباره تحكيماً دولياً في دولة ما يمكن اعتباره داخلياً في دولة أخرى أي أن معيار الدولية ليس عالمياً وبالتالي إذا ما أثير السؤال حول دولية نزاع تحكيمي ما فالجواب يوجد في القانون الوطني لكل دولة.
– التحكيم المؤسساتي والتحكيم التوافقي (ad hoc):
بمجرد أن يختار المتعاقدون أو المتنازعون التحكيم لحل نزاعاتهم يجب عليهم تحديد المؤسسة أو الهيئة التي تنظر في حل نزاعهم أو طريقة التحكيم فيما إذا لم يختاروا تحكيماً مؤسساتياً.
فالتحكيم التوافقي[11] يتم وفق أصول قانون الإجراءات، الذي تم اختياره من قبل المتعاقدين. وقانون الإجراءات يمكن أن يحدد من قبل دولة ما أو من قبل منظمة تجارية داخلية أو دولية أو منظمة غير تجارية دولية UNCITRAL . كما يمكن إجراء التحكيم وفق أصول يحددها الأطراف أو المحكمة التحكيمية أو مجموع هؤلاء.
وباختصار فإن التحكيم التوافقي يشبه تفصيل بدلة لدى الخياط تتناسب تماماً ومقاسات طالبها، أي أنه على كاتبي شرط أو اتفاقية التحكيم تحديد كيفية اختيار المحكمين والقانون الواجب التطبيق ومكان التحكيم وإجراءات التحكيم.
وقد أظهر الواقع أن أغلب التحكيمات التجارية هو تحكيم توافقي وبخاصة عندما يكون أحد الأطراف المتحاكمة دولة أو شخص قطاع عام.
أما التحكيم المؤسساتي فهو تحكيم تتم إدارته من قبل إحدى هيئات التحكيم المختصة وفق قواعد التحكيم المعتمدة لديها. وهنالك العديد من هذه الهيئات المشهورة عالمياً منها:
– The American Arbitration Association.
– The International Center for the Settlement of Investment Disputes.
– The International Chamber of Commerce ICC.
– The London Court Of International Arbitration.
ولكل من هذين النظامين التحكيميين ميزاته وسيئاته. فما هي ميزات وسيئات كل منهما:
مّيزات وسيئات التحكيم المؤسساتي: أول هذه الميزات يتمثل عادة بوجود كتيب عن قواعد إجراءات التحكيم. ففي حال محاولة أحد الأطراف عدم البدء بإجراءات التحكيم أو الاستمرار بها فإن القواعد المعتمدة للهيئة تسمح باستمرار التحكيم وصدور قرار به يفصل النزاع. لابد هنا من الإشارة إلى دعوى تحكيمية كانت بين Euro Disney وأحد المتعهدين فقد نص الشرط التحكيمي على أن يسمي كل طرف محكمه خلال أسبوعين من بدء إجراءات التحكيم أمام محكمة التحكيم الدولية في غرفة التجارة الدولية ICC كما تضمن العقد أن القانون الواجب التطبيق هو القانون السويسري. وعند بدء إجراءات التحكيم تأخر المتعهد عن قصد في تسمية محكمه حيث سمّاه بعد مرور شهر على بدء إجراءات التحكيم. فما كان من Euro Disney إلا أن طلبت تعيينه من قبل الهيئة. وهنا وقعت محكمة التحكيم الدولية بمأزق كبير وهو إما أن ترفض محكم المتعهد لأن تسميته كانت متأخرة وتطبق قواعدها وتسمى محكماً عن المتعهد ويكون التحكيم باطلاً وفق القانون المطبق لأن القانون السويسري يعتبر التحكيم باطلاً فيما إذا تمت تسمية أحد المحكمين من قبل أحد الأطراف ولم يسمى المحكم الآخر من قبل الطرف الثاني، أو أن تعتمد المحكم المسمى من المتعهد بشكل متأخر ويصبح التحكيم مشوباً بالبطلان أيضاً لمخالفته نص لشرط التحكيم. وبذلك نجح المتعهد في تعطيل إجراءات التحكيم. الميزة الثانية للتحكيم المؤسساتي تتعلق بتقديم جهاز إداري خبير ومتدرب لإدارة الدعاوى التحكيمية سواء لجهة تعيين المحكمة التحكيمية أولد فع السلف أو لمتابعة الإجراءات…. الخ.
أما سيئات التحكيم المؤسساتي فتدور حول اتهامه بأنه مكلف وبخاصة في المؤسسات التي تأخذ نسبة من قيمة النزاع كما هو الحال في ICC . أن المدافعين عن التحكيم المؤسساتي يرون أن هذه النسبة في الدعاوى التحكيمية ذات القيمة الكبيرة لا تتجاوز 1% من قيمة النزاع وهو مبلغ ضئيل جداً بالنسبة للمتنازعين.
من المآخذ الأخرى على التحكيم المؤسساتي هو أنه يحتاج إلى وقت أكثر من التحكيم التوافقي كما أن برنامج التحكيم غير ملائم للأطراف حيث أن لدى المدعي الذي يحرك الدعوى متسع من الوقت لتحضير دعواه بينما يجد المدعى عليه نفسه ملزماً بتقديم دفوعه خلال فترة قصيرة نسبياً. فمثل هذه السيئة تثار كثيراً في منازعات عقود المقاولة حيث يوجد عدد هائل من الخرائط والوثائق والدراسات الواجب إعدادها لتقديم الدفاع[12].
كما أن تحديد الوقت من المشاكل الكبيرة التي تثار فيما إذا كان أحد المتخاصمين شخص قطاع عام حيث يحتاج إلى إجراءات روتينية طويلة ومعقدة لاتخاذ القرارات.
– ميزات وسيئات التحكيم التوافقي: إن التحكيم التوافقي يتم عند اتفاق الأطراف على التحكيم دون تحديد هيئة تحكيمية معينة أو العطف على قواعد أي من هذه الهيئات.
أهم ميزات التحكيم التوافقي أنه يتناسب مع رغبات الأطراف الذين يفصلونه وفق عقدهم ونزاعهم الحالي و المستقبلي ونجاح هذا النوع من التحكيم يحتاج إلى تعاون المتخاصمين ومستشاريهم في إنهاء مهمة التحكيم. وفي حال وجود هذا التعاون يصبح الفرق بين التحكيم المؤسساتي والتوافقي كالفرق بين شراء بذة جاهزة أو تفصيلها.
إلا أن وضع قواعد إجراءات التحكيم من قبل المتنازعين يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين. لذلك غالباً ما يتم العطف على قواعد موجودة سابقاً. ( UNCITRAL Rules مثلاً).
هذا النوع من التحكيم كان المفضل في نزاعات عقود استثمار البترول.
كما أن من ميزات هذا التحكيم هو أنه أقل تكلفة من التحكيم المؤسساتي وبخاصة عندما يتعلق التحكيم بمبالغ كبيرة . كما أن وجود جهة قطاع عام في التحكيم وعدم رغبتها في الخضوع لإجراءات أية هيئة تحكيمية دولية تدفعها إلى القبول بالتحكيم التوافقي.
أما السيئات فهي عديدة أهمها أن نجاح هذا التحكيم يتوقف على رغبة الأطراف في نجاحه. ففي حال رفض أحد المتنازعين تعيين محكمه أو دفع سلفة التحكيم… أو امتنع أو عرقل أي إجراء آخر فلا توجد أية قواعد يمكن الاستعانة بها لنجاح التحكيم.
وقد أثبت الواقع العملي أنه بعد تعيين المحكمة التحكيمية وعند وجود قانون للإجراءات يتم اختياره لمتابعة إجراءات التحكيم، عندها فقط يسير التحكيم التوافقي بنفس درجة نجاح التحكيم المؤسساتي.
ب – الطبيعة القانونية للتحكيم:
يتميز التحكيم بخاصتين منفردتين الأولى أن له صفة قضائية والثانية أن أساسه اتفاقي.
1ً – الصفة القضائية للتحكيم:
أن أهم واجبات المحكم أو المحكمة التحكيمية هي الفصل في النزاع أي إعطاء قرار نهائي يتناول فيه جميع الدفوع المقدمة من المتحاكمين للوصول بالنتيجة إلى قرار يبت في موضوع النزاع بين المتخاصمين وهو بذلك يشبه القضاء ويختلف عن الطرق البديلة لحل النزاعات ADR مثل الخبرة والوساطة، لأن القرارات التي تصدر عن الوساطة هي اختيارية ليس لها صفة الالتزام أما قرارات المحكمين فهي ملزمة للأطراف.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن بعض الطرق البديلة لحل النزاعات وبالذات الخبرة الهندسية في عقود الـ FIDIC كما هو وارد في المادة 67 من شروطها النص على إلزامية قرار المهندس الخبير في حال عدم الاعتراض عليه خلال 90 يوماً من صدوره وهنالك نقاش حول من له الحق بالطعن به صاحب المشروع أم المتعهد أم الاثنان معاً. لامجال للبحث بهذا الموضوع حالياً إلا أن هذا المثال يهدف إلى توضيح بعض السلطات التي منحت للطرق البديلة لحل النزاعات مما يثير الشكوك على قضائيتها[13].
كما أن الفصل في نزاع من قبل المحكم عملاً بالقواعد القانونية النافذة يعطي صفة قضائية للتحكيم. إلا أن منح المحكمين سلطة البت بالنزاع دون التقيد بالإجراءات وتفوضهم بالصلح ينزع عنهم نوعاً ما هذه الصفة. وهنا يناقش البعض على حق الالتزام الذي وضعه القانون في بعض الحالات على القضاة بضرورة عرض المصالحة على المتداعين. وبذلك يتشابه المحكم المفوض بالصلح بالقاضي الذي يعرض الصلح على المتداعين وبثّبت مصالحتهم بقرار قضائي ( المواد 517 وما يليها من القانون المدني السوري مثلاً).
هذه باختصار شديد الصفة القضائية للتحكيم والذ دعته الدكتورة سامية الراشد نظام قضائي خاص[14] يبدأ أساسه باتفاق الأطراف المتعاقدة أو المتنازعة.
2ً– الأساس الاتفاقي للتحكيم:
إن الأساس القانوني للتحكيم هو اتفاق الأطراف على ذلك ولا مجال لأي نقاش بهذا الصدد وبهذا يختلف التحكيم عن القضاء بأنه اختياري بينما القضاء إلزامي.
وحرية الأطراف في الاتفاق على التحكيم تمتد إلى اختيار المحكمين وفي النزاعات الدولية إلى اختيار لغة ومكان التحكيم والقانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم والقانون الواجب على موضوعه.
كما يمكن للأطراف اختيار هيئة تحكيمية للعودة إليها.
وهنا يختلف التحكيم عن القضاء بكل شيء حيث لا مجال في القضاء في اختيار المحكمة ( إلا في النزاعات الدولية حيث يمكن تحريك الدعوى في محاكم متعددة وهذا ما يسمى (shopping forum). أو اختيار القاضي أو القانون الواجب التطبيق على الإجراءات وعلى الموضوع.
ب – مزايا التحكيم بالمقارنة مع القضاء:
إذا ماعدنا إلى الإحصائيات المعدة من قبل مؤسسات التحكيم الدولية يتبين ازدياد نسبة النزاعات التجارية الدولية المعروضة على الهيئات التحكيمية. كما يمكن لأي محام مهتم بالأمور التجارية ملاحظة ازدياد اختيار الأطراف المتعاقدة لحل أي نزاع مستقبلي فيما بينهم عن طريق التحكيم.
في معزل عن الخلافات التي تتعلق بالأمور المصرفية يمكن تفسير اللجوء المتزايد للتحكيم ببعض المزايا التي يجد فيها رجال الأعمال ضالتهم بالوصول إلى حل النزاع بعيداً عن متاهات القضاء الوطني. يمكن اختصار هذه المزايا بمايلي[15]:
1ً- السرية:
السرية في التحكيم حيث أن إجراءات التحكيم والمرافعات فيه بعيدة عن العلنية الملازمة للقضاء العادي وبذلك يستطيع رجال الأعمال إخفاء طبيعة نزاعهم وإجراءات التقاضي عن الجمهور.
2ً – المرونة:
المرونة في إجراءات التحكيم هي أيضاً من الميزات الأساسية له حيث يمكن للأطراف اختيار الإجراءات الواجبة التطبيق على التحكيم والتي قد تبدو لهم أكثر ملاءمة لنزاعهم وبذلك يتخلصون من القواعد الوطنية لأصول المحاكمات الملزمة التطبيق في القضاء الوطني. كما يمكن للمتخاصمين أن يعفوا المحكمين من إتباع أية أصول أو إجراءات ملزمة أثناء التحكيم.
إضافة إلى أن المحكمين يخرجوا غالباً عن القواعد القانونية الصارمة بتطبيقهم للنصوص التشريعية بطريقة مرنة وبتفسير النصوص القانونية بمعزل عن اجتهادات المحاكم وتسلسل السلطة القضائية. هذه الميزة يراها المصرفيين على أنها سيئة باعتبار أن المرونة من وجهة نظرهم تعني عدم إستقرار القواعد القانونية وبالتالي مخاطر إضافية.
3ً – خبرة وحيادية المحكمين:
حيادية وخبرة المحكمين هي صفة إضافية للتحكيم. والحيادية في اختيار المحكمين بعيداً عن القضاء الوطني لأحد الأطراف المتعاقدة لها أهمية كبيرة في العقود الدولية وبالتالي يمكن للأطراف أن يختاروا محكمين مستقلين وبعيدين عن الثقافة القضائية الواحدة أو يتم اختيار هؤلاء المحكمين من هيئة دولية مستقلة.
كما أن اختيار المحكمين لا يتم بموجب معيار الحيادية فقط ( وإن كانت نظرية أحياناً ) إلا أن معيار الخبرة له حيز كبير في اختياره. فعند وجود نزاع ناتج عن عقد بناء يكون تحديد المحكم نتيجة لخبرته في هذا المجال.
بعكس القضاء الوطني حيث يمكن البت بالدعوى من قبل محكمة ليس لديها أية خبرة سابقة في مثل هذه العقود.
إلا أنه لا يجوز المغالاة في حيادية وخبرة المحكمين. إذ غالباً ما يتم اختيار المحكم من قبل أحد الأطراف المتخاصمة نظراً لتعاطفه أو قبوله أو على الأقل قربه بثقافته القانونية والشخصية من الطرف الذي سمّاه. وعلى المستوى الدولي هذه الحيادية لها تطبيقات يمكن أن تثير بعض التساؤلات.
كما أن اختيار المحكم الخبير شيء ضروري إلا أنه يجعل من التحكيم، وبالذات الدولي منه، محصوراً على عدد معيّن من الأشخاص (الغربيين بشكل عام) المستفيدون من احتكارهم لهذا المجال المهم من الحياة القانونية والاقتصادية الدولية.
4ً– السرعة:
أهم ميزات التحكيم بالمقارنة مع القضاء العادي تتعلق بسرعة الوصول إلى قرار تحكيمي نهائي. وهذه الميزات ضرورية في الحياة التجارية التي تعتمد على صفتين هامتين ألا وهما الائتمان التجاري والسرعة في إنجاز الأعمال التجارية. فكثيراً ما يصدر قرار المحكمين بأقل من سنة أو حتى ستة أشهر من استلامهم مهمة التحكيم وحيث أن أغلب دول العالم بموجب قانونها الداخلي (المواد 519-520-530و 531و533 من قانون أصول المحاكمات السوري) أو بموجب تصديقها على اتفاقية نيويورك لعام 1958 لتنفيذ أحكام المحكمين، تعطي هذه القرارات صفة الإبرام وتكسبها صيغة التنفيذ المباشر. لذلك أصبح للتحكيم التجاري الداخلي أو الدولي صفة السرعة التي لا بد منها لحل النزاعات التجارية.
وحيث أن الوقت جزء من الحق و يعني المال في الوقت الحاضر فكثيراً مادا فع البعض عن فكرة أن التحكيم أرخص من اللجوء إلى القضاء العادي. هذه الفكرة ناشطة جداً في مدرسة التشريع القضائي common law”” ولكن أغلب فقهاء القانون المدني يعارض صحتها و يتحفظ بخصوصها.
هذا التحفظ إضافة إلى مآخذ أخر أخرى سوف يتم تناولها في الفقرة الثانية.
ج- المآخذ على التحكيم:
المآخذ على التحكيم عديدة وأهمها:
1ً – إلزامية القرارات القضائية:
أن قرار المحكمين لا يمكن أن يكون نهائياً إلا بعد إكسائه صيغة التنفيذ أمام القضاء الوطني.
أن أكثر ميزات التحكيم أهمية وبخاصة لجهة السرعة والسرية تفقد أهميتها عند إعطاء قرار المحكمين صيغة التنفيذ أمام القضاء الوطني الذي يطلب منه غالباً البت في صحة أو بطلان قرار المحكمين وينظر القضاء الوطني في النظام العام وعدم مخالفة القرار التحكيمي له مما يتطلب وقتاً وجهداً إضافيين[16].
وبالتالي يدافع البعض أن قرارات المحاكم الوطنية أكثر إلزامية من قرارات المحكمين. في سورية مثلاُ من العسير إكساء صيفة التنقيذ لقرارات تحكيمية أجنبية.
2ًً– عدم تمتع المحكمين بسلطات القضاة:
يفتقد المحكمون للكثير من السلطات التي يتمتع بها القضاة. ففي كثير من الأحيان يرى المتنازعون أنفسهم ملزمين باللجوء إلى القضاء الوطني إلى جانب التحكيم للحصول مثلاً على حجز أو أي قرار آخر مستعجل يصدر عن القضاء لصفته الملزمة.
3ًً – اختصار التحكيم على الأطراف المتفقة عليه:
يفتقد المحكمون أيضاً سلطة ضم الملفات التحكيمية أو إدخال شخص آخر في الدعوى التحكيمية، لأن التحكيم يقتصر على الأطراف المتفقة عليه وهذه النقطة لها أهمية كبيرة في العقود المصرفية التي كما ورد آنفاً يوجد فيها أطراف متعددة ولا يكون التحكيم صحيحاً الإ بمواجهة الجميع الكفيل والمكفول أو المستفيد من الاعتماد وفاتح الاعتماد والمصرف المراسل.
وحتى لو اتفق الجميع على التحكيم إلا أن وجود إجراءات تحكيم متعددة للبت بنزاع واحد توجد جذوره في عقود مختلفة يؤدي إلى إصدار قرارات متعارضة في مضمونها.
وبالتالي لابد من إيجاد نظام يسمح بالتحكيم المتعدد الأطراف وبالجمع بين القضايا التحكيمية المتعددة لوحدة الموضوع. هذا هو حديث الساعة حالياً وموضوع مناقشات أكاديمية وعملية في العديد من النظم القضائية وحتى على المستوى الدولي. (وآمل أن يفتح هذا النقاش في المؤتمر الحالي لأهميته).
4ً – التحكيم أكثر كلفة من القضاء العادي:
بالعودة إلى موضوع التكاليف، غالباً ما يعتبر التحكيم أكثر كلفة من القضاء العادي وبخاصة في دول القانون المدني حيث لا يدفع المتخاصمون أية مصاريف للمحاكم بينما يدفع المتنازعون أجور المحكمين إضافة إلى المصاريف الإدارية للتحكيم التي يجب دفعها كنسبة من قيمة النزاع المنظور به. وإذا كان التحكيم لا يتم وفق قواعد مؤسسة تحكيمية فإنه يجب على المتنازعين تحمل مصاريف إدارية مختلفة كاستئجار مكان الاجتماع والأدوات اللازمة لإجراءات التحكيم ( مصاريف تنقل الشهود …. الخ ).
5ًً – النزعة بالوصول إلى حل رضائي:
آخر الملاحظات وأهمها بالنسبة للمصرفيين تتعلق بواقع توصل المحكمين إلى حل رضائي دون البت بشكل قاطع بالنزاع المعروض عليهم وفقاً لقواعد القانون. أي أن هنالك مآخذ على المحكمين بأنهم قد يتوصلون في بعض الأحيان إلى تقسيم الخسائر أو المكاسب بين المتنازعين بصورة رضائية دون العطف على القانون الواجب التطبيق وحقوق الأطراف وفقه[17].
2- أسس التحكيم المصرفي:
أمام الصعوبات القضائية والمآخذ على التحكيم، أصبح من الضروري إيجاد حل متكامل. هذا الحل يتمثل إما بتعديل عمل السلطة القضائية والقوانين والاجتهادات والسير باتجاه تطبيقات قضائية تتوافق واقتصاد السوق الاجتماعي أو اللجوء إلى الحلول البديلة لحل النزاعات ومنها التحكيم بعد إيجاد قواعد تخفف (إن لم تكن تلغي) من مخاطر مآخذ المصرفين على التحكيم.
الحل الثاني هو الحل الأسهل والأقل صعوبة والذي يتناسب مع مرحلة الانتقال من سوق الاقتصاد الموجه إلى سوق الاقتصاد الاجتماعي.
لتجاوز مآخذ المصرفيين على التحكيم، يجب إعداد شروط تحكيم متماسكة (أ) واللجوء إلى تحكيم مؤسساتي بتبعية لجهة عامة (ب) ومن ثم تجاوز صعوبات التنفيذ (ج).
أ – شرط التحكيم:
حيث أن التحكيم يبدأ باتفاق، فيمكن على اتحاد المصارف الاقتراح عليها أن تشمل جميع عقودها شرطاً تحكيمياً لحل أي نزاع ينشأ بين المصرف واحد المتعاملين:
يجب أن يتضمن الشرط التحكيمي ما يأتي:
1ً- اختيار أسلوب التحكيم المؤسساتي: هذا المقترح سوف يتم تناوله لاحقاً بالتفصيل.
2ً- ترك أمر تعين المحكمين للمؤسسة التحكيمية:
وبذلك يتجاوز المتخاصمين صعوبة وجود أكثر من طرفين في النزاع أسوة بالتحكيم أمام محكمة التحكيم الدولية حيث ينضم الطرف الثالث أو الرابع وغيرهم إلى المدعي أو المدعى عليه.
حيث أن اللجوء إلى مؤسسة تحكيمية تخضع لإشراف سلطة مصرفية (مصرف مركزي) فيكون اختيار المحكمين من المصرفين أو من الحقوقيين المتمتعين بخبرة مصرفية.
3ً- اختيار مركز إدارة البنك كمكان التحكيم:
وبذلك يتم تجاوز صعوبات الانتقال بين عدة محاكم ضمن البلد الواحد.
4ً- النص على تطبيق الأعراف المصرفية:
كقانون المحكمين وإلزامهم بوسائل إثبات اتفاقية بين الفرقاء وتجنب قواعد تنازع القوانين وأصول المحاكمات لتجنب الوقت المهدور في إجراءات شكلية. طبعاً دون أن يؤثر ذلك على المبادئ الأساسية في احترام حق الدفاع وتبادل الدفوع والمساواة في المعاملة بين المتنازعين.
لابد أخيراً من الإشارة إلى تضمين شرط التحكيم نصاً يفيد إلى أن قرار المحكمين مبرم غير قابل للاستئناف أو الطعن لتجنب الرجوع إلى السلطة القضائية.
ب- في المؤسسة التحكيمية:
لتجاوز عدد من الصعوبات بخصوص صلاحية وسلطات المحكمين، يجب إخضاع المؤسسة التحكيمية للمصرف المركزي ويجب إداراتها كمؤسسة قضائية أسوة بمحكمة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية بباريس.
1ً- في التبعية لمصرف سورية المركزي:
تم الاقتراح على مصرف سورية المركزي باحداث هيئة للوساطة والتحكيم من مهامها البت في النزاعات التي تنشأ بين أطرافها أي علاقة مصرفية.
لم يتم الاكتفاء بصدور قرار عن مجلس النقد والتسليف بل تم الإقتراح على أن يتضمن مشروع تعديل قانون مجلس النقد والتسليف نصاً يحدد من بين أهداف مصرف سورية المركزي حل النزاعات المصرفية وله من أجل ذلك إحداث مركز أو هيئة للوساطة والتحكيم على أن يصدر نظامها بالتعليمات التنفيذية للقانون.
بذلك يأخذ المركز الصفة القانونية ويرجح على أي نص آخر يعارضه ويمكن أن يتضمن نظامه أحكاماً تشير إلى صلاحية هيئة التحكيم بإيقاع الحجوزات واتخاذ القرارات المستعجلة ويلتزم القضاة والضابطة العدلية بتقديم كل مساعدة لجهة إحضار الشهود وتنفيذ القرارات وغيرها.
من ميزات اللجوء إلى تحكيم مؤسساتي هو إستقرار الإجتهاد في المسائل المصرفية مع مرور الوقت مما يؤدي إلى وضوح بالرؤية للمصارف التي سوف تعرف حدود مخاطرها.
2ً- في تشكيل الهيئة:
إعطاء الصفة القانونية للهيئة التحكيمية يجب أن يترافق مع إحداث مجلس إدارة يجمع أعضاؤه بين الصفة القضائية والمصرفية وبين القطاع العام والخاص لذلك تم الاقتراح على أن يرأس الهيئة قاض أو قاض سابق له خبرة في القضايا التجارية وعلى أن يتألف مجلس إدارته من ممثل أو أكثر عن المصرف المركزي وعن جمعية حماية المستهلكين واتحاد المصارف إضافة إلى أصحاب خبرات مصرفية وقانونية مشهود لها بأخلاقها وحسن سيرتها وخبرتها.
لوضع نظام الهيئة يمكن الاستعانة بنظام محكمة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية ويجب أن يتضمن النظام لائحة بتكاليف التحكيم الإدارية وغيرها على أن تكون مقبولة في السوق المصرفية.
الأمور التي ما زالت قيد النقاش تتعلق بوجوب، هل يجب وضع لائحة بأسماء المحكمين أم لا، وهل يمكن الاستعانة بمحكمين أجانب أم لا، بخاصة إذا كان العقد يتضمن طرفاً أجنبياً أو تم بعملة أجنبية مثلاً.
هذه الأمور يمكن مناقشتها بين المعارضين والمناصرين لها وإن كنت شخصياً لا أجد مانعاً من ذلك لإعطاء مرونة أكثر في التحكيم المصرفي ولمنحه أبعاداً دولية على أن لا يكون ذلك ضمن قائمة محددة ومغلقة.
ج- في تنفيذ القرارات التحكيمية:
تناولت الاقتراحات بخصوص تنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة عن هيئة التحكيم التابعة للمصرف المركزي ثلاث نقاط.
1ً- اعتبار القرار التحكيمي الصادر قابلاً للتنفيذ:
فوراً دون الحاجة لإكسائه صيغة التنفيذ وذلك بالنص في مشروع قانون مصرف سورية المركزي على ذلك بخاصة وأن هيئة التحكيم سوف يترأسها قاض وإن القرارات التحكيمية سوف تصدر باسم الشعب العربي في سورية عملاً بأحكام المادة 134 من الدستور.
هذا الاقتراح لم يلق تشجيعاً من كاتب هذه السطور باعتبار أنه يجب عدم الخلط بين القوانين المتعلقة بالمصارف وتلك المتعلقة بالسلطة القضائية.
2ً- إكساء القرارات التحكيمية صيغة التنفيذ عن طريق السلطة القضائية:
التي ليس لها أن تنظر إلا في ممارسة المتحاكمين لحقهم بالدفاع دون حتى النظر في مخالفة قواعد النظام العام أو على الأقل جعل هذه القواعد في حدودها الدنيا عند البت بإكساء صيغة التنفيذ والمثال الذي يمكن إعطاؤه هنا هو ما يتم حالياً أمام القضاء الفرنسي الذي نادراً ما يلغي أو يفسخ قراراً تحكيمياً صادراً عن محكمة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية وذلك تطبيقاً للمادة 1135 من قانون أصول المحاكمات الفرنسي التي تأهذ بمخالفة النظام العام الدولي دون النظام العام الداخلي في النزاعات التجارية ذات الصبغة الدولية. هذا يتطلب تعاون بين المصرف المركزي والسلطة القضائية ويجب أن ينسق بينهما ممثل القضاة لدى هيئة التحكيم.
والتعاون يجب أن يكون عميقاً لجهة تنفيذ القرارات المستعجلة التي تصدر عن الهيئة التحكيمية مثل الحجز الاحتياطي وإحضار الشاهد وغيرها، وهذا يعني منح المحكمين (هيئة التحكيم التابعة للمصرف المركزي) صلاحية إصدار القرارات المعجلة النفاذ.
3ً- ضمانات مصرفية:
هنالك من اقترح على أن يتقدم المتحاكمون قبل البدء بإجراءات التحكيم بضمانات يتم تنفيذ القرارات التحكيمية عليها طوعاً دون الحاجة إلى إكساء صيغة التنفيذ. هذا المقترح يبقى في حدود المقترحات النظرية باعتبار أن الناكل عن تنفيذ التزاماته التعاقدية سوف يجد في عدم تقديم الضمانات وسيلة لعرقلة إجراءات التحكيم والمماطلة.
لذلك إقترح البعض بأن يتم وضع اسم المحكوم عليه تحكيمياً والذي لا ينفذ القرارات التحكيمية طوعاً على القائمة السوداء لجميع المصارف. مثل هكذا عقوبة يمكن تنفيذها باعتبار أن المصرف المركزي يشرف على جميع المصارف ويلزمها بتنفيذ القرارات التحكيمية في حال خسارتها كما يلزمها باللائحة السوداء المانعة من التعامل مع الزبائن.
ومع ذلك تبقى مشكلة تتعلق بوفاة المتحاكم أو خروجه كلياً من سورية أو حتى خروجه من السوق السورية.
كما أن اللائحة السوداء لن تؤثر على المتعاملين الأجانب فلابد عندها من إكساء القرارات التحكيمية صيغة التنفيذ وعلى المصارف الحصول على الضمانات التنفيذية قبل أو عند البدء بإجراءات التنفيذ مثل الحجز الاحتياطي وغيرها.
الخاتمة:
التحكيم كوسيلة بديلة لحل النزاعات يجب أن لا يلغ مؤسسات المصالحة والوساطة وغيرها والتي يمكن أن تكون خطوة أولى قبل البدء بالتحكيم وذلك بأن يكون إلى جانب الهيئة التحكيمية التابعة إلى مصرف سورية المركزي هيئة وساطة ومصالحة لها نظامها أسوة بالعديد من الهيئات الموجودة عالمياً كما في إنكلترا.
المراجـــــع
1- المراجع العربية:
أ- الكتب:
– د. أحمد أبو الوفا: ” التحكيم بالقضاء وبالصلح ” منشأة المعارف – الطبعة الأولى، 1964.
– د. سامية راشد: ” التحكيم في العلاقات الدولية الخاصة ” الكتاب الأول – دار النهضة العربية – 1984.
– علي جمال الدين عوض: “عمليات البنوك من الوجهة القانونية” دار النهضة العربية.
ب- الدوريات والمقالات والأبحاث:
– د. السيد أحمد عبد الخالق: “البنوك الشاملة” بحث مقدم في البرنامج التدريبي للمحكمين والمصرفيين حول أعمال البنوك – المنامة 2000.
– السيد محي الدين علم الدين: “الأعمال المصرقية من منظور اسلامي” بحث مقدم في البرنامج التدريبي للمحكمين والمصرفيين حول أعمال البنوك – المنامة 2000.
2- المراجع الأجنبية:
أ – الكتب:
– Ross Cranston: “Principle of Banking Law” Oxford – 1997>
– The Fershfeilds Guide to Arbitration and ADR – Clauses in International Contracts – 2nd revised ed – Kluwer Law international.
– Roy Goode: “Commercial law” new ed. Penguin 1999.
– Peter Sarcevic (edited by): “Essay on international Commercial Arbitration” Graham & Trotman 1991.
– Philippe Fouchard, Emmanuel Gaillard et Berthold Goldmann: ” Traité de L’Arbitrage Commercial International” ed. Litec et Delta 1996.
– Alan Redfern and Martin Hunter: ”Law and Practice of international commercial Arbiration” 3rd ed. Sweet and Maxwell – 1999.
– Jean-Louis Rives – Lange et Monique Contamine – Raynaud: “Droit Bancair” 6em.edition, Dalloz – Delta – 1995.
–
ب – الدوريات والمقالات:
– ASA (Association Suisse de l’Arbitrage): “ International Arbitration” Special Series N° 4 – 1993.
– Compendium of Documents produced by the Basel Committee on Banking Supervision, published by Bank of Settlement – Basle, Switzerland, January 1999.
– Extract of ICC Arbitration Awards on construction contracts referring to the FIDIC conditions, 1990.
[1] ) Ross Crnstan: ” principes of Bentting Law”. Oxford -1997.ص 4 -” There are, therefore, two characteristics usually in bankers today: (i) they accept money from, and collect cheques for, their customers and place them to their credit; (ii) They honour cheques or orders drawn on them by their customerswhen presented for payment and debit their customers accordingly. These two characteristics carry with them also a third, namely: (iii) They keep current account, or something of that nature, in their books in which the credit and debits are entered”.
2- J-h. Rive – Lange et M.contamine- Raynand: ” Droit Bancaire”. Dalloz-Delta- 1995 p.1 et s.
[2]
[3] – R. Roblot et G. Ripert: ” Droit Commercial” Tome 2- L.G.D.J., 1986, P 251 et s.
4- د. السيد أحمد عبد الخالق : ” البنوك الشاملة” بحث مقدم في البرنامج التدريبي للمحامين والمصرفيين حول أعمال البنوك – المنامة – البحرين 2002 ص 4.
[5] – Ross Cranston, Idem 5-
[6] علي جمال الدين عوض: : “عمليات البنوك من الوجهة القانونية” – دار النهضة العربية –
ص 258 المرجع السابق 6- Rihlot et Ripert –
[8] د. محي الدين علم الدين : ” العمال المصرفية من منظور إسلامي ” بحث قدم إلى مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية – البرنامج التدريبي للمحكمين والمصرفيين حول أعمال البنوك – المنامة – البحرين – 2000.
[9] Mann, Lex Facit arbitrum, in Arbitration international 1986
[10] Redfern & Hunter, op cit, 19/1.
[11] Roy Goode, op cit P 1176.
[12] Redfern & Hunter, op cit, P 81/1.
[13] Philippe Fouchard Emmanuel Gaillards et Berthold Goldman, Traité de L Arbitrage Commercial international, ed. Litec et Delta, 1996, P 11 et S.
[14] – شامية الراشد: “الحكيم في العلاقات الدولية” الكتاب الأول – دار النهضة العربية – 1984.
[15] The Freshfeild Guide to Arbitration and ADR, clause in international contracts, 2nd. Ed. Kluwer Law International 1991, P1. Kerr, Arbitration V. Litigation, in The Journal Of Business Law 1980 P 164.
[16] Roy Goode, Commercial law, 2nd.ed, Penguin 1999, P 1178.
[17] The Freshfields Guide to Arbitration and ADR, op cit, P 5.
1 person likes this.
بحث عن الحوكمة المؤسسية للشركات في الاردن .
إعداد
د. صالح العقده د.عبد الحكيم مصطفى جودة
جامعة العلوم التطبيقية جامعة العلوم التطبيقية
عمان- الأردن عمان- الأردن
أ.د. يوسف مصطفى سعاده
جامعة العلوم التطبيقية
عمان- الأردن
ملخص البحث:
قطعت الأردن شوطاً في تطبيق الحوكمة المؤسسية لعلاج مشاكل شركاتها، إلا أن النتائج المحققة أقل من التوقعات، مما يعني أن هناك أسباباً أخرى لذلك لم يتم اكتشافها أو لم يتم معالجتها بدقة، وهي مشاكل ومعيقات قانونية تجعل من تحقيق الشفافية في معالجة مشاكل الشركة وفي تحقيق المواءمة بين مصالح جمهورها فيها بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد والإجراءات ، مثل الفصل بين الملكية والإدارة في المنشآت الأردنية وضرورة تداول السلطة في مجلس الإدارة، كذلك البدء بمساءلة مساءلة مجلس الإدارة عن أخطائه، وتحقيق الفصل بين وظيفة رئاسة مجلس الإدارة ونائب رئيس المجلس, والسماح بنشر تقارير واقعية لمدققي الحسابات عن أداء الشركات الأردنية، وهي أساسيات وبدايات الحوكمة المؤسسية.
Abstract
Jordan made way in the application of Corporate Governance to remedy its’ corporation’s problems, but the results felt short of expectations, which mean that there are reasons for that have not been discovered or have not been dealt with strictly. These are legal problems and restrictions to achieve transparency in dealing with the problems created in the harmonization of the interests of their constituents where almost necessary , such as lack of separation between ownership and management in Jordanian corporations, non-negotiable authority of the Board, the impossibility of accountability of Board mistakes , as well as the impossibility of publishing Qualified Auditing Reports of Jordanian Corporations, all of are ABC & axioms of corporate governance.
مقدمة:
انقسم العالم في القرن الماضي إلى نظامين رأسمالي وشيوعي / اشتراكي، متعارضين في العقائد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمصالح, وقد ثار الصراع بينهما قرنا من الزمان، ثم حسم الصراع لصالح النظام الرأسمالي لأكثر من سبب، منها ظهور صراعات داخل النظام الشيوعي / الاشتراكي بين الشعوب الخاضعة لسيطرة هذا النظام والحكومات المسيطرة، وتعارض المصالح بين الحكام والمحكومين فيه، إذ لم يتحقق للشعوب ما وعدها به النظام، فكانت المقاومة السلبية حيناً والمعارضة الفعالة أحياناً أخرى، فانتهى النظام إلى الإفلاس, وقد انتهت معه أو قبله الأفكار والمعتقدات الاشتراكية في دول أخرى، فبعد نجاح حزب العمال البريطاني في انتخابات 1974 قام بتأميم صناعة الصلب، فبدأت الصناعة بالتراجع والتدهور، فعدل الحزب عن قراره بالتأميم, وأعاد خصخصة صناعة الصلب، وتبعته وحذت حذوه كل دول العالم في خصخصة مشاريعها العامة، للتخلص من التعارض في المصالح بين الإدارة والملاك والعمال وبقية المواطنين.
وفي داخل النظام الرأسمالي في أمريكا ظهر التعارض السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا بعد قضية وترجيت , وبسببها ظهرت الدعوة إلى الحوكمة المؤسسية كحل للصراع السياسي بين الحزبين، كما ظهر التعارض في المصالح بين جمهور المشروع الواحد فكانت الدعوة إلى الحوكمة المؤسسية في دول مثل بريطانيا وأمريكا وغيرهما.
يبدو أن الحوكمة ليست نهاية المطاف, أو ليست الحل السحري لكل مشاكل الشركات, فرغم قدم الدعوة إلى الحوكمة في أمريكا وبريطانيا، وممارستها على نطاق واسع، إلا أن النتائج كانت على عكس التوقعات إذ حدثت انهيارات جديدة في المشاريع في هاتين الدولتين, كما حدث غش وتلاعب في فرنسا أيضا (بنك سوستيه جنرال), (جريدة الغد:1/2/2008), مما يعني أن التعارض لا زال قائماً بين مصالح الفئات المختلفة في المشروع الواحد، إلى جانب ضعف المساءلة والإشراف واهتزاز ثقة المستثمرين في المؤسسات والشركات، مع استمرار الحاجة إلى أن يتم العمل فيها بنزاهة واستقامة، وينطبق هذا على جميع الإدارات والمساهمين والموزعين وحتى باعة الإنتاج (الواكد : 22), فالتعارض في المصالح في المشروع أو استئثار فريق بنصيب الأسد من عوائده سيؤدي في النهاية إلى انهيار المشروع وزواله.
أهمية البحث:
تم البحث عن تفسير للانهيارات في الاقتصاديات الغربية، فكان الجواب ذلك التعارض بين مصالح الإدارة والآخرين من أصحاب المصالح في المشروع الواحد كالملاك والدائنين والمستثمرين والعاملين , وكحل للتعارض تم اقتراح الحوكمة المؤسسية, كما قدم نفس الحل للاشكالات والتعارض في المصالح بين أصحاب المشروع الواحد في البلاد العربية, إلى جانب اقتراح تعزيز مكانة التدقيق الداخلي كداعم للإدارة, فإذا لم تجد الحوكمة المؤسسية نفعاً، فمعنى ذلك أن تحديد المشكلة غير دقيق أو أن الحوكمة المؤسسية ليست هي الحل الأمثل؟ فأهمية البحث تكمن في:
1¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬- تأكيده على أهمية ودقة تحديد مشكلة مؤسساتنا حتى لا يضيع وقت طويل في اقتراح الحلول وتجريبها.
2 – اثبات أن تحقيق العدالة بين أصحاب المشروع في المشروع الواحد أو الحوكمة المؤسسية، هي الضمان لاستمرارالمشروع وانهاء الصراع الذي ينتهي بفشل المنشآت.
أهداف البحث:
تتأثر مهنة المحاسبة (التدقيق) في الدول العربية بالتطورات العالمية في مهنة التدقيق والتدقيق الداخلي خصوصاً المعايير الصادرة عن المجامع المهنية العالمية وبالذات الأمريكية، والهادفة إلى إصلاح أحوال المنشآت بتخفيف سيطرة الإدارة على مقادير الشركات وتسخيرها لمصلحتها فيما سمي بالتحكم المؤسسي، ومن أبرز معالمه إعلاء شأن التدقيق الداخلي وزيادة سلطاته وصلاحياته كضابط لسيطرة الإدارة، ويأتي البحث للتحقق من أسباب سيطرة الإدارة واستئثارها بمقدرات وأرباح الشركات, وهل يكون الحل باستبدال سيطرة الإدارة بسيطرة التدقيق الداخلي؟ ويسعى البحث لتحقيق الأهداف الآتية:.
1- البحث في المشاكل التي تواجه المنشآت الاقتصادية الاردنية.
2- التحقق من سلامة التوجه نحو تطبيق الحوكمة المؤسسية في المنشات الاردنية.
3- بحث إمكانيات التدقيق الداخلي للنهوض بالالتزامات الجديدة الملقاة على عاتقه، وبما يحقق أهداف التحكم المؤسسي وسيادة مصلحة المؤسسة على ما عداها.
مشكلة الدراسة:
تحاول الدراسة الإجابة على الأسئلة الآتية:
1- ما هي المشاكل التي تواجه الشركات الأردنية؟
2- هل يعتبر التوجه لتطبيق الحوكمة المؤسسية في الشركات الأردنية حلاً إيجابياً لمشاكلها؟
3- هل يستطيع التدقيق الداخلي ممارسة مهامه الجديدة الملقاة عل عاتقه وبما يحقق متطلبات التحكم المؤسسي؟
دراسات سابقة:
1- (OECD.2000) دراسة صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة، وقد حددت فيها خمسة مبادئ للتحكم المؤسسي:
1- الحفاظ على حقوق حملة الاسهم وتحقيق التكافؤ والمساواة في التعامل معهم.
2- الأمانة والسلوك المهني.
3- الحفاظ على حقوق أصحاب المصالح.
4- الحرص على الافصاح والشفافية.
5- توضيح صلاحيات ومسؤوليات مجلس الادارة.
2- (Rezaee.2003) ندوة الطاولة المستديرة للمدراء التنفيذيين لشركات الأعمال الأمريكية وقد اقترحت ستة مبادئ إرشادية للحوكمة المؤسسية وهي:
1- يقوم مجلس الادارة باختيار المدير التنفيذي للشركة (CEO) ويتولى مراقبة أنشطته والأنشطه التنفيذية للإدارة التنفيذية العليا.
2- الإدارة هي المسؤولة عن تنفيذ العمليات التشغيلية للشركة بطرق أخلاقية فعالة بهدف خلق القيمة للمساهمين.
3- الإدارة هي المسؤولة عن تحضير البيانات المالية تحت إشراف مجلس الادارة ولجنة التدقيق، بحيث تعرض بعدالة المركز المالي للشركة في تاريخ معين ونتائج عملياتها عن فترة محددة.
4- يرتبط مجلس الإدارة عن طريق لجنة التدقيق بمؤسسة تدقيق مستقلة للقيام بأداء أعمال تدقيق البيانات المالية للشركة.
5- يجب ان تحافظ مؤسسة التدقيق على استقلالها الحقيقي والظاهري وتدير أعمال التدقيق وفقاً لمعايير التدقيق المقبولة قبولاً عاماً (GAAS) وتقوم بتبليغ مجلس الادارة عن طريق لجنة التدقيق، عن أي أهتمامات تتعلق بجودة ونزاهة عملية الابلاغ المالي.
6- تقع مسؤولية التعامل مع الموظفين بعدالة ومساواة على عاتق الشركة.
3- (خنفر 2003)، بعنوان “أثر تعليمات البنك المركزي على التزام البنوك الأردنية بمتطلبات الإفصاح الواردة في المعيار الدولي رقم (30)”, أدى ظهور التحكم المؤسسي إلى زيادة الدور الذي تمارسه البنوك المركزية في رقابتها على المؤسسات الاقتصادية ويحاول هذا البحث إلقاء الضوء على مدى النجاح الذي حققه البنك المركزي الأردني في تعزيز التحكم المؤسسي من خلال التعليمات التي يصدرها والتي يسعى من خلالها إلى تحقيق الشفافية في الالتزام بمتطلبات الإفصاح وبما ينسجم مع المعيار المحاسبي الدولي رقم (30)، وقد تبين أن تعليمات البنك المركزي تتوافق مع متطلبات المعيار في جوانب أكثر من الجوانب الأخرى, وقد أوصى البحث بضرورة استمرار البنك المركزي في تطوير تعليماته المتعلقة بالإفصاح لتكون أكثر تطابقاً مع متطلبات المعيار, ومتابعة البنك المركزي لكل المخالفات التي تقوم البنوك بارتكابها بخصوص الإفصاح وتطبيق العقوبات عليها.
4- (خوري، 2003)، وهي بعنوان “أين يقف الأردن من التحكم المؤسسي…؟ “يعتقد الباحث أن التحكم المؤسسي يستند على عناصر هامة تشكل إطاره العام، وان توفر هذه العناصر يعزز من جودة التحكم المؤسسي ويزيد من فعاليته وهي متوفرة في بيئة الأعمال الأردنية برأيه وهي:
– الإطار التشريعي والرقابة الحكومية، والنظام المصرفي وسوق رأس المال والإفصاح والمعايير المحاسبية والشفافية في عمليات التخاصية والإشراف الفعلي لمجالس الإدارة والمحافظة على حقوق الملكية وحماية حقوق الأقلية.
إلا أن الباحث يعود فيقول: “لا ريب أن هنالك مجالات لتحسين وتقوية معايير التحكم المؤسسي في الأردن وإحكام تطبيقه وسد الثغرات فيه”.
(Tarif,2006)-5, الحوكمة في دول المتوسط وأفريقيا, وتضم 19 دولة وتمتد من المغرب إلى إيران, وتضم ما مساحته 7000 ميل مربع, وتمتاز بتنوع ثقافي وسياسي واقتصادي, وبكثرة تدخل دولها في الشؤون الاقتصادية, وهي تحاول تحسين اقتصادها من خلال خصخصة المشاريع العامة, كما تشعر بالحاجة إلى تطبيق مبادئ التحكم المؤسسي لحماية مجتمعاتها وجلب الاستثمارات إليها, وتعرض البحث إلى دور البنوك في تطبيق التحكم المؤسسي من خلال نقل فكر وثقافة التحكم المؤسسي إلى عملائها, وتشجيع الالتزام بمعايير المحاسبة والتدقيق الدولية, وأن التحكم المؤسسي الجيد لا بد أن يستند إلى سلوك أخلاقي معتمد على أخلاقيات العمل. وقد انتهى البحث إلى ضرورة تطوير مناهج (أخلاقيات) التحكم المؤسسي وميكانيكيات التحكم المؤسسي, وتحفيز المساهمين للمشاركة, وتحسين أطر تنظيم المنشآت, وبناء شبكات التحكم المؤسسي غير الرسمية ضمن المجتمعات المدنية والقطاع الاقتصادي والتنظيمي. وبالجملة, ولكي يعمل نظام التحكم المؤسسي فلا بد من تعزيز التشريعات القانونية والتنظيمية وبشكل دائم, ويشمل ذلك أيضا إعداد تقارير عن معايير واخلاقيات التحكم المؤسسي على غرار تقارير البنك الدولي وملاحظاته عنها.
(Bashiti & Rabadi,2006) -6 تقييم التحكم المؤسسي في الأردن, خطت الأردن خطوات واسعة في رسم وتطبيق سياسات التحكم المؤسسي, من ذلك تنظيم متطور لسوق المال, واستحداث وظيفة مراقب الشركات, وإصدار قانون تشجيع الاستثمار, وكلها قضايا نظرية لم تطبق بدقة على أرض الواقع. أجريت الدراسة على 44 شركة وتمثل ما نسبته 46% من الشركات المتداولة أسهمها في السوق المالي واختيرت على أساس حجم عملياتها , واختبرت العينة لتقييم الشفافية وسرعة الإفصاح وتوفر المعلومات, والتي لا تعتمد على مركز لإيداع الأوراق المالية. انتهت الدراسة إلى أن سوق المال الأردني يزداد تعقيدا وهو ما يتطلب أن يتم تأسيس الشركات المساهمة على مستويات عالية , ويتوقع من الإدارة رفع مستوى ودورية إعداد تقاريرها واتصالاتها حول استراتيجياتها. وقد ثبت أن التحكم المؤسسي غير مطبق بشكل تام وهو ما يتطلع إليه المستثمرون لاتخاذ قرارات رشيدة بشأن استثماراتهم, أضف إلى ذلك أن شركات كثيرة لا يوجد لديها لجنة تدقيق وهو ما نتطلع إليه من ميكانيكيات للتحكم المؤسسي في الدراسات في المستقبل.
-7 مطر ونور (2007), مدى التزام الشركات المساهمة العامة الأردنية بمبادئ الحاكمية المؤسسية: دراسة تحليلية مقارنة بين القطاعين المصرفي والصناعي, اشتملت الدراسة على دراسة ميدانية لعينة من الشركات في القطاعين المذكورين, وقد كشفت الدراسة عن نتائج من أهمها أن مستوى التزام الشركات المساهمة العامة في القطاعين يتراوح بين قوي وضعيف جدا, وأن جوانب الخلل في تطبيق النظام تترسخ بشكل رئيسي في عدم التزام مجالس الإدارة كما يجب بقواعد السلوك المهني, وعدم إشراك القاعدة العامة للمساهمين في اتخاذ القرارات الاستراتيجية للشركة, وحرمانهم من الاطلاع على محاضر اجتماعات مجالس الإدارة.
يختلف بحثنا عن الأبحاث السابقة، بأنه يمثل محاولة لإعادة النظر والبحث مجدداً في مشاكل شركاتنا والحلول التي اقترحتها الأبحاث السابقة، وتقييم نتائجها، فطالما أن مشاكل شركاتنا لازالت قائمة فهناك احتمالان:
1. اما ان تحديد مشاكل هذه الشركات غير دقيق،
2. أو أن الحلول المقترحه غير فعالة.
فرضيات الدراسة:
فرضية (1): تواجه الشركات الأردنية تعارضا بين مصالح جمهورها.
فرضية (2): يعتبر تطبيق الحوكمة المؤسسية في الشركات الأردنية حلاً إيجابياً لمشاكلها وللتعارض بين مصالح جمهورها.
فرضية (3): يستطيع التدقيق الداخلي ممارسة مهامه وبما يحقق متطلبات الحوكمة المؤسسية.
نموذج الدراسة:
متغيرات مستقلة متغيرات تابعة
التشريعات التجارية
التدقيق الداخلي الحوكمة المؤسسية
تعريفات إجرائية:
الحوكمة المؤسسية (التحكم المؤسسي): تغليب مصلحة المؤسسة على المصالح الفردية للإدارة والملاك والدائنين والعاملين وغيرهم, أو العدل بين أصحاب المصالح في المؤسسة بما يضمن استمرارها وعدم تصفيتها.
منهجية الدراسة:
تعتبر هذه الدراسة نظرية تحليلية، تعتمد في إنجازها على البيانات المستمدة من الكتب والدوريات والأبحاث السابقة, وستعنى الدراسة بالبحث في مدى التزام التشريعات والشركات الأردنية بمبادئ الحوكمة المؤسسية التي أوصت بها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة.
الدراسة النظرية:
حفلت كتب وأبحاث المؤلفين في إدارة الأعمال بالإشادات الكثيرة بالدور القيادي والريادي للإدارة، وأشارت إلى الوظائف )المهام( التي تمارسها الإدارة أو يمكن أن تمارسها (والتي يستحيل على غيرها ممارستها) من تنظيم وتخطيط ورقابة واتخاذ قرارات، مما يجعلها تستحق وتتمتع وبلا منازع بكل الحقوق والامتيازات التي كفلتها لها القوانين المختلفة والنظم واللوائح الداخلية للشركة، والتي شكلت ثقافة مجلس الإدارة والبيئة التي يعمل في ظلها بغض النظر عن أداء الشركة, إذ لم تتضمن القوانين والتشريعات المختلفة عقوبات على المخالفات الكثيرة لمجلس الإدارة إلا القليل منها, أضف إلى ذلك أنه عندما ظهر توجه لاصلاح أحوال الشركات قاومت الإدارة ذلك , وكانت النتائج المتحصلة محدودة , لذلك سيتم أولاً: دراسة أثر التشريعات على التحكم المؤسسي, ثانياً: تطبيقات التحكم المؤسسي في بعض القطاعات الاقتصادية, ثالثاً: دور التدقيق الداخلي في التحكم المؤسسي, وعلى النحو الآتي:
أولاً- أثر التشريعات المالية في التحكم المؤسسي:
**- تأثير قانون الشركات: يظهر تأثير قانون الشركات واضحاً في حياة الشركة وعملها, ويمكن ملاحظة المحطات الآتية في حياة الشركة, والأوضاع التي يقررها القانون فيها, والتي لا تتفق مع مبادئ التحكم المؤسسي, إذ لا يتم فيها معاملة المساهمين بعدالة:
1- مرحلة تأسيس الشركة: إن الأوضاع التي وصلت إليها شركاتنا إنما تبدأ من لحظة الشروع بتأسيس الشركة المساهمة العامة من قبل مجموعة المؤسسين (المتعارفين أصلاً), وهم الذين يختارون لجنة المؤسسين، ثم مجلس الإدارة فيما بعد وكذلك لجنتي التدقيق (الرقابة) والترقية, وعلى النحو الآتي:
• يجيز القانون للمؤسسين تملك وتمثيل 50% من الأسهم في البنوك وشركات التأمين من لحظة التأسيس, وحتى لو التزم المؤسسون (مؤقتاً) بامتلاك 50% من أسهم رأس مال المنشآت المالية
(بنوك أو شركات تأمين) عند التأسيس, (فقد تتم زيادتها بعد ذلك وخلال حياة الشركة), كما تصل هذه النسبة إلى 75% للمؤسس الواحد أو المؤسسين (كمجموعة), في الشركات الأخرى, وهذه نسبة تملك تعطي مجلس الإدارة امتيازاً على الإدارة (ومنذ اللحظة الأولى) على بقية المساهمين, ويبدو أن هذا
الوضع مرشح للاستمرار فقد أشار دليل حوكمة الشركات المساهمة المدرجة في سوق عمان المالي الصادر عن هيئة الأوراق المالية لعام 2007 ” أن صفة الاستقلالية قد تنتفي عن عضو مجلس الإدارة من خلال تملك 10% أو أكثر من رأسمال الشركة “, وهذا يعني تلقائيا أن مجلس الإدارة بإمكانه أن يتملك غالبية أسهم رأس المال أو كلها إذا علمنا أن عدد أعضاء المجلس من 5 -13 عضوا.
• يعتبر اجتماع الهيئة العامة العادية السنوي قانونيا إذا حضره مساهمون يحملون أكثر من 50% من الأسهم المكتتب بها, (حسب نصوص القانون), وإذا لم يتوفر النصاب يعتبر الاجتماع التالي قانونيا مهما كان عدد الأسهم الممثلة فيه؟ (مادة 170 شركات), أي أن حضور المؤسسين للاجتماع وحدهم (إذا رغبوا في ذلك), يعتبر كاف لاعتباره قانونياً, وهذا حق كفله القانون للمؤسسين لا يتمتع به غيرهم من المساهمين.
• اشترط القانون اعتراض مساهمين يحملون ما لا يقل عن 20% من الأسهم الممثلة في اجتماع الهيئة العامة (التأسيسية) الأول, حتى يقبل اعتراضهم على أي بند من بنود مصاريف التأسيس مثلاً (مادة 107 شركات), وهي المصاريف التي أنفقتها لجنة من المؤسسين على عمليات التأسيس, والسؤال الآن: لماذا يفتح الباب للمؤسسين لامتلاك هذا العدد من الأسهم من لحظة تأسيس الشركة, وبما يضمن لهم تشكيل مجلس الإدارة مستقبلاً, وإدارة الشركة لمصلحة كبار المساهمين (الإدارة), بينما توضع العراقيل أمام أية محاولة من المساهمين الآخرين لمساءلة مجلس الإدارة, أو لتخفيف هيمنته على مقدرات الشركة؟
أضف إلى ذلك أن الاقتصاد الأردني يعتبر اقتصادا موجها, بمعنى أن الدولة ترصد الاقتصاد والشركات من خلال متابعة أدائها, كما تستطيع توجيه الإدارة من خلال نفس القنوات (التشريع والمراقبة), فلماذا تؤجل الدولة الاستفادة من هذه الميزة والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تحقيق المساواة بين مساهمي الشركة الواحدة, ولماذا لا تدخل التعديلات اللازمة على مسؤولية مجلس الإدارة المنصوص عليها في قانون الشركات؟
2- الاعتراض على تصرفات الإدارة: عقّد قانون الشركات الأردني وطول الإجراءات اللازمة لمساءلة الإدارة على النحو الآتي:
*- اشترط القانون عقد اجتماع هيئة عامة غير عادية لمناقشة مواضيع مثل الفساد الإداري, واشترط تقديم طلب من حملة 25% من الأسهم المكتتب بها, أو من مدقق حساباتها أو المراقب إذا طلب ذلك مساهمون يملكون 15% من الأسهم المكتتب بها (مادة 172 شركات), ويعتبر هذا الاجتماع قانونياً بحضور مساهمين يمثلون اكثر من 50% من الأسهم المكتتب بها, وإذا لم يتوفر النصاب يؤجل الاجتماع إلى موعد آخر, إذ يعتبر النصاب فيه محققاً بحضور مساهمين يمثلون 40% من الأسهم, وإذا لم يتوفر النصاب في الاجتماع الثاني يلغى الاجتماع مهما كانت السباب الدعوة إليه, أما إذا كان موضوع النقاش في الاجتماع غير العادي للهيئة العامة تصفية الشركة أو اندماجها بغيرها يصبح النصاب في ذلك الاجتماع ثلثي أسهم الشركة المكتتب بها (مادة 173 شركات)، ونتساءل كيف يمكن تجميع حملة ما نسبته ثلثي أسهم رأس المال أو نسبة الـ40% إذا كان أعضاء مجلس الإدارة وحدهم يملكون 75% من ا سهم البنك أو 50% من الأسهم في الأنواع الأخرى من الشركات المساهمة ؟ أي أن عقد اجتماع هيئة عامة غير عادية أو مساءلة مجلس الإدارة تصبح اموراً مستحيلة! فهل يتساوى حملة الأسهم (مؤسسون وغير مؤسسين) في الدعوة إلى عقد اجتماع للهيئة العامة العادية وغير العادية وكما تنص عليه مبادئ التحكم المؤسسي؟, ولماذا هذا الحرص على مجلس إدارة ينظر إليه نسبة 15% أو 25% من المساهمين على أنه مطلوب تنحيته, وحتى نسبة الـ15% أو نسبة أل 25% من المساهمين على قلتها , فان اعتراضها يدل بكل وضوح على إجماع بقية المساهمين (من خارج مجلس الإدارة) على وجوب عزل المجلس, ولا يبقيه في مكانه إلا تأييد المؤسسين له, فأين ذلك من مبادئ التحكم المؤسسي؟
*- اشترط اعتراض مساهمين يحملون ما لا يقل عن 15% من أسهم رأس مال الشركة,( وقد خفضت النسبة إلى 10% بموجب دليل قواعد الحوكمة الجديد الصادر عن هيئة الأوراق المالية ), أو ربع أعضاء مجلس الإدارة لدى مراقب الشركات لإجراء تدقيق (إضافي) على أعمال الشركة عند الشك بوجود مخالفات بعد, (بشرط ) تقديم المعترضين كفالة لتغطية نفقات التدقيق (مادة 275/أ). والسؤال الآن: كيف يمكن تجميع تواقيع حملة ما نسبته 15% من أسهم رأسمالها (تقريباً كل المساهمين من خارج مجلس الإدارة), إذا علمت أن مجلس الإدارة (المؤسسون), يملكون 75% من أسهمها؟ ولماذا تفرض غرامة على المعترضين بتحمل نفقات التدقيق الإضافي؟ فهذه تفسر على أنها محاولة لمنعهم من ممارسة حقهم في الاعتراض على تصرفات الإدارة, وتعني أيضا انعدام المساواة في المعاملة بين مجلس الإدارة وباقي المساهمين؟
*- لماذا يطلب ممن يرغب في الاطلاع على معلومات عن الشركة (سجل المساهمين) أن يدفع بدلا نقديا؟ ( مادة
98 شركات).وهل ينسجم ذلك مع حق المساهمين في الاطلاع والحصول على المعلومات ؟
3- مرحلة استمرار الشركة ونلاحظ فيها المحطات الآتية:
* – التخلف عن دفع توزيعات الأرباح: إذا تخلفت الشركة (الإدارة), عن توزيع ما وعدت به المساهمين من أرباح في اجتماع الهيئة العامة فلا يعاقبها القانون إلا بوضع سقف زمني (موعد نهائي) مثلاً لدفع التوزيعات مع فوائد لا تتحمل الإدارة بشيء منها بل تتحملها الشركة (مادة 191/ج شركات).
*- كذلك في حالة الاكتتاب في الأسهم الجديدة لزيادة راس المال, فلا تعطى أولوية للمساهمين القدامى للاكتتاب فيها, وقد كان هذا حقا للمساهمين في قانون الشركات قبل تعديله عام 1997 وقد حرموا منه بموجب قانون الشركات رقم 22 لسنة 1997 , كذلك إذا تقرر رد الأموال المكتتب بها بالزيادة إلى أصحابها, فتدفعها الشركة مع فائدة تأخير تتحملها الشركة (وليس مجلس الإدارة) (مادة 105 شركات).
4- الالتزام بمعايير المحاسبة الدولية والشفافية عند الافصاح عن البيانات المالية, وفي ذلك ضمان لتحقيق المواءمة والعدالة بين حقوق أصحاب المصالح في الشركة , ونلاحظ فيها المحطة الآتية:
*- إذا أراد المدقق الخارجي عدم المصادقة على الميزانية وحساب الأرباح والخسائر وتدفقاتها النقدية وردها إلى مجلس الإدارة (لوجود أسباب موجبة لرفضه التوصية على الميزانية)، أعطى القانون للهيئة العامة في هذه الحالة أن تقرر(مادة 196 شركات, ومادة 40 من قانون أعمال التأمين 67 لسنة2002), ما يلي:
ا. إما الطلب إلى المجلس تصحيح الميزانية وحساب الأرباح والخسائر وفقاً لملاحظات مدقق الحسابات، واعتبارها مصدقة بعد هذا التعديل, ويصدر المدقق تقريرا نظيفا.
ب. أو إحالة الموضوع إلى المراقب لتعيين لجنة خبراء من مدققي حسابات قانونين للفصل في موضوع الخلاف بين مجلس إدارة الشركة ومدققي حساباتها، ويكون قرار اللجنة ملزماً بعد عرضه مرة أخرى على الهيئة العامة لا قراراه ويتم تعديل الميزانية وحساب الأرباح والخسائر تبعا لذلك, ويصدر المدقق بعدها تقريرا نظيفا.
ج- تحقيقاً لغايات الفقرة (ب) من هذه المادة، يمارس المراقب صلاحياته بالتنسيق مع البنك المركزي وهيئة الاوراق المالية وهيئة قطاع التأمين حسب مقتضى الحال.
أي ان هذه المادة تطلب من الادارة تعديل البيانات أي الالتزام شكلاً بالمعايير المحاسبية (وليس تعديل الدفاتر والالتزام فعلاً وحقيقه بالمعايير المحاسبية), علماً بأن هذا الالتزام من أبجديات الافصاح والشفافية والحوكمة المؤسسية، مما يعني أن الالتزام بالحوكمة المؤسسية في الاردن لا زال بعيد المنال وأمامه شوط طويل ليقطعه, ومثل هذه المواد كثيرة في ثنايا التشريعات المختلفة، أي أن الثقافة التي يتلقاها أعضاء مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية وكل من يتصدى للعمل الاداري، إضافة إلى التشريعات التي تحمي تصرفاتهم مهما كانت نتائجها, وتقديم المصلحة الشخصية للادارة على ما عداها في غياب الرادع الأخلاقي، هي التي يجب أن يتم الالتفات إليها وتعديلها لتلائم روح العصر أو التحكم المؤسسي، لقد حدثت انحرافات في دول كثيرة مثل بريطانيا وأمريكا وغيرها وكما حدث مؤخرا في بنك سوستيه في فرنسا، الا أن هذه الدول قد أجرت التعديلات على قوانينها ومعايير المحاسبة والتدقيق فيها، ومع أن ذلك لم يمنع انحرافات الإدارة مجدداً في منشآتها ولم يحل المشكلة (العربيد, 2003), إلا أن هذه الدول تستمر بالمراقبة والمتابعة لتصحيح الخلل اذا حدث.
5- إقالة رئيس مجلس الإدارة: يشترط قانون الشركات تجميع تواقيع حملة أسهم لا تقل عن 30% من أسهم الشركة لاقالة رئيس مجلس الادارة أو أي عضو فيه (مادة 165 شركات), وقد خفضت النسبة إلى 20% بموجب دليل قواعد الحوكمة الجديد لعام 2007 , والسؤال الآن: كيف يمكن تجميع تواقيع حملة ما نسبته 15% او 20% او 30% من أسهم الشركة اذا علمت ان مجلس الادارة (المؤسسون) يملكون 75% من أسهمها؟, ولماذا ” يمنع مدقق الحسابات من اذاعة اسرار الشركة للمساهمين فرادى او مجتمعين في مقر اجتماع الهيئة العامة للشركة او في غيره من الامكنة والاوقات او الى غير المساهمين , وإلا وجب عزله ومطالبته بالتعويض “( مادة202 شركات)., اذ كيف ستضمن تجميع مساهمين يحملون ما نسبته 30% أو 20% أو حتى 15% من الأسهم إذا لم تصلهم المعلومات من مصادر موثوقة مثل مدقق الحسابات؟ فهذه المادة تجعل الاعتراض على تصرفات الإدارة وبالتالي مساءلتها شبه مستحيلة، أو أنها تجعل الإدارة في مأمن من المساءلة، فهل تنسجم هذه المادة مع مبادئ التحكم المؤسسي التي أعلنتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للامم المتحدة؟ بل مع أهم مبادئها وهو مبدأ “تحقيق المعاملة العادلة لحملة الأسهم”, ومبدأ “الحرص على الإفصاح والشفافية”؟
6- مرحلة التصفية وارتكاب مخالفات قانونية: تصفى الشركة المساهمة العامة تصفية اختيارية لواحد من الاسباب الآتية: انتهاء مدة الشركة أو غايتها أو صدور قرار من هيئتها العامة (مادة 259 شركات), وهي ظروف معلنة للجميع ويكاد يتساوى فيها دور الادارة بدور بقية المساهمين, أما التصفية الاجبارية وتقع لأسباب منها: ارتكاب مخالفات قانونية, أو العجز عن سداد ديون الشركة أو اذا توقفت عن العمل لمدة سنة كاملة بدون مبرر, أو إذا زاد مجموع خسائرها على75% من رأسمالها (مادة 266 شركات), وكلها أسباب يمكن اعتبار الادارة مسؤولة عنها, لكن يتحمل تبعاتها جمهور الشركة كله وأصحاب المصالح ولا تغرم الادارة بشئ إلا إذا أساءت استعمال أموال الشركة تحت التصفية (مادة 257/أ شركات), أو أن بعض أعمال الشركة تحت التصفية قد أجريت بقصد الاحتيال على دائنيها (مادة 257/ب)، أو ثبت أن الشركة لم تحفظ دفاتر حسابات منظمة قبل تصفيتها, فيعتبر مديرها ومدقق حساباتها قد ارتكبا جرما(مادة279 /ب), أي أن مجلس الإدارة لا يعاقب لا بالغرامة المالية ولا بالسجن الا اذا ارتكب مخالفة قانونية، تمثل اعتداءاً على سلطة الدولة وحقها في تحصيل ضرائب صحيحة (مادة 278), من خلال اصدار أسهم أو سندات بصورة غير قانونية أو نظم حسابات بصورة غير مطابقة للواقع أو كتم معلومات عن المساهمين أو ذوي العلاقة (مادة: 278-279 شركات), وهي أسباب كان يمكن تجنب عواقبها لو التزمت الادارة بمبادئ وأخلاقيات التحكم المؤسسي, أي أن التشريعات الأردنية عموما وقانون الشركات خصوصا لم تحقق نصوص موادها توازنا بين مصالح الإدارة وبقية المساهمين , بل أولت جل عنايتها لمصلحة الإدارة حتى لو تعارض ذلك مع مصالح باقي جمهور الشركة , أي أن الشركات الأردنية تواجه تعارضا بين مصالح جمهورها مما يعني الحادة إلى إزالة هذا التعارض بتشريع وتطبيق حوكمة للشركات ,تشمل تعديل التشريعات بما يحقق توازنا بين حقوق أصحاب المصالح في الشركات , ويمكن الاشارة الى بعض القضايا الاساسية في هذا الاتجاه
( على سبيل المثال) :-
1. الدعوة إلى إصدار وتبني تطبيق ميثاق لأخلاقيات المهنة في الشركات الأردنية.
2. انتخاب أعضاء مستقلين في مجلس الإدارة (من خارج المساهمين), والنص قانونياً على نسبتهم أو عددهم.
3. تقييم دوري لأداء مجلس الادارة واجراء التغييرات المناسبة بناء على ذلك.
4. اشراك المساهمين في اقتراح بنود محضر اجتماع مجلس الادارة
5. النص على أن تكون قرارات مجلس الادارة وتعامله مع المساهمين افرادا وجماعات بطريقة عادلة.
6. السماح بتشكيل مجلس ادارة في الظل ( بديل ورديف لمجلس الادارة).
7. منح المساهمين القدامى الاولوية في الاكتتاب في الاسهم الجديدة المطروحة لزيادة رأس المال.
8. إلزام الشركات بموجب قانون الشركات أو نظمها الداخلية بحد أدنى من توزيعات الأرباح سنوياً.
9. السماح للمساهمين بالتصويت عبر الانترنت في اجتماعات الهيئة العامة.
10. انشاء وحدة لادارة المخاطر في الشركات.
11- السماح بتزويد المساهمين أفراد وجماعات بكل المعلومات التي يحتاجونها من الشركة مجانا ودائما.
12- تمليك العاملين الحاليين والمتقاعدين أسهما في رأس المال لتقوية علاقتهم بالشركة واستمرارها وتحقيق رقابة إضافية على أموالها وممتلكاتها.
ثانياً- تطبيقات التحكم المؤسسي في الاردن:
* في المؤسسات المصرفية: أصدر البنك المركزي الأردني عام 2004 كتيب إرشادات لأعضاء مجالس الإدارة في البنوك، وقد اصدر في عام 2007 دليل الحاكمية المؤسسية للبنوك في الأردن بهدف توفير معيار لأفضل الممارسات الدولية في هذا المجال, واستنادا إلى ما جاء في مبادئ الحاكمية المؤسسية الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD, وإرشادات لجنة بازل حول تعزيز الحاكمية المؤسسية في المؤسسات المصرفية، ومع كل هذا فإن كبريات المؤسسات المصرفية الأردنية لم تلتزم بكل ما جاء في الكتيب والدليل والمبادئ والإرشادات, مما يعني وجود مراكز قوى تدافع عن مكتسباتها ومصالحها, والمتعارضة مع المصالح
التي حاول الكتيب والدليل والمبادئ والإرشادات رعايتها ومراعاتها، وهذه مراكز كما يبدو ليست – مقتنعة بالتحكم المؤسسي إلا ظاهرياً (في الظاهر) ومعارضة له في الواقع، ويتمثل ذلك في:
1_ لم يتحقق في الأردن حتى الآن فصل بين الملكية والإدارة حتى في الشركات المساهمة العامة, إذ يجيز قانون الشركات رقم 22 لسنة 1997 للمؤسسين تملك 75% من الأسهم في البنوك وشركات التأمين و50% من الأسهم في الشركات المساهمة الأخرى , وهم الذين يختارون مجلس الإدارة واللجان المنبثقة عنه.
2- لم تستجب الإدارة في هذه المؤسسات للدعوة للفصل بين وظيفتي رئاسة مجلس الإدارة والمدير العام أو نائب رئيس مجلس الإدارة حتى اللحظة, وحتى بعد صدور دليل الحاكمية المؤسسية عن البنك المركزي الأردني, خصوصاً في البنوك.
3- لم تستجب إدارات البنوك لتوصيات البنك المركزي بدمج البنوك لزيادة قدرتها التنافسية, دفاعاً عن مكتسباتها وعدم رغبتها في التضحية بالمناصب الإدارية برغم ما في ذلك من مصلحة لكل أصحاب المصالح في البنك. (جريدة الغد: 10/3/2008).
4- لم تتفق التشريعات المالية المختلفة على منهج محدد للاصلاح ومعالجة القضايا المتشابهة, من ذلك عدم اتفاق النص على مهام مجلس الادارة في قانون الشركات مع ما نص عليه قانون البنوك رقم 28 لسنة 2008 مادة 28/ والتي تلزم مجلس الادارة بمهام كثيرة وبشكل دوري ودائم على النحو الاتي:
فقرة (ه): “التحقق من عدم تحقيق أي عضو في مجلس إدارة البنك أو أي موظف في إدارته العليا أية منفعة ذاتية على حساب مصالح البنك”،
فقرة (و): “اتخاذ كافة الخطوات الكفيلة لتامين دقة المعلومات التي يزود بها البنك المركزي بمقتضى قانونه وبموجب أحكام هذا القانون”،
فقرة (ز): “اتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بالتقيد بأحكام هذا القانون, وأي تشريعات أخرى ذات علاقة بأعمال البنك”,
فقرة (ح): “وضع الأنظمة والتعليمات الداخلية للبنك التي تحدد مهام أجهزته المختلفة وصلاحياتها التي تكفل تحقيق الرقابة الإدارية والمالية على أعماله”, إذ لا يتضمن قانون الشركات أيا من هذه الإجراءات للتحقق من تصرفات مجلس الإدارة في حال حياة الشركة , إلا إذا تعرضت الشركة لأوضاع مالية أو إدارية سيئة, أو تعرضت لخسائر جسيمة تؤثر في حقوق المساهمين أو حقوق دائنيها, أو قيام أي من أعضاء المجلس أو مديرها العام باستغلال صلاحياته ومركزه بأي صورة كانت لتحقق له أو لغيره أي منفعة بطريقة غير مشروعة…. فعلى رئيس مجلس ادارتها أو أحد أعضائها أو مديرها العام أو مدقق حساباتها تبليغ المراقب بذلك”… مادة 168 شركات.
5- لم يتفق الباحثون فيما بينهم على اعتبار ما هو أساسي وضروري للإصلاح وللحوكمة، أو موقف الحوكمة في الدولة هل هو إلى الأفضل أم إلى الأسوأ؟ إذ يرى باحث “أن البيئة التشريعية في الأردن جاهزة لتكون أساساً لتطوير إجراءات تحكم مؤسسي جيـد” (سابا: 2003), ويعود نفس الباحث ليشير إلى جوانب النقص في التطبيقات الأردنية في التحكم المؤسسي، كعدم تأليف لجان تدقيق في بعض الشركات وعدم الفصل بين وظيفة
رئيس مجلس الإدارة ووظيفة المدير العام، وعدم الاهتمام بتقوية التدقيق الداخلي أو عدم عقد اجتماعات مجلس الإدارة بدون حضور المدير العام في بعض الحالات (سابا :2003).
ويرى باحث آخر انه رغم دقة النصوص في قانون الشركات وتوسعها في معالجة معظم الجوانب التي تحكم عمل الشركات، غير أن بعضا من أحكامه انتزع من أصحاب رأس المال جانباً من صلاحياتهم لصالح أدوات الرقابة الرسمية كدائرة مراقبة الشركات ووزير الصناعة والتجارة في الأردن، كما أحالت بعض التشريعات الأخرى بعض الصلاحيات إلى جهات أخرى كالبنك المركزي أو مديرية مراقبة أعمال التأمين أو دائرة ضريبة الدخل أو هيئة الأوراق المالية كل بحسب طبيعة القطاع الذي تتبعه (معمر، 2003) وهذا إجراء جاء بعد أن أفلست تلك الجهات من إمكانية تعديل قانون الشركات بما يحقق مصلحة الشركات وجمهورها والتحكم المؤسسي تبعا لذلك, وهو إجراء نعتقد أنه ضروري لتقليص دور الإدارة، لان الإدارة والملكية في الأردن لم يتم الفصل بينهما.
6- لم يتفق الباحثون على منهج للإصلاح وللسير في إجراءات الحوكمة فقد أثبتت الأحداث التي حلت بالكثير من المنشآت والمؤسسات الاقتصادية في مختلف الدول أهمية التحكم المؤسسي ورقابة الهيئات المختلفة على المؤسسات الاقتصادية فيها بل وضرورة امتداد رقابة هذه الهيئات إلى العديد من النواحي الاقتصادية والقانونية والاجتماعية الهادفة إلى صالح الأفراد والمجتمعات ككل، وبما يضمن تحقيق التنمية الشاملة، (خنفر،2003)، إلا أن هناك باحثاً آخر يعتقد أن التجربة العملية قد أثبتت أن إصدار التشريعات المالية لتنظيم أعمال البنوك وبالتالي لتحقيق الإفصاح الكامل عن المعلومات المالية لم يحل المشكلة (العربيد، 2003) .
7- خطة الإصلاح : بمقارنة نصوص قانون الشركات بمبادئ الحوكمة الصادرة عن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التابعة للأمم المتحدة, مقارنة بقصد تحديد وتطوير دور قانون الشركات في الإصلاح والحوكمة, يتضح أن قانون الشركات بحاجة إلى معالجة القضايا الضرورية ( كما سبق), مع الاستعداد الدائم لاجراء التعديلات في التشريعات والنظم والتعديلات المختلفة بما يسهل ويسرع تطبيق اجراءات الحوكمة ومتابعتها ورقابة تطبيقها وتقييمها , ويمكن الاشارة الى بعض الاجراءات المهمة في هذا الاتجاه:
1- اصدار نشرة دورية عن انجازات ومعوقات حوكمة الشركات تصدرها هيئة الاوراق المالية.
2- ربط أجهزة حوكمة الشركات بأجهزة محاربة الفساد لضمان رقابة جهات أخرى على عمليات الحوكمة.
ثالثاً- دور التدقيق الداخلي في التحكم المؤسسي: في ظل الرغبة في إصلاح أوضاع الشركات ووضع مصلحتها في المقام الأول، ولتعديل تصرفات الإدارة بما يحقق التوازن بين المصالح المختلفة في الشركة، يعتقد أحد الباحثين كحل للمشكلة بان التدقيق الداخلي جزءا من الحل، “بحيث يجب أن ينظر إلى وظيفة التدقيق الداخلي على أنها الأكثر تأهيلاً للمساعدة في تحسين التحكم المؤسسي فضلاً عن تدعيم عملية الرقابة الأساسية، أي الرقابة على أدوات الرقابة وتقييم الفعالية التشغيلية الخاصة بالاستراتيجيات والمبادرات الإدارية, وحتى يتمكن المدققون
الداخليون من الاستفادة من هذا النمو المتعاظم في الطلب على خدماتهم… فإنهم بحاجة إلى رفع مكانتهم التنظيمية “(جمعه،2003)، “وإلزام المدققين الداخليين بالإطار الجديد لممارسة المهنة كشركاء للإدارة في التحكم المؤسسي” (جمعه،2003)، باعتبار التدقيق الداخلي أحد عناصر التحكم المؤسسي, من خلال دوره في:
1- طمأنة الإدارة على تطبيق سياساتها في جميع أقسام المنشأة, ومدى نجاح هذا التطبيق.
2- ضمان صحة البيانات والاحصائيات التي تقدم للادارة.
3- حماية أموال المنشأة وحماية خطط الادارة ضد الانحراف.
4- ايجاد معايير تستخدم في الحكم على الممارسة العملية للمراجعة ( الرقابة) الداخلية مبنية على مجموعة من الأهداف والمبادئ.
5- تقييم الجوانب الرقابية في التنظيم بما يساعد الادارة في أداء وظائفها.
6- استقلال المراجعة الداخلية استقلالا تاما عن باقي الادارات وعدم تبعيتها لأي منها.
7- تبعيتها للادارة العليا لضمان تطبيق توصياتها بسرعة.
8- أن تتم ممارستها لمهامها بناء على سلطات صريحة مكتوبة (مدونة) في وثيقة (ميثاق) تأسيسها, وأن تكون بقية الإدارات على علم بحقوقها وسلطاتها وصلاحياتها.
9- تحديد علاقة إدارة الشركة بملاكها وأصحاب المصالح فيها ضمن نصوص (مواد) القوانين والقواعد والمعايير, وبما يضمن:
* – أن لا تسئ الادارة استغلال أموال الملاك.
* – ضمان سعي الادارة والمستثمرين الى تعزيز ربحية الشركة وقيمة الأسهم في الأجل الطويل.
*- توفير بيئة رقابة فعالة, واعداد نظام رقابة داخلية فعال, مع تشكيل لجنة تدقيق.
*- تمكين المستثمرين (المساهمين) من رقابة الإدارة بشكل فعال, وتأكدهم أن الإدارة لا تسئ استخدام أموالهم.
*- تفهم المراجعين ( المدققين) الداخليين لمبادئ الحوكمة ودورهم الأساسي حيال ضمان الالتزام بها وذلك بتأهيلهم علمياً وعملياً لذلك.
هذا وقد أسند دليل حوكمة الشركات المساهمة الصادر عن هيئة الأوراق المالية الأردنية , أسند إلى مجلس الإدارة من خلال التعريف بمهامه وصلاحياته ومسؤولياته ما يلي :
” اتخاذ الخطوات الكفيلة بتحقيق الرقابة الداخلية على سير العمل في الشركة بما في ذلك إنشاء وحدة خاصة للرقابة والتدقيق الداخلي مهمتها التأكد من الالتزام بتطبيق أحكام التشريعات النافذة ومتطلبات الجهات الرقابية والأنظمة الداخلية والسياسات والخطط والإجراءات التي يضعها مجلس الإدارة.
أن مثل هذا الدور للتدقيق الداخلي يمكن أن يوجد “أوجه نزاع محتملة بين التدقيق الداخلي والتحكم المؤسسي (جمعه،2003)، وكذلك بين التدقيق الداخلي والإدارة حتى في ظل معايير التدقيق الداخلي الجديدة، التي “توجب على مجلس الإدارة الإفصاح عن تقييمه لفعالية الرقابة الداخلية داخل المنظمة (تقريره عن الرقابة الداخلية) مع التقرير عن المعلومات المالية” (Bishop:2002).
لقد أصبح مطلوباً من الإدارة تقييم فعالية التدقيق الداخلي، وأصبح مطلوباً من التدقيق الداخلي الرقابة على أدوات الرقابة وتقييم الفعالية التشغيلية الخاصة بالإستراتيجيات والمبادرات الإدارية فأي وضع شائك وصلنا إليه، لقد وصلنا إلى وضع يمكن أن يتم فيه اتفاق مصالح بين الإدارة والمدققين الداخليين، وقد يتم تجييره لصالح الطرفين فقط وليس لصالح بقية الأطراف في المنشأة أو لصالح المنشأة, وقد يؤدي ذلك إلى بروز مركز قوة جديد داخل المنشأة (التدقيق الداخلي), قد يوجه قوته ضد الإدارة وضد التحكم المؤسسي تبعاً لذلك,وقد أثبتت الأحداث والآزمات المالية المتلاحقة وآخرها أزمة البنوك علة مستوى دولي أن كل شئ ممكن من غش وتزوير وغسيل أموال وإهمال الالتزام بالقواعد السليمة للعمل , أضف إلى ذلك انه يصعب قيادة المنشأة في حال وجود قوتين حتى وان كانتا متفقتين أو متفاهمتين.
وفي نهاية المطاف يمكن اثارة التساؤلات ألآتية:
1-هل هناك توازن بين سلطة مجلس الادارة والأطراف الأخرى في الشركة؟
2-هل تدار الشركات الاردنية بما يحفظ حقوق حملة الاسهم؟
3-هل يتم ازكاء دور اصحاب المصالح؟
4-هل تراعى الشفافية عند الافصاح عن بيانات الشركة وقوائمها المالية؟
5- هل تؤدى الأعمال التشغيلية للمنشاة بطرق أخلاقية فعالة؟
6-هل يتم التعامل مع الموظفين بعدالة ومساواة؟
7- هل تتم مساءلة مجلس الإدارة عن إدارة الشركة؟
8- هل تنوي الحكومة الأردنية وضع دليل حوكمة الشركات المساهمة موضع التطبيق ومتابعة هذا التطبيق؟
النتائج:
1- اتضح أن الشركات الأردنية لا زالت (حتى اللحظة) تعاني من مشكلة تعارض المصالح بين جمهورها, وانفراد الإدارة بالحظ الأوفر من عوائدها, بدعم من نصوص التشريعات المالية المختلفة.
2- عدم الفصل بين الملكية والإدارة, وعدم الفصل بين وظيفة رئيس مجلس الإدارة والمدير العام أو نائب رئيس مجلس الإدارة.
3- بطء عمليات التحكم المؤسسي بسبب اختلاف الباحثين حول مشاكل الشركات وطرق حلها.
4- ضعف أجهزة الرقابة الخارجية والداخلية عن الإسهام الحقيقي في تحديد وابراز مشاكل الشركات لعدم توفر استقلالية لها, لا في التعيين ولا في تحديد الأتعاب أو في إصدار التقارير.
5- عدم وجود تدقيق داخلي في الكثير من الشركات , وكذلك لجان التدقيق (لجان الرقابة).
6- تشتت وتوزع مبادئ التحكم المؤسسي في أكثر من قانون أو نظام من النظم والتشريعات المالية (قانون الشركات, قانون البنوك, قانون تنظيم أعمال التأمين, قانون السوق المالي, مبادئ ومعايير الافصاح الصادرة عن هيئة الاوراق المالية, دليل الحوكمة الصادر عن البنك المركزي, دليل أخلاقيات العمل الصادر عن البنك العربي), وعدم تجمعها في قانون واحد فاختلط الأمر على البعض حول: ما هو الالزامي وغير الالزامي من هذه القوانين, وما هو القاون الذي تخضع له شركة ما دون غيره من القوانين؟
الاستنتاجات:
يستنتج البحث:
1- أن المشاكل التي تعاني منها المنشآت الأردنية لم يتم تحديدها بدقة، أو أن الحلول المقترحة كالحوكمة المؤسسية لم تكن الحل الجذري لهذه المشاكل.
2- أن تطبيق الحوكمة المؤسسية يحتاج إلى مقدمات لضمان نجاح عملية الحوكمة المؤسسية مثل:
• تحقيق فصل للملكية عن الإدارة في الشركات وفي التشريعات الاردنية.
• وقف تدخل الادارة في تعيين المدققين الخارجيين واعلانهم لتقاريرهم وفي الافصاح عن آرائهم.
• تجانس مهام مجلس الإدارة حسب قانون الشركات مع ما ورد في قانون البنوك رقم 28 لسنة 2002 أو في مبادئ التحكم المؤسسي الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي التابعة للأمم المتحدة, خصوصاً النص على “التأكد من عدم تحقيق أي عضو في مجلس الإدارة أو أ ي موظف في إدارته العليا أي منفعة ذاتية على حساب مصالح البنك ” (مادة 21/ه ), وكذلك “اتخاذ الخطوات الكفيلة لتأمين دقة المعلومات التي يزود بها البنك المركزي” (مادة 21/و).
• تحجيم دور الإدارة في الشركات الاردنية لصالح الاطراف الاخرى صاحبة العلاقة في الشركات.
* مراجعة أخلاقيات العمل التجاري, فقد بدأت الأزمة المالية العالمية من الدول التي انطلقت منها الدعوة إلى الحوكمة وطبقت فيها , ومن البنوك فيها بالذات , وكشفت عن تورط الإدارات فيها في تلاعبات كثيرة ولفترات طويلة, مما يوحي بان الحوكمة ليست هي الحل لكل المشاكل , ولكن المشكلة تنبع من فساد أخلاقي لا يجدي معه ما يدرس في الجامعات ومعاهد التعليم المختلفة من أخلاقيات ومبادئ . لقد آن الأوان لمراجعة أخلاقيات العمل التجاري والمهني , واعتماد الأخلاقيات الدينية أساسا للعمل التجاري والمهني معا , فقد أثبتت هذه الأخلاقيات جدواها , إذ وجهت جهود البشر والمصلحين في كل الأزمان , والتي أصبح الناس في أشد الحاجة إليها , وهو المجال الذي يجب أن تتجه إليه جهود الباحثين مستقبلا , بحثا وتطبيقا.
التوصيات:
1- تحقيق الفصل بين الملكية والإدارة في الشركات الأردنية, وبما يضمن اختيار الإدارة الكفؤة والاستقلالية لمدقق الحسابات.
2-ضمان التداول السلمي للسلطة (الإدارة) في الشركات، إذ لا يعقل ان لا يتم تغيير الإدارة إلا بالموت!! مع
النص على ضرورة ايجاد مدراء في الظل في تشكيلات مجالس الادارة.
3-إعادة صياغة التشريعات المالية الأردنية خاصة قانون الشركات لتحقق في مجملها مبادئ التحكم المؤسسي وأهدافه.
4-الاستناد إلى التحكم المؤسسي عند اختيار أعضاء مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية، بحيث تعتمد الكفاءة (اختيار القوي الأمين)، وبما يضمن ولاءه للتحكم المؤسسي وليس للمصلحة الذاتية, مع النص على ضرورة وجود أعضاء مستقلين في مجلس الإدارة والشروط الواجب توفرها فيهم.
5- تضمين قانون الشركات وغيره من التشريعات المهنية أو دليل التحكم المؤسسي عقوبات محدده مقابل كل مخالفة قانونية أو مسلكية لأعضاء مجلس الإدارة وغيرهم.
6- اطلاق يد المدققين الخارجيين لاعلان تقاريرهم حول الشركات موضع التدقيق بغض النظر عما تتضمنه هذه التقارير من آراء مع ضرورة تغيير المدقق دوريا حسب معايير التدقيق الدولية.
7- ايجاد أقسام للتدقيق الداخلي ولجان تدقيق في الشركات المساهمة العامة المختلفة, ووحدة لادارة المخاطر ولجنة ترقيات ولجنة للحوكمة ولجنة الالتزام.
8- اعداد دليل لأخلاقيات العمل في الشركات الاردنية (وليس للبنوك فقط), مع ضرورة تعديله ليساير التطورات في بيئة العمل.
9- تضمين التقارير المالية للشركات عن مدى التزام ادارات الشركات ببنود دليل التحكم المؤسسي, وأسباب عدم الالتزام بأي بند لم يتم تطبيقه.
10- اعداد تقارير دورية عن مدى التزام الشركات بمبادئ ومعايير التحكم المؤسسي.
11- إجازة التصويت إلكترونياً في اجتماعات الهيئة العامة, أسوة بإجازة الإثبات الإلكتروني لعمليات البنوك والمقاصة الإلكترونية للشيكات بين البنوك.
12- تحقيق العدالة بين المساهمين في الحصول على المعلومات والحقوق الأخرى , وتمليك العاملين أسهما في رأس المال لضمان واستمرار ولائهم للشركة , والمحافظة عليها ورقابتها .
المراجع:
1- خنفر، مؤيد راضي، “أثر تعليمات البنك المركزي على التزام البنوك الأردنية بمتطلبات الإفصاح الواردة في المعيار الدولي رقم (30). المؤتمر العلمي المهني الخامس 24-25 أيلول 2003، جمعية المحاسبين القانونيين الأردنيين.
2- Rezaee, Z. Kingsley ,O.O and Mimmier, G.(2003), Improving Corporate Governance: The Role of Audit Committee Disclosures, Managerial Auditing Journal.Vo1.18 Issue 6/7, pp: 530-537.
3- معمر، غسان، أوضاع التحكم المؤسسي بين المحاسبة والقانون “المؤتمر العلمي المهني الخامس – جمعية المحاسبين القانونيين الاردنيين، عمان 24-25/9/2003.
4- سابا، نعيم، أين يقف الاردن من التحكم المؤسسي..؟ ” المؤتمر العلمي الخامس، جمعية المحاسبين القانونيين، عمان 24-25/9/2003.
5- العربيد، عصام فهد، معايير الافصاح في القوائم المالية الخاصة بالبنوك بين التحكم المؤسسي ورقابة البنك المركزي, المؤتمر العلمي المهني الخامس, جمعية المحاسبين القانونيين الاردنية, 24-25 أيلول 2003.
6- دائرة مراقبة الشركات، قانون الشركات الأردني رقم 22 لسنة 1997 وتعديلاته.
7- البنك المركزي الأردني (2007) دليل الحاكمية المؤسسية (التحكم المؤسسي) للبنوك في الاردن.
8- مجموعة البنك العربي – التقرير السنوي للعام 2006.
9-جمعه، حلمي “التحكم المؤسسي وأبعاد التطور في إطار ممارسة مهنة التدقيق الداخلي “المؤتمر العلمي المهني الخامس 24-25 أيلول 2003، جمعية المحاسبين القانونيين الأردنيين.
10- الواكد، ماهر، الحوكمة الرشيدة والمنشآت المالية، مجلة المدقق، العدد (71-72)، حزيران 2007 ص 22.
11- Bishop, Williams, “Three Routes to Improve Corporate Governance” ,The Institute of Internal Auditors, http: www-theia. org, May 2002, PP. 1-7.
12- قانون تنظيم أعمال التأمين رقم 67 لسنة 2002, جريدة رسمية بتاريخ 17/11/2002, عدد 4572 صفحة 5482.
13- Tariff, Jalil, ”Corporate Governance in the Middle East and North Africa (MENA) Region, Arab Bank Review, Volume 8, No. 1, April 2006.
14- Bashiti, Lubna, S; Rabadi, Aram, Y; Assessing Corporate Governance in Jordan, The Arab Bank Review, Vol.8,No.1 April 2006.
15- هيئة الأوراق المالية, (2007), دليل قواعد حوكمة الشركات المساهمة المدرجة في بورصة عمان , .
لماذا لا تكون اول معجب
بحث مميز عن شركة الشخص الواحد .
الدكتور عبد الله الخشروم
الملخص
استحدث قانون الشركات الأردني شركة الشخص الواحد في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة بموجب القانون رقم (2) لسنة 1997 والقانون المعدل له رقم (40) لسنة 2002 وكل من الشركة المساهمة العامة بموجب القانون المعدل رقم (40) لسنة 2002، والشركة المساهمة الخاصة بموجب القانون المعدل لقانون الشركات رقم (4) لسنة 2002، إلا أن هذه الشركة تواجه مشاكل قانونية وعملية تفقدها أهميتها ومبررات وجودها، ولذلك يهدف هذا البحث الى دراسة شركة الشخص الواحد ومبررات وجودها وبيان الصعوبات القانونية التي يثيرها تبني هذه الشركة في ظل النظام القانونية الأردني، كما يهدف هذا البحث الى اقتراح الحلول لقانونية لمواجهة هذه الصعوبات.
Abstract
The new Jordanian Companies Act No (22) of 1997 and the amended Act No (40) of 2002 introduced One Man Company in the limited liability Company and both of the public limited company and the private limited liability company as it was introduced by the amended Act No (4) of 2002, but such company meets legal and practical difficulties which nullified its importance and justifications. Therefore, this paper aims to study One Man Company and its justifications and to clarify the difficulties which face such company in the Jordanian legal system; this paper aims also to suggest legal solutions to overcome such difficulties.
المقدمة
إن الهروب من شبح المسؤولية الشخصية للتاجر عن كل ديونه والتزاماته هي التي دفعت باتجاه التفكير نحو تحديد مسؤوليته منذ زمن بعيد على المستوى الفقهي والقضائي والتشريعي(1). وقد كانت بداية المحاولات نحو تحديد مسؤولية التاجر بإنشاء الشركة ذات المسؤولية المحدودة والتي منها وجدت شركة الشخص الواحد وذلك منعاً لإنتشار الشركات الوهمية أوالصورية. ويُرجع الفقه فكرة إنشاء شركة الشخص الواحد إلى تشريع أمارة ليشتنشين (Liechtenstein) حين سمح القانون المدني في 5/11/1925 تأسيس المشروع الفردي للتاجر مع تحديد مسؤوليته عن ديون والتزامات هذا المشروع،(2) كما أجاز قانون الأفراد والشركات لعام 1926 تأسيس شركة من شخص واحد. (3)
وأخذ قانون الشركات الألماني الصادر عام 1980 بالشركة ذات المسؤولية المحدودة المكونة من شريك واحد، علما بأن القضاء الألماني كان قد اعترف بهذا النوع من الشركات منذ عام 1884 عندما أكدت محكمة الإمبراطورية القيصرية أن اجتماع كل حصص الاتحاد النقابي للمناجم محدودة المسؤولية في يد شخص واحد لا يؤدي إلى حل هذا الاتحاد(4)، وفي هذا اعتراف من القضاء الالماني بالتكوين غير المباشر للشركة ذات الشخص الواحد. وتبنى قانون الشركات الفرنسي الصادر عام 1985 الشركة ذات المسؤولية المحدودة المكونة من شريك واحد سواء أكان الشخص طبيعيا أو معنويا ليتلائم مع متطلبات الحياة الاقتصادية الحديثة، (5) كما أخذ قانون الشركات البلجيكي الصادر عام 1987 بهذه الشركة في اطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة مع عدم امكانية الشخص الطبيعي تكوين أكثر من شركة شخص واحد، (6) واستحدث القانون الإنجليزي شركة الشخص الواحد (One-Man Company) عام 1992(7) مع العلم أن القضاء الإنجليزي كان قد أقر شركة الشخص الواحد الفعلية في القضية المشهورة (Aaron Salomon and Company Limited)(8) عام 1897.
وقد استحدث قانون الشركات الأردني لسنة 1997(9) شركة الشخص الواحد في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة(10) عندما أجاز لوزير الصناعة والتجارة بتنسيب مبرر من مراقب الشركات الموافقة على تسجيل شركة ذات مسؤولية محدودة مؤلفة من شخص واحد (م53/ب). إلا أن هذه المادة عُدلت بموجب القانون المؤقت رقم (40) لسنه 2002(11) بحيث أصبح يجوز لمراقب الشركات الموافقة على تسجيل شركة ذات مسؤولية محدودة تتألف من شخص واحد أو أن تصبح مملوكة لشخص واحد. وأجازت المادة (90/ب) بموجب القانون المعدل لقانون الشركات رقم (40) لسنة 2002 إستمرار الشركة المساهمة العامة بمساهم واحد وذلك في حالة شرائه كامل أسهمها، كما اجازت المادة ( 65 ) مكرر من القانون المعدل لقانون الشركات رقم (4) لسنة 2002(12) تسجيل شركة مساهمة خاصة(13) مؤلفة من شخص واحد أو أن يصبح عدد مساهميها شخصاً واحداً وذلك بناء على تنسيب مبرر من مراقب الشركات .
وبما أن قانون الشركات الأردني لم يفرد لشركة الشخص الواحد تنظيما قانونيا مستقلا مكتفيا بنص المــادة (53/ب) والذي سمح بموجبه تسجيل هذه الشركة إبتداء في إطار شركة ذات مسؤولية محدودة أو أن يجيز إستمرار هذه الشركة رغم إقتصارها على شريك وحيد، وبنص المادة (90/ب) والذي أجاز إستمرار الشركة المساهمة العامة بمساهم واحد، وبنص المادة (65) مكرر من القانون المعدل لقانون الشركات بخصوص الشركة المساهمة الخاصة، فإن هذا يعني اتجاه نية المشرع نحو تطبيق النصوص القانونية الخاصة بالشركة ذات المسؤولية المحدودة (المواد 53-76 من قانون الشركات) على شركة الشخص الواحد في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة، والنصوص القانونية المتعلقة بالشركة المساهمة العامة ( المادة 90 وما بعدها)
على شركة الشخص الواحد في إطار الشركة المساهمة العامة، والنصوص القانونية المتعلقة بالشركة المساهمة الخاصة (المواد 65-89 مكرر من القانون المعدل لقانون الشركات) على شركة الشخص الواحد في إطار الشركة المساهمة الخاصة ما عدا تلك النصوص التي لا تستقيم مع فكرة الشريك الواحد على الرغم من عدم ذكر ذلك صراحة في كل من المواد (53/ب) و(65 مكرر) و(90/ب) من قانون الشركات .
ورغم ما تحققه شركة الشخص الواحد من مزايا للتاجر(14) سواء ما تعلق منها بمسؤوليته المحدودة عن كل ديون وخسائر الشركة اذ لا يسأل الا في حدود رأسمال الشركة المقدم منه شخصياً ولا يتجاوزه الى امواله الخاصة او ما تعلق بالحد من تأسيس شركات وهمية أوصورية يكون المالك الفعلي لها شخص واحد او ما تعلق بتفعيل ادارة شركة تدار بشريك واحد او ما يخص استمرار العمل التجاري الذي من اجله وجدت الشركة والتي بالنتيجة تساعد على تشجيع الاستثمار ، الا ان تبني مثل هذا النوع من الشركات يثير صعوبات قانونية سواء تلك التي تتعلق بالمفهوم العقدي للشركة أو الأركان الموضوعية والشكلية الواجب توافرها لانعقادها أو ما تعلق بإدارة هذه الشركة والرقابة على رأسمالها وحماية حقوق دائنيها.
وبناءً عليه تثور هنا عدة تساؤلات بخصوص مدى الحاجة لتأسيس شركة من شخص واحد في ظل النظام القانوني الأردني؟ ومدى ملائمة النصوص القانونية الواردة في كل من المواد (53-76) والمواد (65-89 مكرر) والمادة (90) وما بعدها من قانون الشركات الأردني لتنظيم هذه الشركة في ظل عدم وجود تنظيم قانوني مستقل لهذا النوع من الشركات؟ وهل توجد هناك حاجة لوجود أحكام قانونية خاصة بهذه الشركة وذلك على فرض التسليم بمبررات مثل هذا الاستحداث التشريعي؟ ولذلك فإن هذا البحث يهدف الى تحديد النظام القانوني لشركة الشخص الواحد من خلال تحديد ماهية هذه الشركة ومبررات تأسيسها والوقوف على الصعوبات القانونية التي يثيرها تبني هذه الشركة في قانون الشركات الاردني لسنة 1997 والقوانين المعدلة له لسنة 2002 واقتراح التعديلات التشريعية لمواجهة مثل هذه الصعوبات القانونية. ولذلك فإننا سنقسم هذه الدراسة الى مبحثين على النحو التالي :-
المبحث الأول: النظام القانوني لشركة الشخص الواحد
المبحث الثاني: الصعوبات القانونية التي تواجه شركة الشخص الواحد
المبحث الأول
النظام القانوني لشركة الشخص الواحد
لتحديد النظام القانوني لشركة الشخص الواحد لا بد من تعريف هذه الشركة، إذ تعد هذه الشركة استثناءً على الأصل وهو تعدد الشركاء، كما لا بد من بيان طرق تأسيس هذا النوع من الشركات فقد تؤسس بطريقة مباشرة منذ تسجيلها وقد تؤسس بطريقة غير مباشرة بعد انشاء شركة مكونة من شريكين او اكثر وبقاء شريك واحد بسبب وفاة احد الشركاء او اكثر او انسحابهم من الشركة، كما لا بد من الحديث عن مبررات تأسيس هذه الشركة ندرس كل ذلك في ثلاثة مطالب على التوالي.
المطلب الأول: تعريف شركة الشخص الواحد
إن شركة الشخص الوحد هي الشركة المؤلفة من شريك واحد طبيعياً كان أو معنوياً ويكون لهذه الشركة ذمة مالية مستقلة عن الذمة المالية للشريك، وقد تؤسس هذه الشركة ابتداء من شريك واحد وقد تؤول الى شركة من شريك واحد جراء بقاء شريك واحد فيها. ولذلك فإن شركة الشخص الواحد تعد استثناءً على الأصل الذي يقضي بوجود شريكين على الأقل لقيام أي شركة، ولايضاح تعريف شركة الشخص الواحد لا بد أن ندرس أولاً الأصل وهو تعدد الشركاء فيما ندرس ثانيا الاستثناء على هذا الأصل وهو شركة الشخص الواحد وذلك في فرعين متتاليين.
الفرع الأول: الأصل تعدد الشركاء
إن فكرة الشركة تفترض وجود أكثر من شريك فيها يجمع بينهم هدف مشترك وهو تحقيق الأرباح، فمصالح الشركاء في أي شركة يفترض أن تكون متجانسة وليست متعارضة. والحد الأدنى لعدد الشركاء لأي شركة شريكين اثنين(15)، وهذا مستفاد من نص المادة (582) من القانون المدني الأردني التي تعّرف الشركة على أنها: “عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو من عمل لاستثمار ذلك المشروع واقتسام ما قد ينشأ عنه من ربح أو خسارة”.
كما أن هذا الأصل (تعدد الشركاء ) تدعمه النصوص القانونية الخاصة بكل شكل من أشكال الشركات التجارية، (16) إذ تنص المادة التاسعة من قانون الشركات الأردني على أن:- “تتألف شركة التضامن من عدد من الأشخاص الطبيعيين لا يقل عن اثنين…”، كما تنص المادة (53/ب) من ذات القانون على أن:- “تتألف الشركة ذات المسئولية المحدودة من شخصين أو أكثر…”. وبخصوص الشركة المساهمة العامة المحدودة تنص المادة (90/أ) من ذات القانون بأن :- “تتألف الشركة المساهمة العامة من عدد من المؤسسين لا يقل عن اثنين…”، كما أن المادة (65/أ مكرر) من القانون المعدل لقانون الشركات تنص على أن “تتألف الشركة المساهمة الخاصة من شخصين أو أكثر..”.
من خلال هذه النصوص القانونية نلاحظ أن قانون الشركات الأردني يضع حداً أدنى لعدد الشركاء في أي شركة وهو الحد الذي يمكن أن نؤسس به شركة تجارية وهو شريكين اثنين، إلا أن قانون الشركات الأردني استثنى شركة التوصية بالأسهم فجعل الحد الأدنى لعدد الشركاء فيها خمسة، إذ تنص المادة (77) من قانون الشركات على أن “تتألف شركة التوصية بالأسهم من فئتين من الشركاء هما:
شركاء متضامنون:- لا يقل عددهم عن اثنين يسألون في أموالهم الخاصة عن ديون الشركة والالتزامات المترتبة عليها.
شركاء مساهمون: لا يقل عددهم عن ثلاثة، ويسأل كل شريك منهم بمقدار مساهمته عن ديون الشركة والتزاماتها”.
الفرع الثاني: الاستثناء: شركة الشخص الواحد
ومع أن الأصل هو وجود شريكين اثنين على الأقل في أي شركة، إلا أن قانون الشركات الأردني لسنة 1997 والقوانين المعدلة له لسنة 2002 قد استحدثت شركة الشخص الواحد في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة والشركة المساهمة العامة، إذ تنص المادة (53/ب) من هذا القانون على أنه: “يجوز للمراقب الموافقة على تسجيل شركة ذات مسؤولية محدودة تتألف من شخص واحد أو أن تصبح مملوكة لشخص واحد”. كما تنص المادة (65/أ) مكرر على أن “تتألف الشركة المساهمة الخاصة بين شخصين أو أكثر ويجوز للوزير بناء على تنسيب مبرر من المراقب الموافقة على تسجيل شركة مساهمة خاصة مؤلفة من شخص واحد أو أن يصبح عدد مساهميها شخصا واحدا”. كذلك تنص الماده ( 90/ب ) على أنه : ” مع مراعاة أحكام الفقرة ( ب ) من الماده (99) من هذا القانون يجوز للوزير بناءً على تنسيب مبرر من المراقب الموافقه على أن يكون مؤسس الشركة المساهمة العامة المحدودة شخصاً واحداً أو أن تؤول ملكية الشركة إلى مساهم واحد في حال شرائه كامل أسهمها “.
وما زال قانون الشركات الأردني يستلزم بموجب المادتين ( 65/أ مكرر و90/ب) تنسيب مبرر من قبل مراقب الشركات وموافقة وزير الصناعة والتجارة لإنشاء شركة مساهمة خاصة مؤلفة من شخص واحد أو في حالة أن يكون مؤسس الشركة المساهمة العامة شخصاً واحداً أو في حالة أن قام مساهم واحد بشراء كامل أسهم الشركة المساهمة العامة. إلا أن هذا القيد الذي اشترطه قانون الشركات الأردني لا يقوم على أسس وضوابط محددة، فما هي الأسس أو المعايير التي سيستند إليها مراقب الشركات للتنسيب لوزير الصناعة والتجارة للموافقة على تسجيل هذه الشركة؟ لذلك اقترح البعض(17) إيجاد أسس وضوابط واضحة وصريحة يستعين بها مراقب الشركات بهدف ايجاد تنسيب مبرر لموافقة وزير الصناعة والتجارة على تسجيل هذه الشركة. وهذه الاسس -كما أرى- قد تتعلق بالمؤسس ومدى ملائته المالية ومدى الحاجة له لتشجيع الاستثمار أو غرض الشركة بأنه يتناول موضوعاً جديدا مبتكراً نسعى لتشجيعه أو إيجاد بعض القيود على تأسيس هذه الشركة حماية للاقتصاد الوطني والمتعاملين معها كدفع رأس مال الشركة بالكامل ووجود ضمانات كافية عند التعامل معها.
ولم تحدد المـواد (53/ب و65/أ مكرر و90/ب) صفة الشخص الواحد في هذه الشركة مما يعني شمول هذه المادة للشخص الطبيعي والشخص الاعتباري معاً. وبناءً عليه يمكن لشخص واحد طبيعياً كان أو معنوياً أن يؤسس شركة ذات مسؤولية محدودة في الأردن، برأسمال حده الأدنى ثلاثين ألف دينار أردني(18)، او ان يؤسس شركة مساهمة خاصة برأسمال حده الأدنى خمسين الف دينار (19)، أو أن يتملك مساهم واحد كامل أسهم شركة مساهمة عامة.
وبإستعراض أحكام كل من الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة العامة و الشركة المساهمة الخاصة نجد أن مسؤولية الشريك او المساهم فيها عن ديونها والالتزامات المترتبة عليها وخسائرها تكون بمقدار حصته في رأسمالها(20)، مما يعني أن الشريك او المساهم غير مسؤول إلا بالقدر الذي يشارك فيه في هذه الشركة، وأن الحد الأقصى للخسارة التي يمكن أن تلحق به هو ذلك الجزء الذي خصصه للتجارة في هذه الشركة، وبالتالي فإن الذمة المالية للشريك تكون غير مسؤولة عن ديون الشركة. وهذا الأمر يؤدي إلى الاعتراف بمبدأ جواز تعدد الذمم المالية للشخص، فتكون له ذمة مالية مخصصة للتجارة وهي الذمة المالية للشركة وذمة مالية أخرى مدنية، وهذا ما يطلق عليه بنظرية التخصيص لتفسير الذمة المالية والتي ترى أن الذمة المالية هي عبارة عن مجموعة اموال مخصصة لعمل ما دون ربطها بالشخص القانوني، اذ تقوم نظرية
التخصيص للذمة المالية على عدم ارتباط الذمة المالية بشخص معين فهي توجد حتى ولو لم تستند الى شخص ما ما دامت تستند الى غرض تخصص له(21). ويترتب على هذه النظرية جواز تجزئة أو تعدد الذمة المالية للشخص بحيث يخصص جانياً من أمواله لغرض معين وجانياً آخر لغرض ثان، اذ تتعدد الذمم للشخص بتعدد تلك الأغراض. وتضمن كل ذمة مالية ديونها فقط دون الديون الأخرى للذمم المالية الأخرى، فلا يستطيع دائن لذمة مالية ما التنفيذ على الأموال الداخلة في ذمه مالية أخرى وانما يقتصر تنفيذه على الأموال الداخلة في الذمة المالية المدنية (22). وتعتبر هذه النظرية الأساس القانوني الذي تقوم عليه شركة الشخص الواحد إذ انها تتيح للشخص أن تكون له ذمة مالية تجارية تخصص لغرض معين هو شركة الشخص الواحد على أن تظل حقوق والتزامات الشركة محدودة بقيمة المبلغ المخصص لها كذمة مالية تجارية مستقلة عن الذمة المالية لصاحبها(23).
ومثل هذا التفسير للذمة المالية يوفر المناخ لتعدد الذمم المالية للشخص الواحد، وهذا على خلاف النظرية الشخصية التي تربط بين الذمة المالية والشخصية القانونية بحيث توجد وتنتهي معه(24). اذ تتكون الذمة المالية بموجب النظرية التقليدية من مجموع ما للشخص من حقوق وما عليه من التزامات مالية، بمعنى انها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشخصية تدور وجوداً وعدماً معها، ويترتب على هذه النظرية عدم قابلية الذمة المالية الانفصال عن صاحبها واندماجها في شخصه كما أن لكل شخص ذمة مالية واحدة لا تتجزأ ولا تتعدد(25). وهذه النتيجة لدمج الذمة المالية بالشخصية تقف عائقاً أمام الاعتراف بشركة الشخص الواحد ذات المسؤولية المحدودة ، فلا يتصور أن يكون للشخص ذمتان ماليتان في نفس الوقت، فلا تكون له ذمة مالية تجارية يمارس من خلالها شركة الشخص الواحد ذات المسؤولية المحدودة منفصلة عند ذمته المالية المدنية العامة بكافة حقوقها وديونها(26).
إلا أن نظرية التخصيص لتفسير الذمة المالية تتعارض مع مبدأ وحدة الذمة المالية الذي يقضي بأن جميع أموال المدين ضامنة للوفاء بديونه والذي أكدته المادة (365) من القانون المدني الأردني بقولها: “مع مراعاة أحكام القانون، أموال المدين جميعها ضامنة للوفاء بديونه وجميع الدائنين متساوون في هذا الضمان”. ورغم هذا التعارض ما بين شركة الشخص الواحد ومبدأ وحدة الذمة المالية ، الا اننا لا نرى ما يحول دون تبني شركة الشخص الواحد بسبب تعارضها فقط مع هذا المبدأ اذ ان الحياة التجارية لها طبيعتها الخاصة والتي ادت الى استقلال قواعدها عن احكام القانون المدني .
كما أن شركة الشخص الواحد لا تتفق مع مبررات تأسيس الشركات، إذ يقدم الأفراد على تأسيس شركات لمباشرة أعمالهم التجارية بدلاً من مباشرتها في إطار مشروع تجاري فردي إلى عدة أسباب من أهمها: أسباب مالية، أسباب تتعلق بالخبرة، إستمرارية العمل التجاري والمسؤولية المحدودة للشريك خاصة في شركات الأموال (27).
ففيما يتعلق بالسبب المالي قد لا يتوافر لدى الفرد رأس المال الكافي لمباشرة أعماله التجارية فيحتاج إلى ممولين آخرين يساهموا معه في تقديم رأس المال اللازم لذلك العمل التجاري مما يدفعه إلى تأسيس شركة تجارية وخاصة في الشركات المساهمة العامة التي تتكون من رأس مال ضخم يعجز عن توفيره الفرد بمفرده(28). إلا أن رأس المال اللازم لمباشرة عمل تجاري معين قد يتوافر لدى ممول واحد ومع ذلك فإنه يفضل أن يكون شركة تجارية على أن يباشر العمل التجاري منفرداً، ويعود ذلك أحياناً إلى الحاجة إلى تجميع خبرات عدد من الأفراد مع بعضهم البعض وذلك في المشاريع التجارية والصناعية المعقدة التي تحتاج إلى تكاتف مجموعة من الخبرات لإنجازها. هذا بالإضافة إلى أن القيام بتأسيس شركة تجارية يضمن إستمرارية
العمل التجاري الذي أنشأت الشركة من أجله حتى مع وفاة أو إنسحاب أحد أو مجموعة من الشركاء من الشركة ما دام الحد الأدنى لعدد الشركاء في تلك الشركة متوافراً(29). كما أن تأسيس شركة تجارية يوفر للشريك فيها إمكانية المشاركة مع تحديد مسؤوليته عن ديونها وإلتزاماتها بمقدار مساهمته في رأسمال هذه الشركة مهما بلغت خسائرها(30) ما لم تظهر مسؤوليته بسبب إهماله أو تقصيره أو قصده الإضرار بهذه الشركة.
وبخصوص مبرر الحاجة إلى تجميع خبرات متعددة وخاصة تلك الشركات المعقدة والمتعددة الأعمال، فقد يقال بأن الشريك أو المساهم الوحيد في الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة العامة والشركة المساهمة الخاصة قادر على الاستفادة من خبرات أفراد من خارج الشركة من خلال تعيين مدراء مختصين يساعدوه على إدارة شؤون الشركة، ولكن مثل هذا الاجراء سوف يؤدي الى انفصال بين ملكية الشركة وادارتها، فيكون مدير الشركة شخصاً لا يملك أي شيء في رأسمال الشركة وهذا مما قد يساعد على سوء ادارة الشركة وتحملها للخسائر والديون. (31)
المطلب الثاني : طرق تأسيس شركة الشخص الواحد
لقد كانت فكرة شركة الشخص الواحد مرفوضة حيث كان قانون التجارة الفرنسي لسنة 1807 ينص على حل الشركة اذا اجتمعت كافة حصص أو اسهم الشركة في يد شريك واحد، وذلك لتعارض هذه الشركة مع مبدأ وحدة الذمة المالية(32)، وقد تبنى القضاء الفرنسي هذا الاتجاه في العديد من أحكامه(33)، الا أن قانون الشركات الفرنسي لسنة 1966 الغى الحل التلقائي للشركة التي تقتصر على شريك واحد وأوجد محله الحل المؤجل والقضائي خلال سنة من تاريخ اقتصار الشركة على شريك واحد (م 9)، وقد دعى الفقه الفرنسي (34) الى تحديد مسؤولية المستثمر الفردي على أساس ذمة التخصيص من خلال شركة الشخص الواحد.
كما كان لمطالبة أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة في فرنسا بايجاد تنظيم قانوني يوفر لهم الحماية القانونية ضد المسؤولية الشخصية وقصر هذه المسؤولية بمقدار رأسمال مشروعهم التجاري الأثر الأكبر في ايجاد المشروع الفردي ذو المسؤولية المحدودة، هذا بالاضافة الى مطالبة كل من الفقه والقضاء الفرنسيين، فعلى المستوى الفقهىطالب واقترح كل من الاستاذ (Paul Durand) من جامعة (Nancy) سنة 1947 والاستاذ (Sola Canizares) سنة 1948 تنظيماً قانونياً للمشروع الفردي ذي المسؤولية المحدودة(35).
ونظراً لكون ألمانيا دولة صناعية فقد احتاجت الى ايجاد نوع من الشركات يناسب المشروعات المتوسطة والصغيرة من حيث البساطة في التكوين والادارة مع تحديد مسؤولية الشركاء عن ديون الشركة بمقدار مساهمتهم في رأسمالها، وتم ذلك من خلال ايجاد الشركة ذات المسؤولية المحدودة بموجب القانون لسنة 1892.
إن تأسيس شركة من شخص واحد قد يتم بطريق مباشر كما قد يتم بطريق غير مباشر، ندرس هاتين الطريقتين ثم نستعرض موقف قانون الشركات الأردني وذلك في ثلاثة فروع متتالية.
الفرع الأول:- الطريق المباشر لتأسيس شركة الشخص الواحد
ان الطريق المباشر لتأسيس شركة الشخص الواحد هو ذلك العمل الإرادي الذي ينشئ الشركة لأول مرة من شخص واحد، أي أن الشركة تنشأ ابتداءً من شخص واحد، وقد أخذ بهذه الطريقة كل من قانون الشركات الألماني لعام 1980وقانون الشركات الفرنسي لعام 1985 وقانون الشركات الإنجليزي لعام 1992. إذ نصت المادة الأولى من القانون الألماني على أن ” الشركة ذات المسؤولية المحدودة يمكن أن تؤسس من شخص واحد أو عدة أشخاص لتحقيق أي غرض مشروع طبقا لنصوص هذا القانون”، كما نصت المادة (2/1) من القانون الفرنسي على أن: “الشركة ذات المسؤولية المحدودة تنشأ من شخص واحد أو عدة أشخاص لا يتحملون من خسائر الشركة إلا بنسبة حصصهم في رأس المال”، كما تبنى القانون الإنجليزي هذه الحالة كذلك بالنص في المادة (2/1) على أنه: “بالرغم من أي تشريع أو قاعدة قانونية تنص على المخالفة، فإن الشركة المساهمة الخصوصية يمكن أن تؤسس من شخص واحد كما يمكن أن تصبح فردية لا تتضمن سوى عضو واحد”.
ان الطريق غير المباشر لتأسيس شركة الشخص الواحد قد يحدث نتيجة اجتماع حصص الشركة ذات المسؤولية المحدودة في يد شريك واحد، وقد أخذ بهذا كل من المشرع الفرنسي والألماني والانجليزي، إذ تنص المادة (36/1) من قانون الشركات الفرنسي على أنه: “في حالة اجتماع كل حصص الشركة ذات المسؤولية المحدودة في يد شريك واحد لا تطبق نصوص المادة (1844/5) (من القانون المدني والخاصة بالحل القضائي)”، وهذا يعني استمرار الشركة ذات المسؤولية المحدودة رغم اقتصارها على شريك واحد.
كما تبنى القانون الألماني هذه الحالة اعتمادا على نص المادة (19/4) من قانون الشركات والتي تنص على أنه: “… في خلال ثلاث سنوات من تأسيس الشركة ذات المسؤولية المحدودة إذا تجمعت كل الحصص في يد شريك واحد يشترط على الشريك الوحيد تقديم كل رأسمال الشركة”، وبالتالي لم تنقض الشركة لبقاء شريك واحد قادر على تقديم كل رأسمال الشركة وفي هذا اعتراف من المشرع الالماني بالتكوين غير المباشر لشركة الشخص الواحد .
كما نصت المادة (2/3/أ) من القانون الإنجليزي على انطباق القواعد المنظمة للشركة المساهمة المحدودة على الشركة التي تؤسس بشريك واحد أو تلك التي تصبح فردية نتيجة انخفاض عدد الشركاء فيها إلى واحد بحيث تصبح مكونة من شريك واحد، وفي هذا اعتراف ايضا من قبل القانون الانجليزي بالتكوين غير المباشر لشركة الشخص الواحد. (36)
كما يمكن لشركة الشخص الواحد أن تؤسس بطريق غير مباشر عن طريق اجتماع أسهم الشركة المساهمة العامـة بيد شريك واحد كمـا فعل القانون الفرنسي ( المادة 9 من قانون 24 تموز لسنة 1966 ) الذي أجاز استمرار الشركة المساهمة العامة رغم اجتماع كامل أسهمها بيد شريك واحد . فهذه المادة لم تقض بحل الشركة قانونا باجتماع كل حصص الشركة في يد شريك واحد بل أنها منحت الشركة مدة عام لتصويب أوضاعها وحتى بعد فوات المهلة دون تصويب الأوضاع فلا تنقضي الشركة حكما بل لا بد من تقديم طلب من صاحب المصلحة مطالباً بفسخ الشركة، وصاحب المصلحة في طلب حل الشركة هم الدائنون الذين يسعون لتصفية الشركة والشريك الوحيد الذي لا يرغب في استمرار الشركة، (37) ويجوز منح مهلة إضافية مدتها ستة أشهر للشريك المنفرد لتصويب أوضاع الشركة ( م 1844 /5 من القانون المدني الفرنسي ) .
الفرع الثالث : موقف قانون الشركات الاردني
بالرجـوع لقـانون الشـركات الأردني نجد أنه قد تبنى كل من الطـريق المـباشـر والطريق غير المباشـر لتـأسيس شركة الشـخص الواحد وذلك في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة في المادة (53/ب) التي أجازت تسجيل شركة ذات مسـؤولية محدودة ابتداءً من شخص واحد أو أن تصبح مملوكة لشخص واحد وذلك وفقـاً للقانون المعدل لقانون الشـركات رقم (40) لسنة 2002 . كمـا تبنـى قـانون الشركات الأردني كل من الطريق المباشر و الطريق غير المباشر لتأسيس شركة الشـخص الواحد في اطـار الشركة المساهمة الخاصة وذلك بموجب المادة (65/أ مكرر) من القانون المعدل لقـانون الشركات رقم (4) لسنة 2002 التي اجـازت تسجيل شركة مساهمة خاصة ابتداء من شخص واحد او ان يصبح عدد مساهميها شخصاً واحداً بعد ان تكون قد سـجلت من شخص واحد او اكثر. إلا أنـه تبنـى الطريق غير المباشر لتأسيس شـركة الشـخص الواحد في إطار الشركة المسـاهمة العامة وذلك بوجب المادة (36) من القـانون المعدل لقانون الشـركات رقـم (40) لسنة 2002 والتي أدخـلت تعديلاً على نص المـادة (90/ب) بأن جعلت بالإمكان أن يتملك مساهم واحد عن طريق الشراء كامل أسـهم الشركة المساهمة العامة وبالتالي تستمر الشركة بمساهم واحد.
وقد يُعتقد بجواز إنشاء شركة مساهمة عامة إبتداء من مساهم واحد إذا أن المادة (90/أ) من قانون الشركات قد إشترطت أن لا يقل عدد المؤسسين في الشركة المساهمة العامة عن اثنين يكتتبون بأسهم الشركة، إلا أن الفقرة (ب) من ذات المادة أجازت لوزير الصناعة والتجارة بتنسيب مبرر من مراقب الشركات الموافقة على أن يكون مؤسس الشركة المساهمة المحدودة شخصاً واحداً أو أن تؤول ملكية الشركة إلى مساهم واحد في حال شرائه كامل أسهمها. إلا أن الموافقة على أن يكون مؤسس الشركة المساهمة العامة شخصاً واحداً لا يعني أنه يمكن تأسيس شركة مساهمة عامة من شخص واحد، إذ أن هذه الشركة تمر في ثلاث مراحل لأجل استكمال إجراءات تأسيسها وهي: مرحلة التسجيل في وزارة الصناعة والتجارة (م 92و93)، مرحلة الاكتتاب العام (م 99 وما بعدها)، ومرحلة اجتماع الهيئة العامة الأول (م106)، فأجاز المشرع أن يقوم مؤسس واحد بإجراءات التسجيل بمبررات يقتنع بها مراقب الشركات، إلا أن مرحلتي الاكتتاب العام واجتماع الهيئة العامة الأول تفترضان وتتطلبان وجود مساهمين يكتتبون بأسهم هذه الشركة ويختارون مجلس إدارة الشركة الأول في اجتماع الهيئة العامة الأول. هذا بالاضافة الى ادارة الشركة المساهمة العامة يتولاها مجلس ادارة لا يقل عدد اعضائه عن ثلاثة اشخاص ولا يزيد على ثلاثة عشر شخص (م132/جـ)، كما يشترط ان يكون عضو مجلس الادارة مساهماً في الشركة (م133/أ)، وهذا مما يؤكد انه لا يمكن بأي حال ان يقل عدد المساهمين إبتداءً في الشركة المساهمة العامة عن ثلاثة شركاء.
ويرى بعض الفقه(38) أن تحديد شركة الشخص الواحد في شركات محددة كالشركة ذات المسؤولية المحددة والشركة المساهمة الخاصة دون الأشكال الأخرى من الشركات يعكس رغبة المشرع في قصر الإستفادة من تحديد المسؤولية على صغار المستثمرين دون كبار المستثمرين الذين يمكن أن يتخذوا أشكالاً أخرى وخاصة الشركة المساهمة العامة. الا أن هذا الرأي لا ينسجم مع موقف المشرع الأردني الذي أجاز إستمرار الشركة المساهمة العامة بمساهم واحد يتملك جميع أسهم هذه الشركة عن طريق الشراء. ومن ناحيه أخرى نجد أن هذا التوجه من قبل المشرع الأردني يتناقض مع مضمون قانون المنافسة رقم (49) لسنة 2002 والذي يمنع فيه المشرع التركيز الإقتصادي محاربةً منه للإحتكار. فكيف يمكن التوفيق ما بين محاربة الإحتكار والسماح بتملك شركة مساهمة عامة من قبل مساهم واحد علماً بأن الشركات المساهمة العامة هي الشركات التي يناط بها المشاريع الإقتصادية الكبيرة والتي تمس إقتصاديات الدول. لذلك فإننا لا نرى مبرراً مقنعاً لموقف المشرع الأردني بالسماح بتملك شركة مساهمة عامة من مساهم واحد.
وفي هذا السياق يجدر التنويه الى أن المادة (8/أ) من قانون الشركات الأردني قد أجازت تحويل أي مؤسسة أو سلطة أو هيئة رسمية عامة أو مرفق عام أو أي جزء منه إلى شركة مساهمة عامة أو خاصة أو شركة ذات مسؤولية محددة مملوكة بالكامل للحكومة وتعمل وفقا للأسس التجارية وذلك بقرار من مجلس الوزراء بعد تنسيب وزير الصناعة والتجارة ووزير المالية والوزير المتخص. وفي هذا اعتراف من المشرع الاردني بالتأسيس المباشر لشركة الشخص الواحد في اطار الشركة المساهمة العامة ولكن ضمن اطار المؤسسات والسلطات والهيئات الرسمية العامة القائمة اصلا، ومثل هذه الاجراءات تدخل ضمن سياسة ما تسمى بالخصخصة او التخاصية (39).
وكان يجدر بالمشرع الأردني تبني الطريق غير المباشر لتأسيس شركة الشخص الواحد في إطار شركة التضامن، إذ أن انسحاب أحد الشركاء في شركة التضامن المكونة من شريكين يرتب على الشريك الباقي إدخال شريك جديد أو أكثر إلى الشركة بدلا من الشريك المنسحب وذلك في مدة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ الانسحاب، أما أن لم يقم الشريك المتبقي بذلك خلال المدة المقررة انحل عقد الشركة حكما(40)، وهذا يفيد عدم تبني المشرع الأردني للطريق غير المباشر لهذا النوع من الشركات. ولا نرى أن هناك ما يحول دون إجازة المشرع الأردني لتأسيس شركة الشخص الواحد بطريقٍ غير مباشر في إطار شركة التضامن وذلك إذا ما اجتمعت حصص هذه الشركة في يد شريك واحد وذلك على غرار ما أخذ به كل من القانون الفرنسي (م 36/1) والقانون الألماني (م19/4) خاصة بعد صدور القانون المعدل لقانون الشركات الأردني رقم (4) لعام 2002 والذي اجاز استمرار الشركة المساهمة الخاصة في اعمالها على الرغم من انخفاض عدد مساهميها الى مساهم واحد ( م65/أ مكرر ) و صدور القانون المعدل لقانون الشركات رقم (40) لعام 2002 والذي أجاز استمرار الشركة ذات المسؤولية المحدودة رغم إقتصارها على شريك واحد.
المطلب الثالث:- مبررات تأسيس شركة الشخص الواحد
لقد برر الفقه القانوني(41) تأسيس شركة الشخص الواحد من خلال المزايا التي تحققها هذه الشركة، وهذه المبررات منها ما يعود لمسؤولية الشريك المحدودة، ومنها ما يعود إلى الحد من تأسيس شركات وهمية، ومنها ما يتعلق بتفعيل إدارة الشركة ومنها ما يخص إستمرار العمل التجاري وسهولة نقله، ندرس هذه المبررات في فروع أربعة لنرى مدى فاعلية هذه المبررات لتبني شركة الشخص الواحد.
الفرع الأول: المسؤولية المحدودة للشريك أو المساهم
إن مسؤولية الشريك أو المساهم في شركة الشخص الواحد عن ديون وإلتزامات وخسائر الشركة تكون محددة بمقدار رأس مالها المقدم منه شخصياً، ولا تجاوز ذلك إلى أمواله الخاصة ( المواد 53/أ و 65/ب مكرر و90/ب). وهي بهذه الصفة تتشابة مع شركات الأموال كالشركة المساهمة العامة التي يكون فيها المساهم مسؤولاً عن ديون الشركة وإلتزاماتها بمقدار مساهمته فيها(المادة 91).
والمسؤولية المحدودة للشريك أو المساهم في شركة الشخص الواحد هي من أهم أسباب تأسيس هذه النوع من الشركات، فالشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شريك واحد أو أكثر والشركة المساهمة العامة المؤلفة من مساهم واحد أو أكثر والشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شخص واحد أو أكثر تعطي الفرصة للشركاء أو للشريك الوحيد بأن يقصر مسؤوليته عن خسائر وديون هذه الشركة في حدود مساهمته في رأسمال هذه الشركة دون أن تتعدى ذلك إلى أمواله الخاصة، وهذه الخاصية هي من أهم أسباب الإقدام على إنتشار الشركات التجارية وخاصة شركات الأموال.
فشركة الشخص الواحد تمكن الشريك الوحيد أن يخصص جزءً من ذمته المالية لمباشرة التجارة، وهذه الذمة المخصصة للتجارة هي المسؤولة فقط عن ديون وإلتزامات الشريك الوحيد مما يعني تعدد الذمم المالية للشخص. وتحديد مسؤولية الشريك في شركة الشخص الواحد تشجع المستثمر على إستثمار جزء من أمواله في إطار هذه الشركة وتجنبه مخاطر تعرض كامل ذمته المالية للمسؤولية في تعامله مع دائني الشركة. ومما يزيد من تشجيع الإستثمار في هذا النوع من الشركات تدني رأس المال المطلوب لتأسيس شركة الشخص الواحد إبتداء وهو ثلاثون ألف دينار على الأقل في حالة الشركة ذات المسؤولية المحدودة وخمسون ألف دينار في حالة الشركة المساهمة الخاصة.
ولكن هذا المبرر(المسؤولية المحدودة للشريك أو المساهم) موجود أيضاً في حالة الشركة ذات المسؤولية المحدودة المكونة من شريكين على الأقل والشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شخصين أو أكثر والشركة المساهمة العامة المملوكة من أكثر من مساهم، وبالتالي لا نستطيع إعتبار هذا المبرر لوحده ميزة لشركة الشخص الواحد، كما يعزز من المسؤولية المحدودة للشريك أو المساهم في شركة الشخص الواحد أن أسم الشركة يستمد في كل من الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة العامة والشركة المساهمة الخاصة من الغرض من إنشائها على إن تضاف لها عبارة (ذات مسؤولية محدودة أو شركة مساهمة عامة أو شركة مساهمة خاصة)،(42) ويتطلب المشرع مثل هذه التفاصيل حماية للغير الذي يتعامل مع الشركة من خلال إطلاعه على طبيعة الشركة ومدى ملاءتها ومسؤولية الشريك فيها(43)، ولا مانع من أن يضاف إلى أسم لشركة ما يدل على أنها شركة من شخص واحد.
كما أن الواقع العملي يظهر قصور مثل هذا المبرر (المسؤولية المحدودة)، إذ أن الغير عندما يتعامل مع شركة الشخص الواحد كدائن لها يتطلب ضماناً على أموال الشريك الشخصية بالإضافة لأموال الشركة مما ينفي فكرة تجزئة الذمة المالية للشريك الوحيد وتصبح جميع أمواله عملياً ضامنة للوفاء بديونه.
هذا بالإضافة إلى أن مبدأ وحدة الذمة المالية ( المسؤولية الشخصية) ترد عليه أصلاً مجموعة من الإستثناءات أضعفت هذا المبدأ، ويمكن التدليل على ذلك بإستعراض قانون الشركات الأردني إذ نجد أن الشريك الموصي في شركة التوصية البسيطة لا يسأل إلا في حدود مساهمته في رأسمال الشركة(44)، كما أن الشريك في الشركة ذات المسؤولية المحدودة لا يسأل إلا في حدود مساهمته في رأسمال الشركة(45) ، كذلك الحال بالنسبة للمساهم في الشركة المساهمة العامة،(46) وكذلك الوضع بالنسبة للمساهم في شركة التوصية بالأسهم(47) والمساهم في الشركة المساهمة الخاصة(48) مما يعني الإعتراف بتعدد الذمم المالية للشخص ووجود ذمة مالية تجارية مخصصة للشركة لا تكون مسؤولة إلا في حدود مساهمتها في هذه الشركة، ولا تضمن الذمة المالية العامة ديون الذمة المالية المخصصة للشركة. ونفس الحكم بخصوص الصغير المأذون له بالإتجار إذ لا يسأل إلا في حدود الجزء المقتطع من أمواله لمباشرة التجارة فتقتصر حقوق الدائنين التجاريين في الحجز على أموال القاصر المخصصة للتجارة دون غيرها(49) . ومثل هذه الإستثناءات على مبدأ وحدة الذمة المالية تضعف من مبدأ المسؤولية المحدودة كمبرر لإنشاء شركة الشخص الواحد اذ أنه يمكن إضافة شركة الشخص الواحد كأستثناء آخر على هذا المبدأ ليلبي إحتياجات البيئة التجارية(50) .
الفرع الثاني: الحد من تأسيس شركات وهمية
إن الواقع العملي لتأسيس شركات تجارية يثبت بأن هناك شركات تؤسس بين شريكين أو أكثر في حين أن الشركة مؤلفة فعلياً من شخص واحد وذلك إنسجاماً مع متطلبات قانون الشركات الذي يستلزم توافر شريكين على الأقل لتأسيس شركات تجارية، لذلك فإن تأسيس شركة من شخص واحد سوف يضع حداً لمثل هذه الشركات الوهمية(51) . ويمكن لنا أن نعتبر مثل هذا المبرر وهو الحد من تكون شركات وهمية يمكن التوصل إليه حتى في ظل المبادئ التقليدية للشركات دون اللجوء إلى تأسيس شركة من شخص واحد وذلك من خلال فرض الجزاءات التي يمكن تطبيقها وذلك بتحويل مسؤولية الشريك المحدودة إلى مسؤولية شخصية، كما يمكن إثبات صورية الشركة بكافة طرق لإثبات حتى بين الشركاء.
الفرع الثالث: تفعيل إدارة الشركة
إن وجود شريك وحيد في شركة الشخص الواحد يعطيه الفرصة لإدارة الشركة بشكل مرن ودون التقيد بإجراءات دعوة باقي الشركاء للإجتماع والحاجة للحصول على الأغلبية لإتخاذ القرارات، وتؤثر بالنتيجة على نشاط الشركة مما يؤثر سلبياً على إقتصاد الدولة إذا ما تم تصفية الشركة. كما أن الإنفراد بالإدارة يحول دون وجود إشكالات بين الأعضاء تحد من عملية إتخاذ القرارات.
ومثل هذا المبرر يعتبر أيضاً، وبحق، من مزايا تأسيس مثل هذا النوع من الشركات، إلا أن هذا المبرر قد يصلح في ظل وجود شركة شخص واحد بسيطة ولكنه قد لا يصلح في حالة وجود شركات كبرى تقوم بأعمال معقدة وتحتاج إلى إدارات متخصصة مما سيضطر الشريك الوحيد إلى تعيين مدير أو أكثر لإدارة أمور الشركة، وقد يؤدي ذلك إلى إلحاق الضرر بالشريك الوحيد إذا ما ألحق مدير الشركة ضرراً بها جراء تصرفاته، كما أن تصرفات المدير ستكون ملزمة للشركة في مواجهة الغير حسن النية. وإذا ما قام الشريك الوحيد بإدارة الشركة فإن تصرفاته قد تلحق ضرراً بدائنيه وتعطيه مجالاً واسعاً للتحايل وإبرام عقود صورية.
الفرع الرابع: إستمرار العمل التجاري وسهولة نقله
بما أن شركة الشخص الواحد تعطي الفرصة للفرد لأن يخصص جزءً من ذمته المالية لأغراض مباشرة عمل تجاري في إطار الشركة، فإن وفاة الشريك لا تعني إنتهاء أعمال الشركة إذ تنتقل الشركة إلى الورثة وهذا يتطلب تغيير نظام الشركة والعقد التأسيسي لها دون حاجة لتغيير شكل الشركة وتحويلها ودون حاجة لإتباع الإجراءات القانونية التي نصت عليها المواد(215-221) من قانون الشركات الأردني، إذ يتم بسهولة الإنتقال من شركة الشخص الواحد ذو المسؤولية المحدودة إلى نفس الشركة متعددة الشركاء وقد يتم تحول شركة الشخص الواحد محدودة المسؤولية إلى شكل آخر من أشكال الشركات كالشركة المساهمة العامة أو التضامن أو التوصية(52). كما لا توجد هناك قيود لتنازل الشريك عن الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة منه شخصياً لصالح الغير على خلاف الشركة ذات المسؤولية المحدودة المكونة من شريكين(53) .
وبعد إستعراض مبررات تأسيس شركة الشخص الواحد نجد أن تشجيع الإستثمار وتفعيل إدارة الشركة قد يصلحان كسببين لتبني هذا النوع من الشركات. إلا إننا نرى أنه لا بد من رفع الحد الأدنى لرأسمال هذه الشركة سواء أكانت في إطار شركة ذات مسؤولية محدودة أو شركة مساهمة خاصة لكي تنعكس ثمار الإستثمار على الإقتصاد الوطني. إلا أنه ورغم هذه المبررات لإنشاء شركة الشخص الواحد إلا أن هذه الشركة تواجه صعوبات قانونية مما يقتضي بيانها ومناقشتها في المبحث الثاني من هذا البحث.
المبحث الثاني
الصعوبات القانونية التي تواجه شركة الشخص الواحد
إن تبني شركة الشخص الواحد يصطدم بمجموعة من العقبات من أهمها ان الشركة عقد، والعقد يفترض وجود طرفين على الاقل بينما تؤسس شركة الشخص الواحد بشريك وحيد، وهذا يتنافى مع تعريف كل من القانون المدني الاردني وقانون الشركات للشركة.
كما ان الأركان الموضوعية والشكلية الواجب توافرها لتأسيس شركة الشخص الواحد تختلف لكي تتلائم مع وجود شريك واحد في هذه الشركة، هذا بالإضافة الى ان هناك خصوصية في إدارة هذه الشركة وتقديم راسمالها وذمتها المالية. وبالنتيجة هناك صعوبة تتمثل في عدم وجود تنظيم قانوني يعالج كافة المسائل المتعلقة بهذه الشركة، إذ ان الأحكام القانونية التي تنظم الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شريكين او اكثر كما ان الاحكام القانونية التي تنظم الشركة المساهمة الخاصة لا تستطيع ان تعالج كافة المسائل الخاصة بالشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شريك او مساهم وحيد، وسوف نعالج هذه الصعوبات في مطالب مستقلة.
المطلب الأول: تعريف الشركة
تَعّرف المادة (582) من القانون المدني الأردني الشركة على أنها: “عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي بتقديم حصته من مال أو من عمل لاستثمار ذلك المشروع واقتسام ما قد ينشأ عنه من ربح أو خسارة(54 ). وبموجب هذا التعريف فإن الشركة عقد(55) يستلزم وجود شريكين على الأقل في حين أن شركة الشخص الواحد تنشأ بإرادة منفردة هي إرادة الشريك الوحيد في الشركة وتعد إستثناء على الفكرة العقديه للشركة وتطبيقا للفكرة التنظيمية لها. ولهذا ينبغي تعديل هذا النص بحيث لا تَُعّرف الشركة على أنها عقد بل يشار إلى أن الشركة قد تنشأ بموجب عقد أو إرادة منفردة لا أن الشركة عقد وذلك على غرار ما نصت عليه المادة (1832) من القانون المدني الفرنسي الجديد الصادر عام 1985 عندما عرفت الشركة على انها:
1- “تنشأ الشركة من شخصين أو أكثر يتفقون بعقد فيما بينهم بتخصص لمشروع مشترك أموال أو عمل بغرض تقسيم الأرباح أو تحقيق وفر اقتصادي ينتج عنه.
2- يجوز إنشاؤها في الحالات الواردة في القانون بعمل إرادي من شخص واحد يتعهد الشركاء بالمساهمة في الخسارة”.
وفي حال تعديل تعريف الشركة الوارد في المادة (582) من القانون المدني الأردني فإننا نحتاج إلى تعديل تعريف الشركة ذات المسؤولية المحدودة بما يتفق مع تعديل تعريف الشركة بشكل عام. وفي هذا السياق يمكن الاسترشاد بتعريف الشركة ذات المسؤولية المحدودة الوارد في المادة الثانية من قانون الشركات الفرنسي الصادر عام 1985 إذ تعرفها كما يلي: “تنشأ الشركة ذات المسؤولية المحدودة من شخص واحد أو عدة أشخاص يتحملون الخسائر بنسبة حصصهم في رأس المال”. كما اننا نحتاج الى تعديل تعريف الشركة المساهمة الخاصة الوارد في المادة (65 مكرر) من قانون الشركات بحيث تصبح على النحو التالي :- تنشأ الشركة المساهمة الخاصة من شخص واحد او عدة اشخاص …” .
المطلب الثاني: تأسيس شركة الشخص الواحد
إن شركة الشخص الواحد تصرف قانوني من جانب واحد أي جانب الشريك الوحيد في هذه الشركة، وبما أن هذه الشركة تنشأ بموجب هذا التصرف فإنها (أي الشركة) تستلزم توافر الأركان الموضوعية العامة والخاصة بالإضافة إلى الأركان الشكلية التي يجب توافرها لتكوين اي شركة أخرى مع مراعاة الطبيعة الخاصة لشركة الشخص الواحد. ولذلك يجب توافر الأهلية التجارية(56) لدى الشريك الوحيد وان يكون محل الشركة مشروعاً غير مخالف للنظام العام والآداب العامة(57)، كما لابد ان يكون للشركة سبب مشروع وهو الغرض والهدف الذي قصد الشريك الوحيد تحقيقه .
وفيما يتعلق بركن تعدد الشركاء فإن هذا الركن مفتقد في شركة الشخص الواحد لأنها قائمة اساساً على وجود شريك واحد، ويمكن لهذا الشريك الوحيد ان يكون شخصاً طبيعياً او معنوياً ما دام لم يورد المشرع أي قيد بهذا الخصوص(58) .
ورغم ان القانون الألماني ( المادة 4) والقانون الفرنسي ( المادة 5) قد خليا من اشتراط ان يكون الشريك الوحيد شخصاً طبيعياً او معنوياً مما يفيد انطباق نصوصهما على كافة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين على حد سواء، الا ان القانون الفرنسي لا يجيز للشخص الطبيعي تأسيس اكثر من شخص واحد كما لا يجيز لشركة الشخص الواحد تأسيس شركة اخرى ذات مسؤولية محدودة بشخص واحد (59). فيما منع القانون البلجيكي (المادة 7/2) ان يكون مؤسس شركة الشخص الواحد شخصاً معنوياً اذ يجب ان يكون شخصاً طبيعياً .
وحسب المادتين ( 53/ب و 65 /أ مكرر ) من قانون الشركات الأردني فإنه لا يوجد ما يمنع قيام شخص واحد طبيعياً كان او معنوياً بتأسيس اكثر من شركة شخص واحد ما دام لم يورد المشرع أي قيد يتعلق بتعدد الشركات التي يستطيع الشريك الوحيد تأسيسها، وكذلك الحال بالنسبة للمساهم الوحيد الذي يتملك كامل أسهم الشركة المساهمة العامة وبشرط ضمان عدم الخلط بين الذمم المالية لهذه الشركات . وكذلك فعل القانون الألماني ، الا ان القانون الفرنسي حضر على الشخص الطبيعي تأسيس اكثر من شركة فردية ذات مسؤولية محدودة(60).
وبخصوص تقديم الحصص، فالأصل ان يقدم الشركاء عند تأسيس الشركة حصص سواء أكانت حصص نقدية او عينية منقولة او غير منقولة من اجل المساهمة في رأس مال الشركة لأغراض اقتسام الأرباح والخسائر. وفي شركة الشخص الواحد حيث لا يوجد الا شريك واحد فإن بامكانه تقديم حصص نقدية وحصص عينية لتأسيس الشركة ويتم تقدير الحصص العينية لاحتسابها في رأس مال الشركة، على ان يعتبر الشريك مسؤولاً عن أية مبالغة في تقدير الحصص العينية في شركة الشخص الواحد اذا زادت قيمة الحصة العينية في أمواله الخاصة حماية للغير الذين يتعاملون معه(61). وقد ألزمت المادة (4/3) من قانون الشركات الفرنسي الشريك الوحيد تعيين خبير مختص لأغراض تقييم الحصص العينية شركة الشخص الواحد إذا زادت قيمة الحصة العينية عن (50) ألف فرنك أو اذا زادت قيمتها عن نصف رأس مال الشركة، ولكن لا يجوز له تقديم حصة عمل كجزء من رأسمال الشركة ( م38/2 ) من القانون الفرنسي .
ولا يتصور وجود ركن نية المشاركة في شركة الشخص الواحد اذ ان الركن يفترض وجود اكثر من شريك في الشركة وهذا غير متوافر في هذا النوع من الشركات. الا ان المقصود بهذا الركن – كما يرى البعض(62)– هنا هي المصلحة العامة التي تعود على الشركة كشخص اعتباري، ولكن مثل هذا التفسير لركن نية المشاركة غير واضح وغير محدد اذ ان المنفعة التي تعود على الشركة في حالة شركة الشخص الواحد هي ذاتها مصلحة الشريك الوحيد .
وبخلاف الصعوبات المتعلقة بالاركان الموضوعية لشركة الشخص الواحد السبق ذكرها, فانه لا توجد صعوبات فيما يخص الأركان الشكلية وهي الاجراءات التي يجب اتباعها لتأسيس هذه الشركة.(63) وتخضع اجراءات تأسيس شركة الشخص الواحد للأحكام التي تطبق على الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة نفسها مع مراعاة طبيعة هذه الشركة.
أما بخصوص انقضاء شركة الشخص الواحد, فتنقضي بالاسباب العامة التي تخضع لها الشركات عادة وهي: انتهاء مدة الشركة اذا كانت الشركة محدودة المدة (64) ، تحقيق الغاية التي اسست الشركة من أجلها(65) أو استحالتها(66)، افلاس الشركة (67)، هلاك رأسمال الشركة وقيام الشريك الوحيد بحل الشركة بارادته المنفردة(68).
إلا أن هناك اسباباً خاصة تبرر انقضاء شركة الشخص الواحد كوفاة الشريك الوحيدة (69) تعطل سير العمل في الشركة كاختفاء الشريك وبقاء الشركة بدون شريك(70)، وهناك حالتان لانقضاء شركة الشخص الواحد في القانون الفرنسي لسنة 1985 وهما: لا يجوز للشخص الطبيعي انشاء أكثر من شركة شخص واحد كما لا يجوز لشركة الشخص الواحد انشاء شركة أخرى بشخص واحد(71).
المطلب الثالث : ادارة الشركة
يتولى ادارة شركة الشخص الواحد مدير قد يكون هو الشريك الوحيد وقد يكون المدير من خارج الشركة مع مراعاة أن إدارة الشركة المساهمة العامة مناطه بأكثر من جهة، إذ يتولاها مجلس الإدارة والمدير العام، ومن شروط عضوية مجلس الإدارة أن يكون العضو مساهماً في الشركة (م133)، أما المديرالعام فيعينه مجلس الإدارة من ذوي الكفاءة وتحدد صـلاحياته من قبـل مجـلس الإدارة (م 153/أ). ولا بد من ان يكون المدير شخصاً طبيعياً على الرغم من عدم ذكر ذلك صراحةً بموجب المادتين (60/أ و 72/ب مكرر) من قانون الشركات الأردني وذلك على خلاف المادة السادسة من القانون الألماني التي نصت صراحة على ان يتولى ادارة الشركة ذات المسؤولية المحدودة سواء أكانت فردية ام متعددة الشركاء مديراً واحداً او عدة مديرين من الأشخاص الطبيعيين، وكذلك المادة (49) من قانون 1966 الفرنسي التي اشترطت في مدير شركة الشخص الواحد ان يكون شخصاً او عدة أشخاص طبيعيين وكذلك المادة (282) من قانون الشركات الإنجليزي عام 1985 التي تشـترط في مدير الشـركة المسـاهمة الخصوصية ( شركة ذات مسؤولية محدودة ) ان يكون شخصاً طبيعياً .
ويعين مدير الشركة لمدة اربع سنوات (م 60/أ و 72/أ مكرر ) سواء أكان المدير هو الشريك الوحيد للشركة ام غير ذلك، ويمكن للشريك الوحيد تحديد مدة المدير لانه يمثل الهيئة العامة للشركة ويمكن له ان يقيله كذلك مع ملاحظة انه يمكن للمدير المقال من عمله من قبل الشريك الوحيد ان يطالب بالتعويض عن الضرر الذي لحق به جراء عزله في وقت غير مناسب او دون مبرر مقبول (م864 مدني اردني ). كما يمكن لمدير الشركة ايضاً ان يستقيل من موقعه على ان تكون استقالته مبررة وفي وقت مناسب والا اعتبر متعسفاً لحقه ويلزم بتعويض الشركة عما لحقها من عطل وضرر (م866/1 مدني اردني ).
ويكون لمدير الشركة الصلاحيات الكاملة في ادارة الشركة في الحدود التي يبين نظامها الأساسي(72)، وتُلزم الشركة بأعمال وتصرفات المدير في مواجهة الغير حسن النية على الرغم من أي قيد يرد في نظام الشركة اوعقد تأسيسها(م60/ب).
وقد اكدت المادة (37) من القانون لألماني والمادة (49/6) من قانون 1966 الفرنسي والمادة (35/أ/1) من قانون الشركات الانجليزي على حماية الغير حسن النية بحيث لا يجوز التمسك في مواجهة الغير حسن النية بأية قيود ترد على سلطات المدير. وقد افترض المشرع الأردني حسن النية فيمن يتعامل مع الشركة من الغير ما لم يثبت عكس ذلك مع التأكيد على ان الغير غير ملزم بالتحقق من وجود أي قيد على صلاحيات المدير (م 60/ج) . لذلك يقع لزاماً على عاتق مدير الشركة ان يعد الموازنة السنوية للشركة وحساباتها الختامية بما في ذلك حساب الأرباح والخسائر والايضاحات المرفقة، مدققة جميعها من مدققي حسابات قانونيين. كما يجب عليه اعداد التقرير السنوي عن اعمال الشركة وانجازاتها ومشاريعها وتقديمها لمراقب الشركات مرفقة بالتوصيات المناسبة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة المالية الجديدة للشركة ( م62و75 مكرر).
ولا مجال لتطبيق الحظر الوارد في المادتين (63/أ و 74/ب مكرر ) على مدير الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة اذا كان المدير هو الشريك الوحيد والخاص بتولي وظيفة في شركة اخرى ذات غايات مماثلة او منافسة لأعمال الشركة او ممارسة عمل مماثل لأعمال الشركة سواء لحسابه او لحساب الغير بأجر او بدونه او الاشتراك في ادارة شركة اخرى ذات غايات مماثلة او منافسة لأعمال الشركة وذلك لأن هذا الحظر يمكن تجنبه بموافقة الهيئة العامة بأغلبية 75% من الحصص المكونة لرأسمال الشركة ذات المسؤولية المحدودة وبموافقة مجلس الادارة في الشركة المساهمة الخاصة، وبما ان مدير الشركة في هذا الحالة يملك 100% من رأسمال الشركة فالأغلبية متوافرة وبما ان مجلس الادارة في الشركة المساهمة الخاصة يتمثل في شخص المساهم الوحيد في الشركة فالموافقة حاصلة، كما ان العلة من الحظر وهي منع منافسة الشركة لا وجود لها مع شركة الشخص الواحد. اما اذا كان مدير الشركة الشخص الواحد غير الشريك الوحيد فإنه يمنع عليه مباشرة الأعمال السابقة الا اذا حصل على موافقة الشريك الوحيد .
واذا ما قام مدير الشركة (على فرض بأنه غير الشريك) بالأعمال السابقة دون الحصول على موافقة الشريك الوحيد يمهله مراقب الشركات مدة ثلاثين يوماً من تاريخ عمله بذلك لتوفيق اعماله، فإن لم يصوب اوضاعه يعاقب بغرامة لا تقل عن الف دينار ولا تزيد عن عشرة آلاف دينار مع الزامه بالضرر الذي لحق بالشركة ، ويعتبر المدير فاقداً لوظيفته اذا ما استمرت المخالفة في حالة الشركة ذات المسؤولية المحدودة وبغرامة لا تزيد على الف دينار في حالة الشركة المساهمة الخاصة (م63/ب و74/ج مكرر). وتقوم مسؤولية مدير الشركة تجاه الغير اذا كان الشريك الوحيد هو مدير الشركة وتجاه الشريك والغير اذا كان المدير هو غير الشريك لارتكابه أي مخالفة لأحكام قانون الشركات والأنظمة الصادرة بموجبه ولعقد تأسيس الشركة ونظامها (م61 و 73 مكرر) .
المطلب الرابع : رأس مال شركة الشخص الواحد
إن الحد الأدنى لرأسمال شركة الشخص الواحد في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة هو ثلاثون الف دينار اردني (م54/أ ). ويمكن للشريك الوحيد ان يقدم جزءً من رأسمال الشركة على شكل حصة عينية ولكن لا يجوز له ان يقدم كل رأس مال الشركة على شكل حصة عينية لأنه يحتاج الى سيولة لمباشرة اعمال الشركة. الا ان المادة (58) تلزم الشريك الوحيد اذا ما اراد ان يقدم جزءً من رأسمال الشركة حصة عينية
ان يحافظ عليها الى حين تسجيلها بإسم الشركة ونقل ملكيتها اليها، واذا لم يقم بهذا الالتزام يبقى مديناً بدفع قيمتها نقداً وفق السعر المعتمد عند تحرير نظام الشركة. ولمراقب الشركات ان يطلب ما يثبت صحة تقدير قيمة الحصص العينية، وتعتبر حقوق الاختراع والمعرفة الفنية وغيرها من الحقوق المعنوية من المقدمات العينية .
ويجب على الشريك الوحيد في الشركة ذات المسؤولية المحدودة ان يقدم ما يثبت انه قد دفع ما لا يقل عن 50% من راسمال الشركة خلال السنتين التاليتين لتسجيلها (م59/ب). وهذا المبلغ هو الضمان لمجموع الدائنين نظراً لمسؤولية الشريك المحدودة عن ديونها والتزاماتها .
وقد استلزم القانون الألماني حداً ادنى لرأسمال شركة الشخص الواحد قيمته (50.000) مارك الماني يكتتب فيها الشريك الوحيد بكاملها وقت التأسيس (م5)، كما اشترط القانون الفرنسي ان لا يقل رأسمال هذه الشركة عن (50.000) فرنك فرنسي الا انه لم يشترط الاكتتاب بكامل الحصة مباشرة وقت التأسيس(م35)، في حين لم يشترط القانون الانجليزي حداً ادنى لرأسمال هذه الشركة. ونرى انه من الضروري وضع حد ادنى لرأسمال هذه الشركة على اعتبار انه الضمان الوحيد للدائنين وفي ظل المسؤولية المحدودة للشريك عن ديون هذه الشركة والتزاماتها وزيادة رأسمالها الى خمسين الف دينار اردني، كما انه من الأفضل دفع هذا المبلغ الكامل عند تأسيس هذه الشركة وذلك لضمان جدية هذه الشركة. اما الحد الأدنى لرأسمال الشركة المساهمة الخاصة فهو مجموع القيم الاسمية لأسهم الشركة والذي يجب ان لا يقل عن خمسين الف دينار اردني (م 69 مكرر) ولا يمكن تسجيل هذه الشركة ما لم يقدم المساهم الوحيد ما يثبت انه قد دفع بالفعل ما لا يقل عن خمسين الف دينار (م 69/ب مكرر).
ولذلك يقترح البعض(73) – وبحق – من انصار شركة الشخص الواحد وضع حد ادنى لرأسمال هذه الشركة يفوق الحد الأدنى لرأسمال الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة المكونة من اكثر من شريك وذلك لأن رأسمال شركة الشخص الواحد هو الضمان الوحيد لهذه الشركة في ظل غياب رقابة باقي الشركاء على بعضهم البعض كونها مكونة من شريك وحيد. كما لا بد من ضمان الوجود الفعلي لرأسمال هذه الشركة من خلال اشتراط دفع كامل رأسمال هذه الشركة المسجل فوراً عند تسجيلها، وهذا ما فعله المشرع الأردني بخصوص الشركة المساهمة الخاصة ( م 69/ب). ولا بد من مراقبة تقييم الحصص العينية التي قد يقدمها الشريك الوحيد بهدف حماية دائني الشركة، هذا الى جانب تقدير مسؤولية الشريك الوحيد عن الفرق بين التقدير الحقيقي والتقدير المبالغ فيه للحصة العينية. كما لابد من تقديم كفالة مصرفية بقيمة الحصة العينية وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إطمئنان الغير عند الوجود الحقيقي لرأسمالي الشركة(74)
ويجب ان تخضع شركة الشخص الواحد الى رقابة مالية يتولاها مراقب حسابات يعين من خلال مراقب الشركات وذلك لضمان عدم الخلط بين اموال الشريك الشخصية واموال الشركة وذلك من خلال تدقيق حسابات الشركة. ولا بد من الافصاح عن الصفة الفردية والمحدودة للشركة سواء من خلال عقد التأسيس او من خلال العقود والمستندات والفواتير والاعلانات الصادرة عنها. وتتحول مسؤولية الشريك المنفرد من مسؤولية محدودة الى مسؤولية شخصية في كل أمواله وذمته المالية اذا ما ثبت غشه وتحايله ومحاولته الخلط بين الذمة المالية للشركة وذمته المالية الخاصة.
المطلب الخامس : الذمة المالية للشركة
تتمتع شركة الشخص الواحد بشخصية معنوية مستقلة عن شخصية الشركاء ، ويعود الاعتراف بالشخصية المعنوية المستقلة للشركة بشكل عام الى القرون الوسطى مع ظهور شركات التوصية البسيطة وشيوعها في التجارة البرية، كما تعمقت هذه الفكرة بانشاء شركات الاسهم في بداية العصر الحديث مع وجود حركات الاستكشاف البحري ورحلات التجار التي قادتها الدول البحرية(75).
وتعتبر الشخصية المعنوية الأساس القانوني لشركة الشخص الواحد، إذ بعد أن كان ينظر للشخصية المعنوية للشركة على أنها مرتبطة بتعدد الشركاء لقيامها أصبح ينظر لها على عدم ارتباطها بفكرة تعدد الشركاء واصبح بإمكان شخص واحد أن ينشيء شركة بمفرده دون حاجة الى شركاء آخرين بسبب الضرورات العملية، وذلك بعد تعديل المفاهيم التقليدية في كل من قانون الشركات والقانون المدني وضمان حماية الغير(76) .
ان تبني نظام تجزئة الذمة المالية للمستثمر من خلال مباشرة شركة من شخص واحد يخالف مبدأ وحدة الذمة المالية الذي يقوم اساساً على ان جميع اموال المدين ضامنة للوفاء بديونه (م 365 من القانون المدني الأردني). إذ بموجب شركة الشخص الواحد يمكن لتاجر أن يخصص جزءً من أمواله لأغراض التجارة في إطار شركته وتكون هذه الأموال هي فقط الضامنة لديون هذه الشركة ولن تكون أمواله الأخرى ضامنة لديونه الخاصة بالشركة.
إن هناك خطر الإختلاط بين الذمة المالية لشركة الشخص الواحد والذمة المالية للشريك الوحيد من حيث الأموال أو الإلتزامات، ويزداد هذا الخطر في حالة وجود أكثر من ذمة مالية للشريك الوحيد. ويعود هذا الخطر إلى صعوبة وضع حدود فاصلة بين أموال الشريك الوحيد الخاصة وأمواله التي خصصها للإستثمار في شركة الشخص الواحد، لذلك يجب وضع نصوص قانونية تمنع مثل هذا الإختلاط. كما يمكن أن يحدث الإختلاط في الإلتزامات الخاصة بالشريك الوحيد وإلتزامات شركة الشخص الواحد(77). ومثل هذه المخاطر تدفع البنوك إلى طلب كفالات شخصية من قبل الشريك الوحيد إذا ما اراد الحصول على قرض لمصلحة الشركة وهذا مما يؤدي إلى إهدار الفائدة المرجوة من تحديد مسؤولية الشريك الوحيد (78). ولذلك إقترح البعض(79) تعطيل مبدأ تحديد المسؤولية إذا ثبت أن هناك خلطاً بين الذمة المالية الشخصية للشريك الوحيد وذمة الشركة وقصر أنشاء شركة الشخص الواحد على المشروعات الصغيرة وتحديد حد أدنى لرأسمال هذه المشروعات.
لكل ما سبق، فإننا نرى أنه يجب تحديد مكونات وقيمة الأموال التي تدخل في ذمة التخصيص ( الذمة المالية لشركة الشخص الواحد)، ووضع حد أدنى لرأسمال هذه الذمة المالية، وفرض رقابة على حقيقة هذه الأموال وقيمتها، ويمكن لصاحب الشركة إدارة هذه الذمة المالية كما قد يسمح للغير بإدارتها شريطة تحديد سلطات وحقوق هذا الغير، على أن يراعى في هذا الشأن إجراءات النشر والشهر لدى السجل التجاري بهدف حماية دائني الشركة بخصوص مشروعه التجاري.
المطلب السادس:- عدم وجود تنظيم قانوني مستقل للشركة
أشارت المادتان (53/ب و 65 /أ مكرر) من قانون الشركات الأردني إلى إمكانية تسجيل شركة ذات مسؤولية محدودة مؤلفة من شريك واحد وشركة مساهمة خاصة مؤلفة من شخص واحد، كما أشارت المادة (90/ب) من ذات القانون بعد التعديل إلى إمكانية أن تؤول ملكية شركة مساهمة عامه إلى مساهم واحد دون إيجاد أحكام قانونية خاصة بتنظيم هذه الأنواع من الشركات. ويستفاد من ذلك إتجاه نية المشرع نحو تطبيق الأحكام القانونية المتعلقة بالشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شركيين أو أكثر على الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شريك واحد وتطبيق أحكام الشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شريكين على الشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شخص واحد وبتطبيق أحكام الشركة المساهمة العامة المملوكه من أكثر من مساهم على الشركة المملوكه من مساهم واحد ما عدا تلك الأحكام التي تتنافى مع فكرة وجود شريك وحيد في الشركة.
إلا أن الأحكام القانونية التي تنظم كل من الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة والشركة المساهمة العامه لا تسعفنا في الإجابة على كثير من التساؤلات المتعلقة بشركة الشخص الواحد ومنها: مدى قدرة الشخص الواحد على إنشاء شركات شخص واحد أخرى بشكل واضح؟ وهل يفهم من عدم وجود نص خاص يعالج هذه المسألة أن الأصل في الأمور الإباحة، وبالتالي يجوز للشريك الوحيد إنشاء شركات شخص واحد أخرى أم يمنع عليه ذلك؟ وإذا منعنا الشريك الوحيد من إنشاء شركات شخص واحد أخرى فإن هذا قد يدفعه إلى إنشاء شركات وهمية يكون هو المالك الفعلي لها وهي من المبررات الهامة لإنشاء شركة الشخص الواحد كما أشرنا سابقاً. وإذا ما سمحنا للشريك الوحيد إنشاء شركات شخص واحد أخرى أدى ذلك إلى تقسيم ذمته المالية إلى ذمم مالية صغيرة مما يلحق ضرر بالدائنيين الذين تشكل الذمة المالية للشركة ضمانهم الوحيد.
كما لم ينظم المشرع الأردني مدى مسؤولية الشريك الوحيد عن الخلط بين ذمته المالية الخاصة والذمة المالية للشركة فكل من الذمتين مستقلتين ولا يجوز الخلط بينهما، كأن يظهر الشريك الوحيد للغير بأنه يتعامل لحساب الشركة في حين أنه يتعامل لحسابه الخاص، ولذلك فإن إخفائه لإيراد أعماله في الشركة في ذمته المالية العامة سوف يضر بدائني الشركة حتى لا يكون بمقدورهم الحجز عليها لأن مسؤولية الشريك الوحيد محدودة في نطاق الأموال التي خصصها لمباشرة أعمال الشركة. ولم يوفر القانون حماية للغير إذ لم يفرض التدخل الإجباري لمراقب الحسابات، ولم يعالج الإتفاقات التي تتم بين الشريك الوحيد والشركة خاصة إذا لم يحافظ الشريك الوحيد على الفصل الواجب بين ذمته الشخصية وذمة الشركة(80).
وإذا كان المشرع الأردني قد نظم بقاء الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من أكثر من شريك وإقتصارها على شخص واحد، وهي الطريقة غير المباشرة لتأسيس شركة الشخص الواحد نتيجة إجتماع حصص الشركة في يد شريك واحد، كما اٍعترف بالطريقة غير المباشرة لتكوين الشركة المساهمة الخاصة وذلك عندما أجاز أن يصبح عدد مساهمي هذه الشركة شخصاً واحداً بعد أن تكون قد سجلت من شريكين أو أكثر (65/أ مكرر). فقد كان الأجدر به أن يجيز إستمرار شركة التضامن رغم إقتصارها على شريك واحد نتيجة وفاة أو إنسحاب باقي الشركاء لا أن يجعلها محلولة حكما بعد إعطاء الشريك الوحيد مهلة ثلاثة أشهر لتصويب أوضاع الشركة (م 28/د)، خاصة إذا ما علمنا أن مسؤولية الشريك الوحيد مسؤولية شخصية غير محدودة في شركة التضامن وهذا من شانه أن يزيد من ضمانات الدائنيين في الحصول على ديونهم أكثر من الشركة ذات المسؤولية المحدودة.
المبحث الثاني
الصعوبات القانونية التي تواجه شركة الشخص الواحد
إن تبني شركة الشخص الواحد يصطدم بمجموعة من العقبات من أهمها ان الشركة عقد، والعقد يفترض وجود طرفين على الاقل بينما تؤسس شركة الشخص الواحد بشريك وحيد، وهذا يتنافى مع تعريف كل من القانون المدني الاردني وقانون الشركات للشركة.
كما ان الأركان الموضوعية والشكلية الواجب توافرها لتأسيس شركة الشخص الواحد تختلف لكي تتلائم مع وجود شريك واحد في هذه الشركة، هذا بالإضافة الى ان هناك خصوصية في إدارة هذه الشركة وتقديم راسمالها وذمتها المالية. وبالنتيجة هناك صعوبة تتمثل في عدم وجود تنظيم قانوني يعالج كافة المسائل المتعلقة بهذه الشركة، إذ ان الأحكام القانونية التي تنظم الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شريكين او اكثر كما ان الاحكام القانونية التي تنظم الشركة المساهمة الخاصة لا تستطيع ان تعالج كافة المسائل الخاصة بالشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شريك او مساهم وحيد، وسوف نعالج هذه الصعوبات في مطالب مستقلة.
المطلب الأول: تعريف الشركة
تَعّرف المادة (582) من القانون المدني الأردني الشركة على أنها: “عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي بتقديم حصته من مال أو من عمل لاستثمار ذلك المشروع واقتسام ما قد ينشأ عنه من ربح أو خسارة(54 ). وبموجب هذا التعريف فإن الشركة عقد(55) يستلزم وجود شريكين على الأقل في حين أن شركة الشخص الواحد تنشأ بإرادة منفردة هي إرادة الشريك الوحيد في الشركة وتعد إستثناء على الفكرة العقديه للشركة وتطبيقا للفكرة التنظيمية لها. ولهذا ينبغي تعديل هذا النص بحيث لا تَُعّرف الشركة على أنها عقد بل يشار إلى أن الشركة قد تنشأ بموجب عقد أو إرادة منفردة لا أن الشركة عقد وذلك على غرار ما نصت عليه المادة (1832) من القانون المدني الفرنسي الجديد الصادر عام 1985 عندما عرفت الشركة على انها:
1- “تنشأ الشركة من شخصين أو أكثر يتفقون بعقد فيما بينهم بتخصص لمشروع مشترك أموال أو عمل بغرض تقسيم الأرباح أو تحقيق وفر اقتصادي ينتج عنه.
2- يجوز إنشاؤها في الحالات الواردة في القانون بعمل إرادي من شخص واحد يتعهد الشركاء بالمساهمة في الخسارة”.
وفي حال تعديل تعريف الشركة الوارد في المادة (582) من القانون المدني الأردني فإننا نحتاج إلى تعديل تعريف الشركة ذات المسؤولية المحدودة بما يتفق مع تعديل تعريف الشركة بشكل عام. وفي هذا السياق يمكن الاسترشاد بتعريف الشركة ذات المسؤولية المحدودة الوارد في المادة الثانية من قانون الشركات الفرنسي الصادر عام 1985 إذ تعرفها كما يلي: “تنشأ الشركة ذات المسؤولية المحدودة من شخص واحد أو عدة أشخاص يتحملون الخسائر بنسبة حصصهم في رأس المال”. كما اننا نحتاج الى تعديل تعريف الشركة المساهمة الخاصة الوارد في المادة (65 مكرر) من قانون الشركات بحيث تصبح على النحو التالي :- تنشأ الشركة المساهمة الخاصة من شخص واحد او عدة اشخاص …” .
المطلب الثاني: تأسيس شركة الشخص الواحد
إن شركة الشخص الواحد تصرف قانوني من جانب واحد أي جانب الشريك الوحيد في هذه الشركة، وبما أن هذه الشركة تنشأ بموجب هذا التصرف فإنها (أي الشركة) تستلزم توافر الأركان الموضوعية العامة والخاصة بالإضافة إلى الأركان الشكلية التي يجب توافرها لتكوين اي شركة أخرى مع مراعاة الطبيعة الخاصة لشركة الشخص الواحد. ولذلك يجب توافر الأهلية التجارية(56) لدى الشريك الوحيد وان يكون محل الشركة مشروعاً غير مخالف للنظام العام والآداب العامة(57)، كما لابد ان يكون للشركة سبب مشروع وهو الغرض والهدف الذي قصد الشريك الوحيد تحقيقه .
وفيما يتعلق بركن تعدد الشركاء فإن هذا الركن مفتقد في شركة الشخص الواحد لأنها قائمة اساساً على وجود شريك واحد، ويمكن لهذا الشريك الوحيد ان يكون شخصاً طبيعياً او معنوياً ما دام لم يورد المشرع أي قيد بهذا الخصوص(58) .
ورغم ان القانون الألماني ( المادة 4) والقانون الفرنسي ( المادة 5) قد خليا من اشتراط ان يكون الشريك الوحيد شخصاً طبيعياً او معنوياً مما يفيد انطباق نصوصهما على كافة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين على حد سواء، الا ان القانون الفرنسي لا يجيز للشخص الطبيعي تأسيس اكثر من شخص واحد كما لا يجيز لشركة الشخص الواحد تأسيس شركة اخرى ذات مسؤولية محدودة بشخص واحد (59). فيما منع القانون البلجيكي (المادة 7/2) ان يكون مؤسس شركة الشخص الواحد شخصاً معنوياً اذ يجب ان يكون شخصاً طبيعياً .
وحسب المادتين ( 53/ب و 65 /أ مكرر ) من قانون الشركات الأردني فإنه لا يوجد ما يمنع قيام شخص واحد طبيعياً كان او معنوياً بتأسيس اكثر من شركة شخص واحد ما دام لم يورد المشرع أي قيد يتعلق بتعدد الشركات التي يستطيع الشريك الوحيد تأسيسها، وكذلك الحال بالنسبة للمساهم الوحيد الذي يتملك كامل أسهم الشركة المساهمة العامة وبشرط ضمان عدم الخلط بين الذمم المالية لهذه الشركات . وكذلك فعل القانون الألماني ، الا ان القانون الفرنسي حضر على الشخص الطبيعي تأسيس اكثر من شركة فردية ذات مسؤولية محدودة(60).
وبخصوص تقديم الحصص، فالأصل ان يقدم الشركاء عند تأسيس الشركة حصص سواء أكانت حصص نقدية او عينية منقولة او غير منقولة من اجل المساهمة في رأس مال الشركة لأغراض اقتسام الأرباح والخسائر. وفي شركة الشخص الواحد حيث لا يوجد الا شريك واحد فإن بامكانه تقديم حصص نقدية وحصص عينية لتأسيس الشركة ويتم تقدير الحصص العينية لاحتسابها في رأس مال الشركة، على ان يعتبر الشريك مسؤولاً عن أية مبالغة في تقدير الحصص العينية في شركة الشخص الواحد اذا زادت قيمة الحصة العينية في أمواله الخاصة حماية للغير الذين يتعاملون معه(61). وقد ألزمت المادة (4/3) من قانون الشركات الفرنسي الشريك الوحيد تعيين خبير مختص لأغراض تقييم الحصص العينية شركة الشخص الواحد إذا زادت قيمة الحصة العينية عن (50) ألف فرنك أو اذا زادت قيمتها عن نصف رأس مال الشركة، ولكن لا يجوز له تقديم حصة عمل كجزء من رأسمال الشركة ( م38/2 ) من القانون الفرنسي .
ولا يتصور وجود ركن نية المشاركة في شركة الشخص الواحد اذ ان الركن يفترض وجود اكثر من شريك في الشركة وهذا غير متوافر في هذا النوع من الشركات. الا ان المقصود بهذا الركن – كما يرى البعض(62)– هنا هي المصلحة العامة التي تعود على الشركة كشخص اعتباري، ولكن مثل هذا التفسير لركن نية المشاركة غير واضح وغير محدد اذ ان المنفعة التي تعود على الشركة في حالة شركة الشخص الواحد هي ذاتها مصلحة الشريك الوحيد .
وبخلاف الصعوبات المتعلقة بالاركان الموضوعية لشركة الشخص الواحد السبق ذكرها, فانه لا توجد صعوبات فيما يخص الأركان الشكلية وهي الاجراءات التي يجب اتباعها لتأسيس هذه الشركة.(63) وتخضع اجراءات تأسيس شركة الشخص الواحد للأحكام التي تطبق على الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة نفسها مع مراعاة طبيعة هذه الشركة.
أما بخصوص انقضاء شركة الشخص الواحد, فتنقضي بالاسباب العامة التي تخضع لها الشركات عادة وهي: انتهاء مدة الشركة اذا كانت الشركة محدودة المدة (64) ، تحقيق الغاية التي اسست الشركة من أجلها(65) أو استحالتها(66)، افلاس الشركة (67)، هلاك رأسمال الشركة وقيام الشريك الوحيد بحل الشركة بارادته المنفردة(68).
إلا أن هناك اسباباً خاصة تبرر انقضاء شركة الشخص الواحد كوفاة الشريك الوحيدة (69) تعطل سير العمل في الشركة كاختفاء الشريك وبقاء الشركة بدون شريك(70)، وهناك حالتان لانقضاء شركة الشخص الواحد في القانون الفرنسي لسنة 1985 وهما: لا يجوز للشخص الطبيعي انشاء أكثر من شركة شخص واحد كما لا يجوز لشركة الشخص الواحد انشاء شركة أخرى بشخص واحد(71).
المطلب الثالث : ادارة الشركة
يتولى ادارة شركة الشخص الواحد مدير قد يكون هو الشريك الوحيد وقد يكون المدير من خارج الشركة مع مراعاة أن إدارة الشركة المساهمة العامة مناطه بأكثر من جهة، إذ يتولاها مجلس الإدارة والمدير العام، ومن شروط عضوية مجلس الإدارة أن يكون العضو مساهماً في الشركة (م133)، أما المديرالعام فيعينه مجلس الإدارة من ذوي الكفاءة وتحدد صـلاحياته من قبـل مجـلس الإدارة (م 153/أ). ولا بد من ان يكون المدير شخصاً طبيعياً على الرغم من عدم ذكر ذلك صراحةً بموجب المادتين (60/أ و 72/ب مكرر) من قانون الشركات الأردني وذلك على خلاف المادة السادسة من القانون الألماني التي نصت صراحة على ان يتولى ادارة الشركة ذات المسؤولية المحدودة سواء أكانت فردية ام متعددة الشركاء مديراً واحداً او عدة مديرين من الأشخاص الطبيعيين، وكذلك المادة (49) من قانون 1966 الفرنسي التي اشترطت في مدير شركة الشخص الواحد ان يكون شخصاً او عدة أشخاص طبيعيين وكذلك المادة (282) من قانون الشركات الإنجليزي عام 1985 التي تشـترط في مدير الشـركة المسـاهمة الخصوصية ( شركة ذات مسؤولية محدودة ) ان يكون شخصاً طبيعياً .
ويعين مدير الشركة لمدة اربع سنوات (م 60/أ و 72/أ مكرر ) سواء أكان المدير هو الشريك الوحيد للشركة ام غير ذلك، ويمكن للشريك الوحيد تحديد مدة المدير لانه يمثل الهيئة العامة للشركة ويمكن له ان يقيله كذلك مع ملاحظة انه يمكن للمدير المقال من عمله من قبل الشريك الوحيد ان يطالب بالتعويض عن الضرر الذي لحق به جراء عزله في وقت غير مناسب او دون مبرر مقبول (م864 مدني اردني ). كما يمكن لمدير الشركة ايضاً ان يستقيل من موقعه على ان تكون استقالته مبررة وفي وقت مناسب والا اعتبر متعسفاً لحقه ويلزم بتعويض الشركة عما لحقها من عطل وضرر (م866/1 مدني اردني ).
ويكون لمدير الشركة الصلاحيات الكاملة في ادارة الشركة في الحدود التي يبين نظامها الأساسي(72)، وتُلزم الشركة بأعمال وتصرفات المدير في مواجهة الغير حسن النية على الرغم من أي قيد يرد في نظام الشركة اوعقد تأسيسها(م60/ب).
وقد اكدت المادة (37) من القانون لألماني والمادة (49/6) من قانون 1966 الفرنسي والمادة (35/أ/1) من قانون الشركات الانجليزي على حماية الغير حسن النية بحيث لا يجوز التمسك في مواجهة الغير حسن النية بأية قيود ترد على سلطات المدير. وقد افترض المشرع الأردني حسن النية فيمن يتعامل مع الشركة من الغير ما لم يثبت عكس ذلك مع التأكيد على ان الغير غير ملزم بالتحقق من وجود أي قيد على صلاحيات المدير (م 60/ج) . لذلك يقع لزاماً على عاتق مدير الشركة ان يعد الموازنة السنوية للشركة وحساباتها الختامية بما في ذلك حساب الأرباح والخسائر والايضاحات المرفقة، مدققة جميعها من مدققي حسابات قانونيين. كما يجب عليه اعداد التقرير السنوي عن اعمال الشركة وانجازاتها ومشاريعها وتقديمها لمراقب الشركات مرفقة بالتوصيات المناسبة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة المالية الجديدة للشركة ( م62و75 مكرر).
ولا مجال لتطبيق الحظر الوارد في المادتين (63/أ و 74/ب مكرر ) على مدير الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة اذا كان المدير هو الشريك الوحيد والخاص بتولي وظيفة في شركة اخرى ذات غايات مماثلة او منافسة لأعمال الشركة او ممارسة عمل مماثل لأعمال الشركة سواء لحسابه او لحساب الغير بأجر او بدونه او الاشتراك في ادارة شركة اخرى ذات غايات مماثلة او منافسة لأعمال الشركة وذلك لأن هذا الحظر يمكن تجنبه بموافقة الهيئة العامة بأغلبية 75% من الحصص المكونة لرأسمال الشركة ذات المسؤولية المحدودة وبموافقة مجلس الادارة في الشركة المساهمة الخاصة، وبما ان مدير الشركة في هذا الحالة يملك 100% من رأسمال الشركة فالأغلبية متوافرة وبما ان مجلس الادارة في الشركة المساهمة الخاصة يتمثل في شخص المساهم الوحيد في الشركة فالموافقة حاصلة، كما ان العلة من الحظر وهي منع منافسة الشركة لا وجود لها مع شركة الشخص الواحد. اما اذا كان مدير الشركة الشخص الواحد غير الشريك الوحيد فإنه يمنع عليه مباشرة الأعمال السابقة الا اذا حصل على موافقة الشريك الوحيد .
واذا ما قام مدير الشركة (على فرض بأنه غير الشريك) بالأعمال السابقة دون الحصول على موافقة الشريك الوحيد يمهله مراقب الشركات مدة ثلاثين يوماً من تاريخ عمله بذلك لتوفيق اعماله، فإن لم يصوب اوضاعه يعاقب بغرامة لا تقل عن الف دينار ولا تزيد عن عشرة آلاف دينار مع الزامه بالضرر الذي لحق بالشركة ، ويعتبر المدير فاقداً لوظيفته اذا ما استمرت المخالفة في حالة الشركة ذات المسؤولية المحدودة وبغرامة لا تزيد على الف دينار في حالة الشركة المساهمة الخاصة (م63/ب و74/ج مكرر). وتقوم مسؤولية مدير الشركة تجاه الغير اذا كان الشريك الوحيد هو مدير الشركة وتجاه الشريك والغير اذا كان المدير هو غير الشريك لارتكابه أي مخالفة لأحكام قانون الشركات والأنظمة الصادرة بموجبه ولعقد تأسيس الشركة ونظامها (م61 و 73 مكرر) .
المطلب الرابع : رأس مال شركة الشخص الواحد
إن الحد الأدنى لرأسمال شركة الشخص الواحد في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة هو ثلاثون الف دينار اردني (م54/أ ). ويمكن للشريك الوحيد ان يقدم جزءً من رأسمال الشركة على شكل حصة عينية ولكن لا يجوز له ان يقدم كل رأس مال الشركة على شكل حصة عينية لأنه يحتاج الى سيولة لمباشرة اعمال الشركة. الا ان المادة (58) تلزم الشريك الوحيد اذا ما اراد ان يقدم جزءً من رأسمال الشركة حصة عينية
ان يحافظ عليها الى حين تسجيلها بإسم الشركة ونقل ملكيتها اليها، واذا لم يقم بهذا الالتزام يبقى مديناً بدفع قيمتها نقداً وفق السعر المعتمد عند تحرير نظام الشركة. ولمراقب الشركات ان يطلب ما يثبت صحة تقدير قيمة الحصص العينية، وتعتبر حقوق الاختراع والمعرفة الفنية وغيرها من الحقوق المعنوية من المقدمات العينية .
ويجب على الشريك الوحيد في الشركة ذات المسؤولية المحدودة ان يقدم ما يثبت انه قد دفع ما لا يقل عن 50% من راسمال الشركة خلال السنتين التاليتين لتسجيلها (م59/ب). وهذا المبلغ هو الضمان لمجموع الدائنين نظراً لمسؤولية الشريك المحدودة عن ديونها والتزاماتها .
وقد استلزم القانون الألماني حداً ادنى لرأسمال شركة الشخص الواحد قيمته (50.000) مارك الماني يكتتب فيها الشريك الوحيد بكاملها وقت التأسيس (م5)، كما اشترط القانون الفرنسي ان لا يقل رأسمال هذه الشركة عن (50.000) فرنك فرنسي الا انه لم يشترط الاكتتاب بكامل الحصة مباشرة وقت التأسيس(م35)، في حين لم يشترط القانون الانجليزي حداً ادنى لرأسمال هذه الشركة. ونرى انه من الضروري وضع حد ادنى لرأسمال هذه الشركة على اعتبار انه الضمان الوحيد للدائنين وفي ظل المسؤولية المحدودة للشريك عن ديون هذه الشركة والتزاماتها وزيادة رأسمالها الى خمسين الف دينار اردني، كما انه من الأفضل دفع هذا المبلغ الكامل عند تأسيس هذه الشركة وذلك لضمان جدية هذه الشركة. اما الحد الأدنى لرأسمال الشركة المساهمة الخاصة فهو مجموع القيم الاسمية لأسهم الشركة والذي يجب ان لا يقل عن خمسين الف دينار اردني (م 69 مكرر) ولا يمكن تسجيل هذه الشركة ما لم يقدم المساهم الوحيد ما يثبت انه قد دفع بالفعل ما لا يقل عن خمسين الف دينار (م 69/ب مكرر).
ولذلك يقترح البعض(73) – وبحق – من انصار شركة الشخص الواحد وضع حد ادنى لرأسمال هذه الشركة يفوق الحد الأدنى لرأسمال الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة المكونة من اكثر من شريك وذلك لأن رأسمال شركة الشخص الواحد هو الضمان الوحيد لهذه الشركة في ظل غياب رقابة باقي الشركاء على بعضهم البعض كونها مكونة من شريك وحيد. كما لا بد من ضمان الوجود الفعلي لرأسمال هذه الشركة من خلال اشتراط دفع كامل رأسمال هذه الشركة المسجل فوراً عند تسجيلها، وهذا ما فعله المشرع الأردني بخصوص الشركة المساهمة الخاصة ( م 69/ب). ولا بد من مراقبة تقييم الحصص العينية التي قد يقدمها الشريك الوحيد بهدف حماية دائني الشركة، هذا الى جانب تقدير مسؤولية الشريك الوحيد عن الفرق بين التقدير الحقيقي والتقدير المبالغ فيه للحصة العينية. كما لابد من تقديم كفالة مصرفية بقيمة الحصة العينية وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إطمئنان الغير عند الوجود الحقيقي لرأسمالي الشركة(74)
ويجب ان تخضع شركة الشخص الواحد الى رقابة مالية يتولاها مراقب حسابات يعين من خلال مراقب الشركات وذلك لضمان عدم الخلط بين اموال الشريك الشخصية واموال الشركة وذلك من خلال تدقيق حسابات الشركة. ولا بد من الافصاح عن الصفة الفردية والمحدودة للشركة سواء من خلال عقد التأسيس او من خلال العقود والمستندات والفواتير والاعلانات الصادرة عنها. وتتحول مسؤولية الشريك المنفرد من مسؤولية محدودة الى مسؤولية شخصية في كل أمواله وذمته المالية اذا ما ثبت غشه وتحايله ومحاولته الخلط بين الذمة المالية للشركة وذمته المالية الخاصة.
المطلب الخامس : الذمة المالية للشركة
تتمتع شركة الشخص الواحد بشخصية معنوية مستقلة عن شخصية الشركاء ، ويعود الاعتراف بالشخصية المعنوية المستقلة للشركة بشكل عام الى القرون الوسطى مع ظهور شركات التوصية البسيطة وشيوعها في التجارة البرية، كما تعمقت هذه الفكرة بانشاء شركات الاسهم في بداية العصر الحديث مع وجود حركات الاستكشاف البحري ورحلات التجار التي قادتها الدول البحرية(75).
وتعتبر الشخصية المعنوية الأساس القانوني لشركة الشخص الواحد، إذ بعد أن كان ينظر للشخصية المعنوية للشركة على أنها مرتبطة بتعدد الشركاء لقيامها أصبح ينظر لها على عدم ارتباطها بفكرة تعدد الشركاء واصبح بإمكان شخص واحد أن ينشيء شركة بمفرده دون حاجة الى شركاء آخرين بسبب الضرورات العملية، وذلك بعد تعديل المفاهيم التقليدية في كل من قانون الشركات والقانون المدني وضمان حماية الغير(76) .
ان تبني نظام تجزئة الذمة المالية للمستثمر من خلال مباشرة شركة من شخص واحد يخالف مبدأ وحدة الذمة المالية الذي يقوم اساساً على ان جميع اموال المدين ضامنة للوفاء بديونه (م 365 من القانون المدني الأردني). إذ بموجب شركة الشخص الواحد يمكن لتاجر أن يخصص جزءً من أمواله لأغراض التجارة في إطار شركته وتكون هذه الأموال هي فقط الضامنة لديون هذه الشركة ولن تكون أمواله الأخرى ضامنة لديونه الخاصة بالشركة.
إن هناك خطر الإختلاط بين الذمة المالية لشركة الشخص الواحد والذمة المالية للشريك الوحيد من حيث الأموال أو الإلتزامات، ويزداد هذا الخطر في حالة وجود أكثر من ذمة مالية للشريك الوحيد. ويعود هذا الخطر إلى صعوبة وضع حدود فاصلة بين أموال الشريك الوحيد الخاصة وأمواله التي خصصها للإستثمار في شركة الشخص الواحد، لذلك يجب وضع نصوص قانونية تمنع مثل هذا الإختلاط. كما يمكن أن يحدث الإختلاط في الإلتزامات الخاصة بالشريك الوحيد وإلتزامات شركة الشخص الواحد(77). ومثل هذه المخاطر تدفع البنوك إلى طلب كفالات شخصية من قبل الشريك الوحيد إذا ما اراد الحصول على قرض لمصلحة الشركة وهذا مما يؤدي إلى إهدار الفائدة المرجوة من تحديد مسؤولية الشريك الوحيد (78). ولذلك إقترح البعض(79) تعطيل مبدأ تحديد المسؤولية إذا ثبت أن هناك خلطاً بين الذمة المالية الشخصية للشريك الوحيد وذمة الشركة وقصر أنشاء شركة الشخص الواحد على المشروعات الصغيرة وتحديد حد أدنى لرأسمال هذه المشروعات.
لكل ما سبق، فإننا نرى أنه يجب تحديد مكونات وقيمة الأموال التي تدخل في ذمة التخصيص ( الذمة المالية لشركة الشخص الواحد)، ووضع حد أدنى لرأسمال هذه الذمة المالية، وفرض رقابة على حقيقة هذه الأموال وقيمتها، ويمكن لصاحب الشركة إدارة هذه الذمة المالية كما قد يسمح للغير بإدارتها شريطة تحديد سلطات وحقوق هذا الغير، على أن يراعى في هذا الشأن إجراءات النشر والشهر لدى السجل التجاري بهدف حماية دائني الشركة بخصوص مشروعه التجاري.
المطلب السادس:- عدم وجود تنظيم قانوني مستقل للشركة
أشارت المادتان (53/ب و 65 /أ مكرر) من قانون الشركات الأردني إلى إمكانية تسجيل شركة ذات مسؤولية محدودة مؤلفة من شريك واحد وشركة مساهمة خاصة مؤلفة من شخص واحد، كما أشارت المادة (90/ب) من ذات القانون بعد التعديل إلى إمكانية أن تؤول ملكية شركة مساهمة عامه إلى مساهم واحد دون إيجاد أحكام قانونية خاصة بتنظيم هذه الأنواع من الشركات. ويستفاد من ذلك إتجاه نية المشرع نحو تطبيق الأحكام القانونية المتعلقة بالشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شركيين أو أكثر على الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شريك واحد وتطبيق أحكام الشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شريكين على الشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شخص واحد وبتطبيق أحكام الشركة المساهمة العامة المملوكه من أكثر من مساهم على الشركة المملوكه من مساهم واحد ما عدا تلك الأحكام التي تتنافى مع فكرة وجود شريك وحيد في الشركة.
إلا أن الأحكام القانونية التي تنظم كل من الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة والشركة المساهمة العامه لا تسعفنا في الإجابة على كثير من التساؤلات المتعلقة بشركة الشخص الواحد ومنها: مدى قدرة الشخص الواحد على إنشاء شركات شخص واحد أخرى بشكل واضح؟ وهل يفهم من عدم وجود نص خاص يعالج هذه المسألة أن الأصل في الأمور الإباحة، وبالتالي يجوز للشريك الوحيد إنشاء شركات شخص واحد أخرى أم يمنع عليه ذلك؟ وإذا منعنا الشريك الوحيد من إنشاء شركات شخص واحد أخرى فإن هذا قد يدفعه إلى إنشاء شركات وهمية يكون هو المالك الفعلي لها وهي من المبررات الهامة لإنشاء شركة الشخص الواحد كما أشرنا سابقاً. وإذا ما سمحنا للشريك الوحيد إنشاء شركات شخص واحد أخرى أدى ذلك إلى تقسيم ذمته المالية إلى ذمم مالية صغيرة مما يلحق ضرر بالدائنيين الذين تشكل الذمة المالية للشركة ضمانهم الوحيد.
كما لم ينظم المشرع الأردني مدى مسؤولية الشريك الوحيد عن الخلط بين ذمته المالية الخاصة والذمة المالية للشركة فكل من الذمتين مستقلتين ولا يجوز الخلط بينهما، كأن يظهر الشريك الوحيد للغير بأنه يتعامل لحساب الشركة في حين أنه يتعامل لحسابه الخاص، ولذلك فإن إخفائه لإيراد أعماله في الشركة في ذمته المالية العامة سوف يضر بدائني الشركة حتى لا يكون بمقدورهم الحجز عليها لأن مسؤولية الشريك الوحيد محدودة في نطاق الأموال التي خصصها لمباشرة أعمال الشركة. ولم يوفر القانون حماية للغير إذ لم يفرض التدخل الإجباري لمراقب الحسابات، ولم يعالج الإتفاقات التي تتم بين الشريك الوحيد والشركة خاصة إذا لم يحافظ الشريك الوحيد على الفصل الواجب بين ذمته الشخصية وذمة الشركة(80).
وإذا كان المشرع الأردني قد نظم بقاء الشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من أكثر من شريك وإقتصارها على شخص واحد، وهي الطريقة غير المباشرة لتأسيس شركة الشخص الواحد نتيجة إجتماع حصص الشركة في يد شريك واحد، كما اٍعترف بالطريقة غير المباشرة لتكوين الشركة المساهمة الخاصة وذلك عندما أجاز أن يصبح عدد مساهمي هذه الشركة شخصاً واحداً بعد أن تكون قد سجلت من شريكين أو أكثر (65/أ مكرر). فقد كان الأجدر به أن يجيز إستمرار شركة التضامن رغم إقتصارها على شريك واحد نتيجة وفاة أو إنسحاب باقي الشركاء لا أن يجعلها محلولة حكما بعد إعطاء الشريك الوحيد مهلة ثلاثة أشهر لتصويب أوضاع الشركة (م 28/د)، خاصة إذا ما علمنا أن مسؤولية الشريك الوحيد مسؤولية شخصية غير محدودة في شركة التضامن وهذا من شانه أن يزيد من ضمانات الدائنيين في الحصول على ديونهم أكثر من الشركة ذات المسؤولية المحدودة.
الخــاتمة
مما سبق يمكن القول بأن هناك ضرورة لتبني شركة الشخص الواحد كفكرة تبناها المشرع الأردني في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة وذلك لأغراض الإنفراد في الإدارة وتشجيع الإستثمار، الا أن هذه المبررات لا تجد لها مكاناً بخصوص الشركة المساهمة العامة التي يجب أن تبقى بعيده عن إمكانية أن يتملكها مساهم واحد. وفي كل الأحوال لا بد من إيجاد نصوص قانونية تعالج كافة المسائل المتعلقة بشركة الشخص الواحد ، وفي هذا السياق فإننا نقترح ما يلي:-
لا بد من إيجاد أسس وضوابط واضحة وصريحة تساعد مراقب الشركات في تنسيبه لوزير الصناعة والتجارة بالموافقة على تسجيل شركة شخص واحد في إطارالشركة المساهمة الخاصة وكذلك في حالة الشركة المساهمه العامه التي تؤول ملكيتها لمساهم واحد، مع التأكيد على تحفظنا السابق بخصوص عدم جواز إنشاء شركة شخص واحد في إطار الشركة المساهمة العامة. إذا اقتصرت المادتان (65/أ مكرر و90/ب) من قانون الشركات الأردني على ذكر “تنسب مبررً دون توضيح معيار وضابط هذا التنسب. وهذا التعديل سوف يساعد على التقليل من تحكم جهة الإدارة في الموافقة على تسجيل هذا النوع من الشركات، وهذا ما فعله قانون الشركات الأردني بخصوص الشركة ذات المسؤولية المحدودة (م53/ب).
تعديل نص المادة (28/د) بحيث تسمح بإستمرار شركة التضامن بشريك واحد إذا ما آلت إليه جميع حصص الشركاء الأخرين نتيجة الوفاة آو الانسحاب وعدم اعتبار الشركة منحلة حكماً إذا لم يتمكن الشريك الوحيد من إيجاد شريك أو شركاء آخرين خلال ثلاثة اشهر ، خاصة مع وجود المسؤولية الشخصية للشريك المتبقي عن خسائر وديون الشركة.
تعديل نص المادة ( 582) من القانون المدني الأردني والتي تعرف الشركة بأنها عقد وذلك بإضافة أن الشركة قد تنشأ بعقد او إرادة منفردة لكي يستوعب النص الجديد تأسيس شركة من شخص واحد، وفي حال تعديل المادة (582) من القانون المدني الأردني لا بد من تعديل المواد (53/ب، 65/مكرر و90/ب) من قانون الشركات.
لا بد من إضافة نصوص قانونية جديدة تعالج النقاط التي تخص شركة الشخص الواحد منها:-
الإشارة صراحة إلى إمكان الشخص الاعتباري تكوين شركة شخص واحد.
بيان مدى إمكانية الشخص الواحد تكوين اكثر من شركة شخص واحد.
وضع ضمانات إضافية لشركة الشخص الواحد كرفع الحد الأدنى لرأسمال هذه الشركة والتأكد من دفع رأس المال بالكامل عند تأسيس الشركة وعدم السماح بتقسيطه .
وضع جزاءات في حالة الخلط بين الذمة المالية الخاصة للشريك والذمة المالية لشركة الشخص الواحد.
هـ- وضع نصوص قانونية خاصة بتنظيم الرقابة المالية على أعمال شركة الشخص الواحد من خلال تعيين مدقق حسابات من قبل مراقب الشركات.
إلغاء المادة (36) من القانون المعدل لقانون الشركات رقم (40) لسنة 2002 والتي سمحت بموجبها تملك مساهم واحد لشركة مساهمة عامة وإبقاء الوضع على ما كان عليه قبل التعديل.
المراجع :
د.محمد بهجت عبد الله قايد، شركة الشخص الواحد محدود المسؤولية، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى 1990، ص 3 وما بعدها.
المادة 834 من القانون المدني الصادر في 5/11/1925.
المواد 637-646 من قانون الأفراد والشركات الصادر في 20/6/1926، إلا أن قانون الأفراد والشركات الصادر في 15/4/1980 قد ألغى المواد السابقة من قانون 1926.
أشارت لهذا القرار د. ناريمان عبد القادر، الأحكام العامة للشركة ذات المسؤولية المحدودة وشركة الشخص الواحد، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية 1992، ص 39.
د. ناريمان عبد القادر، المرجع السابق، ص 45.
المادة 8 من القانون البلجيكي لعام 1987.
وذلك بموجب تعليمات شركات الشخص الواحد محدود السؤولية لعام 1992 Companies (Single Member Private Limited Companies) Regulations)1992, SI 1992/1699.
(1897)A.C.22. ، ونظرا لأهمية هذه القضية في القضاء الإنجليزي ودورها الفاعل في التأسيس لمفهوم شركة الشخص الواحد فإنه يجدر بنا استعراض وقائع هذه القضية والتي تدور حول التاجر (Salomon) الذي كان يعمل في تجارة الأدباغ لفترة طويلة وأراد أن يكوّن شركة محدودة المسؤولية مؤلفة منه وزوجته وخمسة من أولاده وأن يقوم هو بأعباء الإدارة لوحده. قام التاجر (Salomon) برهن جميع أموال الشركة بهدف الحصول على قرض مما أثقل على الشركة وأدخلها في صعوبات مالية اضطر على أثرها الدائن المرتهن تعيين حارس قضائي مما أدى إلى دخول الشركة في حالة تصفية. وخلال التصفية كانت موجودات الشركة كافية لسداد الدين المضمون برهن إلا أنها غير كافية لسداد الديون العادية. قررت محكمة الاستئناف (Court of Appeal) أن التاجر (Salomon) مسؤول عن الخسائر التي لحقت بالشركة لكون الشركة كانت مجرد خدعة للتهرب من المسؤولية الشخصية. إلا أن مجلس اللوردات (House of Lords) نقض هذا القرار ووجد أن الشركة قائمة فعلا رغم أن التاجر (Salomon) هو الذي يملك نصيب الأسد في هذه الشركة، وهو مجرد وكيل عن باقي الشركاء، وفي هذا اعتراف من القضاء الإنجليزي بوجود شركة الشخص الواحد على الرغم من عدم وجود نص قانوني يقضي بوجودها.
منشور في الجريدة الرسمية، العدد 4204، بتاريخ 5/5/1997،ص 2038.
الشركة ذات المسؤولية المحدودة هي الشركة التي تتألف من شخصين أو أكثر ويسئل الشريك عن ديون الشركة وإلتزاماتها وخسائرها بمقدار حصته في رأسمالها (م 53 من قانون الشركات الأردني).
منشور في الجريدة الرسمية، العدد4506 ، بتاريخ16/7/2002، ص 3319.
منشور في الجريدة الرسمية، العدد 4533،بتاريخ 17/2/2002، ص 373.
الشركة المساهمة الخاصة هي شركة تتألف من شخصين أو أكثر ولا يكون المساهم مسؤولاً عن ديون الشركة وإلتزاماتها إلا بمقدار مساهمته في رأسمال الشركة، ويجوز لهذه الشركة إدارج وتبادل أوراقها المالية في السوق المالي، كما أن الحد الأدنى لرأسمال هذه الشركة خمسون ألف دينار أردني ( المادتان 65و66 مكرر) من قانون الشركات الأردني.
بينت المادة التاسعة من قانون التجارة الأردني رقم (12) لسنة 1966، والمنشور في الجريدة الرسمية، العدد 1910 بتاريخ 30/3/1966 على الصفحة 472، أن التجار على نوعين: تجار أفراد وهم الأشخاص الذين تكون مهنتهم القيام بأعمال تجارية، وتجار شركات وهي تلك التي يكون موضوعها تجارياً.
الحد الأدنى لعدد الشركاء في جميع الشركات التجارية في الأردن شريكين باستثناء شركة التوصية بالأسهم إذ أن عدد الشركاء فيها خمسة : شركاء متضامنون لا يقل عددهم عن اثنين وشركاء مساهمون لا يقل عددهم عن ثلاثة ( المادة 77من قانون الشركات الأردني ) كما أن هناك استثناء يتعلق بالشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شخص واحد (المادة 53/ب من قانون الشركات الأردني لعام 1997) والشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شخص واحد (المادة 65/أ مكرر من القانون المعدل لقانون الشركات لعام 2002).
للشركات التجارية أشكال مختلفة نص عليها قانون الشركات الأردني وهي شركة التضامن، شركة التوصية البسيطة، الشركة ذات المسؤولية المحدودة، شركة التوصية بالأسهم، الشركة المساهمة العامة والشركة المساهمة الخاصة. ويعتمد الشركاء في إتخاذهم لشكل دون آخر من أشكال الشركات التجارية على مجموعة من العوامل، كعامل صلة القربى أو الصداقة أو الثقة التي تجمع الشركاء، والمشاركة في الإدارة، والقدرة على تحمل خسائر الشركة بما يتجاوز مقدار المساهمة في رأسمالها، وعامل رأس مال الشركة بالإضافة إلى الإعتبارات القانونية الأخرى التي يفرضها المشرع كتطلب القيام بعمل تجاري معين في إطار شركة معينة كإشتراط إتخاذ شركات التأمين والبنوك والشركات المالية والشركات ذات الإمتياز شكل شركة مساهمة عامة (م93 من قانون الشركات الأردني).
د. مفلح عواد القضاة، الشركة ذات المسؤولية المحدودة وشركة الشخص الواحد، دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 1998، ص12.
المادة (54/أ) من قانون الشركات الأردني.
المادة (66/أ مكرر) من القانون المعدل رقم (4 ) لقانون الشركات لسنة 2002.
المواد (53/أ) والمادة (65/ب مكرر) والمادة (91) من قانون الشركات الأردني.
د. عبد المنعم البدراوي، المدخل للعلوم القانونية رقم 290، ص465، د. سليمان مرقس، المدخل للعلوم القانونية، رقم 320، ص586.
د. ناريمان عبد القادر، المرجع السابق ، ص 83 وما بعدها.
د. فيروز الريماوي ، المرجع السابق، ص363
د. سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني ، الجزء الاول، المدخل للعلوم القانونية، الطبعة السادسة 1987، ص 654 وما بعدها.
د. ناريمان عبد القادر, المرجع السابق, ص 80 وما بعدها.
د. فيروز الريماوي, المرجع السابق, ص 356.
د.عزيز العكيلي، شرح القانون التجاري ( الجزء الرابع ) في الشركات التجارية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى 1998، ص 1-2.
د.محسن شفيق، الوسيط في القانون التجاري المصري، الجزء الأول، مكتبة النهضة العصرية، الطبعة الثانية 1955، ص 296.
الحد الأدنى لعدد الشركاء في جميع الشركات التجارية في الأردن شريكين باستثناء شركة التوصية بالأسهم إذ أن عدد الشركاء فيها خمسة : شركاء متضامنون لا يقل عددهم عن اثنين وشركاء مساهمون لا يقل عددهم عن ثلاثة ( المادة 77 من قانون الشركات الأردني) . كما هناك استثناء يتعلق بالشركة ذات المسؤولية المحدودة المؤلفة من شخص واحد (المادة 53/ب من قانون الشركات الأردني لعام 1997) والشركة المساهمة الخاصة المؤلفة من شخص واحد (المادة 65/أ مكرر من القانون المعدل لقانون الشركات لعام 2002).
هذا باستثناء شركة التضامن والشريك المتضامن في شركة التوصية البسيطة حيث يسأل الشريك مسؤولية شخصية وتضامنية عن ديون الشركة . انظر د . سميحة القليوبي ، الشركات التجارية ، الجزء الأول ، دار النهضة العربية – الطبعة الثالثة 1992، ص 3. أنظر أيضاً :-
Francis Rose, Company Law, Sweet and Maxwell, London, 1989, P1. John Farrar, Company Law, Butter worth’s, London, 1988, P.P. 6-7. Gower, Principles of Modern Company Law, (London, 1992), Sweet and Maxwell, P. 88.
لقد أثبتت الدراسات الاقتصادية أنه كلما كان هناك فصل كبير بين ملكية أسهم الشركة وإدارتها وهو فصل تقتضيه الضرورات العملية في الشركات المساهمة العامة بحكم تصديها للقيام بالمشاريع الاقتصادية الكبيرة و المعقدة والتي تقضي وجود خبراء ومختصين، فإن مثل هذا الفصل يؤدي إلى احتمالية تصرف المدراء بشكل يفضلون فيه مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة الشركة. أنظر بهذا الخصوص الدراسة التي أجراها كل من:
(Jensen and Mackling): Jensen and Mackling, Theory of the Firm: Managerial Behavior, Agency Costs, [1976]3 Journal of Financial Economics, 306.
د. فيروز الريماوي، المرجع السابق / ص 19
قرار غرفة العرائض الصادر في 10 نيسان 1867 5.1867.1.277، وقرار الغرفة المدنية الصادر في 7 شباط 1881 D.P.1881. 1.267 نقلاً عن د. فيروز الريماوي ، المرجع السابق ، ص 19.
Cllaude champauel سنة 1978 وAlain Sayay
د. ناريمان عبد القادر، المرجع السابق، ص 42 وما بعدها.
تنص المادة (2/3/أ )من القانون الإنجليزي على ما يلي:
A company may have a sole member when it is formed and also when all its Shares come to be held by a single person (single-member company).
أنظر بخصوص هذه الشركة:
A.D.M. Forte ”single member private limited companies Harmonisation and rationalisation, S.L.T.1992, 377.
د.محمد بهجت قايد، المرجع السابق،ص 90.
د.محمد بهجت قايد، المرجع السابق، ص 20.
تعني الخصخصة أو التخاصية تحويل المشروعات العامة إلى مشروعات خاصة سواء من خلال تحويل الملكية أو الإدارة وبالتالي تقليص دور القطاع العام في النشاط الاقتصادي كليا أو جزئيا . هذا وقد صدر قانون التخاصية الأردني رقم ( 25) لسنة 2000 ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 2/7/2000 في العدد 4443 ، ومن الأمثلة على التخاصية في الأردن تحويل سلطة الكهرباء الأردنية إلى شركة مساهمة عامة مملوكة بالكامل للدولة بموجب قرار مجلس الوزراء بتاريخ 4/9/1994، أنظر بهذا الخصوص د.فيروزالريماوي، شركة الشخص الواحد، دراسة مقارنة، دار البشير، عمان،الطبعة الأولى،1997 ،ص 268، وانظر بخصوص تعريف التخاصية ايهاب الدسوقي، التخصصية والإصلاح الاقتصادي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص 15.
المادة (28/د) من قانون الشركات الأردني.
أنظر د.فيروز الريماوي، المرجع السابق، ص 370 وما بعدها.
المادتان (55 و 65/ج مكرر) وتقابلهما المادة (4) من القانون الألماني والمادة (34/3) من القانون الفرنسي والمادة (25) من قانون الشركات البريطاني.
د. مفلح عواد القضاة، المرجع السابق، ص 22.
المادة (41/ب) من قانون الشركات الأردني.
المادة (53/أ) من قانون الشركات الأردني.
المادة (91) من قانون الشركات الأردني.
المادة (77/ب) من قانون الشركات الأردني.
المادة (65/أ مكرر) من قانون الشركات الأردني.
المادة (119/أ) من القانون المدني الأردني.
د.فايز نعيم رضوان، المشروعات الفردية ذات المسؤولية المحدودة، مكتبة الجلاء، 1990، ص 37.
د. سميحة القليوبي، المرجع السابق، ص 34، و د. محمد بهجت عبد الله قايد، المرجع السابق، ص2.
د.محمد بهجت قايد،المرجع السابق،ص 109.
د. نار يمان عبد القادر، الأحكام العامة للشركة ذات المسؤولية المحدودة وشركة الرجل الواحد، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1992، ص16، وما بعدها.
أكدت محكمة التمييز الأردنية النظرية العقدية للشركة بعدة قرارات صادرة عنها،فاعتبرت أن نية المشاركة غير موجودة في حالة عدم وجود عقد بين الشركاء (تمييز حقوق رقم 253/61، مجلة نقابة المحامين، لسنة (9) ص 674، وتمييز حقوق رقم 130/65، مجلة نقابة المحامين، السنة (13)، ص (601)، كما اعتبرت أن عدم وجود إرادة أكثر من شريك هو إخلال جوهري بعقد الشركة ويوجب فسخها (تميز حقوق رقم / 35/64، مجلة نقابة المحامين، السنة (14)، ص 488.
لقد ضعف المفهوم العقدي للشركة وخاصة في شركات المساهمة العامة إذ تكون من مساهمين لا يعرفون بعضهم البعض مما أدى إلى ازدياد تدخل المشرع بنصوص قانونية آمرة لتنظيم أحكام الشركة مما يقتصر دور الشركاء على الانضمام إلى هذه الشركة والالتزام بالقواعد القانونية الآمرة التي يفرضها المشرع مما يعني تراجعا واضحا في المفهوم العقدي للشركة وأنها لا تؤسس إلا بعقد. ولا يقتصر الأمر على الشركات المساهمة بل يشمل كذلك الشركة ذات المسؤولية المحدودة التي أصبحت تؤلف من أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض لأغراض استكمال ركن تعدد الشركاء دون توافر نية التعاقد الحقيقية. أنظر بهذا الخصوص: د. محمد بهجت قايد، المرجع السابق، ص 11 وما بعدها.
أحالت المادة (15) من قانون التجارة الأردني بخصوص الأهلية التجارية إلى أحكام الأهلية المنظمة في القانون المدني الأردني وذلك منعاً لتكرار الأحكام المنظمة لقواعد الأهلية. وبإستثناء الشريك المتضامن سواء في شركة التضامن أو شركة التوصية البسيطة فإنه يمكن للصغير المميز (ناقص الأهلية) أن يكون شريكاً أو مساهماً في الأنواع الأخرى من الشركات. وعليه يمكن لناقص الأهلية أن يؤسس شركة ذات مسؤولية محدودة مكونة منه شخصياً ما دام مأذوناً بمزاولة التجارة وإدارة أمواله وذلك لأن مسؤولية الشريك تكون محدودة بمقدار مساهمته في رأسمال الشركة وكونه لا يكتسب صفة التاجر لمجرد كونه شريكاً في هذه الشركة. أما إن كان الشريك مأذوناً بمزاولة التجارة ولكنه غير مأذون بإدارة أمواله عندها يجب على وليه أو وصية تعيين مدير لمباشرة أعمال إدارته سواء أكان أحدهما أو غيرهما.
فلا يجوز لشركة الشخص الواحد ممارسة نشاط ممنوع قانوناً، كما يحصر على الشركة النشاطات المتعلقة بالتأمين والبنوك والشركات المالية التي إشترط المشرع لمباشرتها أن تتم في شكل شركة مساهمة عامة (م93 شركات أردني).
لم يمنع كل من القانون الفرنسي والقانون الألماني من أن يكون الشريك شخصا معنويا في شركة الشخص الواحد، هذا على خلاف المادة (12) من القانون البلجيكي لعام 1987 التي لم تسمح للشخص المعنوي تكوين شركة الشخص الواحد.
المادة الثالثة من قانون الشركات الفرنسي لعام 1985.
المادة 8 من القانون الفرنسي لعام 1985.
المادة (58 و 70 مكرر) من قانون الشركات الأردني.
د. ناريمان عبد القادر ، المرجع السابق ، ص 154 .
وتبدأ اجراءات تسجيل شركة الشخص الواحد بتقديم طلب التأسيس الى مراقب الشركات على ان يرفق به عقد لتأسيس الشركة ونظامها الأساسي وذلك على النماذج المعتمدة لهذه الغاية. ويجب توقيع هذه النماذج امام المراقب او من يفوضه خطياً بذلك او امام الكاتب العدل او احد المحامين المجازين ( م 57/أ)، ويضاف اسماء مؤسسي الشركة الى كل من عقد التأسيس والنظام الأساسي للشركة في حالة الشركة المساهمة الخاصة (م/67/أ). ويجب على مراقب الشركات اصدار قراره بالموافقة على تسجيل الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تقديم الطلب والتوقيع عليه من قبل الشريك الوحيد، الا ان له حق رفض الطلب اذا وجد ان عقد الشركة او نظامها الأساسي يشتمل على ما يخالف احكام قانون الشركات والأنظمة الصادرة بموجبه او أي تشريع آخر نافذ ولم يقم الشريك بإزالة المخالفة خلال المدة التي يحددها المراقب . وللشريك الوحيد حق الاعتراض على قرار المراقب بالرفض امام وزير الصناعة والتجارة خلال ثلاثين يوماً من تبلغه لهذا القرار. واذا ما قرر الوزير رفض الاعتراض المقدم من الشريك يملك الأخير الطعن بهذا القرار امام محكمة العدل العليا خلال ثلاثين يوماً من تاريخ تبلغه لهذا القرار (59/أ و 69/أ مكرر). وبعد تحقق الموافقة على تسجيل الشركة سواء من مراقب الشركات مباشرة او بقرار من وزير الصناعة والتجارة او من قبل محكمة العدل العليا يجب على الشريك الوحيد ان يقدم ما يثبت انه قد دفع ما لا يقل عن (50%) من رأسمال الشركة البالغ ثلاثون الف دينار اردني في حالة الشركة ذات المسؤولية المحدودة ودفع ما لا يقل عن خمسين الف دينار في حالة الشركة المساهمة الخاصة. وبعد التأكد من ذلك يقوم المراقب باستيفاء رسوم تسجيل الشركة ويصدر شهادة بتسجيلها في الجريدة الرسمية ( م59/ب) و (69/أ مكرر) ولا تمر الشركة المساهمة العامة التي تؤول ملكيتها لمساهم واحد بنفس الإجراءات التي تمر بها كل من الشركة ذات المسؤولية المحدودة والشركة المساهمة الخاصة لأن الشركة قائمة أصلاً ولكن آلت ملكية الأسهم إلى مساهم واحد عن طريق الشراء .
المادة 844/7 من القانون المدني الفرنسي لسنة 1985 والمادة (62) م قانون الشركات الألماني لسنة 1985.
المادة 1844/7/2 من القانون المدني الفرنسي لسنة 1985 والمادة (62) م قانون الشركات الألماني لسنة 1985.
بموجب المادة (61) من القانون الألماني تنحل الشركة اذا قلت موجودات الشركة لدرجة تصبح غير كافية لسداد نفقات اعلان الافلاس والتصفية، وفي نفس النص المادة (1844/7/5) من القانون الفرنسي.
المادة (60) من القانون الألماني والمادة (1844/7/5) من القانون الفرنسي والمادة (122/ق) من قانون الانجليزي لسنة 1986.
المادة (60/2) م القانون الألماني والمادة (1844/4) من القانون الفرنسي والمادة (122/ي) من قانون الابحاث الانجليزي.
المادة (1844) من القانون المدني الفرنسي لسنة 1985.
المادة (1844) من القانون المدني الفرنسي لسنة 1966.
المادة (36/2) من القانون التجاري الفرنسي لسنة 1985.
منحت المادة (37) من القانون الألماني مدير شركة الشخص الواحد السلطات الكاملة لتمثيلها في العقود المبرمة بينهما وبين الغير إلا إذا كان نظامها الأساسي يضع قيودا تحد من هذه السلطات , كما منحت المادة (49/4 ) من قانون 1966 الفرنسي مدير شركة الشخص الواحد السلطة الكاملة في النيابة عن الشركة وتمثيلها ما لم يقضِ النظام التأسيسي بخلاف ذلك.
د. فيروز الريماوي , المرجع السابق , ص 406 وما بعدها .
د.محمد بهجت قايد، المرجع السابق، ص 37.
د. ناريمان عبد القادر، المرجع السابق ، ص115.
د. ناريمان عبد القادر، المرجع السابق ، ص122 وما بعدها.
د. فايز نعيم رضوان ، المرجع السابق، ص 58 – 60.
د. فايز نعيم رضوان ، المرجع السابق ، ص 61، ود. محمد بهجت قايد، المرجع السابق، ص 105.
د.محمد بهجت قايد، المرجع السابق، ص 181.
د.محمد بهجت قايد، المرجع السابق، ص 153.
1 person likes this.
الإعتداء على العلامة التجارية وفقا للقانون التجاري الأردني في بحث قانوني .
المقدمة
إن الاهتمام بالعلامة التجارية يعود إلى عصر الرومان حيث استخدمت العلامة للحيلولة دون سرقة المنتجات، ثم استخدمت بشكل إلزامي في القرون الوسطى في ظل نظام الطوائف لتمييز كل طائفة عن الأخرى. وقد كانت هناك علامات أخرى خاصة بكل من الصناع داخل الطائفة الواحدة حتى يسهل معرفة صانعها ومدى جودتها بحيث كانت تحطم أو تصادر كل سلعة ليس عليها علامة ضماناً لحماية المستهلكين. وقد صدر أول قانون خاص بالعلامات التجارية في فرنسا عام (1857) وفي بريطانيا عام (1879) وفي الولايات المتحدة الأمريكية عام (1946)(1).
وتحتل العلامة التجارية مكانة هامة ومميزة بين حقوق الملكية الصناعية والتجارية الأخرى بحيث أصبح لها قيمة إضافية(2) تضاف لقيمة المحل التجاري (أو المتجر كما يسميه قانون التجارة الأردني)(3). ولعل السبب في ذلك يعود الى انتشار العلامة التجارية واتصالها الوثيق بالتجارة والاقتصاد أكثر من باقي حقوق الملكية الصناعية والتجارية الأخرى، ذلك أن ازدياد المنافسة بين التجار وقيام المستهلك بالشراء بالاعتماد على نوعية المنتج أو الخدمة دفع التجار الى استخدام علامات تميز منتجاتهم وخدماتهم عن غيرها من المنتجات والخدمات المشابهة.
وتحقق العلامة التجارية مصالح كل من المنتجين والموزعين والتجار بالإضافة إلى مصالح المستهلكين والاقتصاد الوطني، إذ تلعب العلامة التجارية دوراً أساسياً في جذب المستهلكين أو العملاء إلى السلع والخدمات التي تحمل تلك العلامة. فالوظيفة الأساسية
(Primary Function) للعلامة التجارية هي تحديد منشأ المنتج، إذ تضمن العلامة التجارية نوعية البضاعة أو الخدمة ليكون المستهلك مطمئناً لما يشتريه(4). فالعلامة التجارية تساعد المستهلكين على معرفة البضاعة أو الخدمة التي يرغبون بها وتسهل للعميل معرفة المنتجات بمجرد النظر إلى علامتها التي تحدث في نفسه مقدار جودتها ومدى ملاءمتها وإشباعها لحاجاته ورغباته حسب ما تعود عليها إذا كان قد سبق له شراءها أو تعامل معها أو قرأ عن مواصفاتها أو مميزاتها بإحدى النشرات أو الإعلانات, ولذلك فإن تضليل المستهلك (Consumer Confusion) هي الهدف من توفير الحماية القانونية للعلامات التجارية(5).
كما تميز العلامة التجارية بين السلع والخدمات المماثلة المعروضة في السوق مما يساعد المنتج على الاحتفاظ بعملائه وجذب عملاء آخرين، وهذا من شأنه أن يشجع على المنافسة المشروعة بين التجار مما ينعكس بدوره على نوعية الإنتاج وخفض الأسعار. إذ أن حرية المنافسة في التجارة سواء تعلقت بتسويق بضائع
(Goods) أو خدمات (Services) من شأنها أن تساعد على خلق حوافز لتقديم منتجات عالية الجودة (Quality Products) وأسعار معقولة (Reasonable Prices)(6). وهذا من شأنه أن يشجع التاجر على الاستمرار في إنتاج البضاعة أو الخدمة التي وصلت إلى رضى المستهلك من خلال إقباله على التعامل معها وبذات الجودة أو جودة أعلى(7) .
وعلى صعيد التجار فقد فطن التجار إلى أهمية العلامات التجارية منذ زمن غير قريب لأهميتها في جذب الزبائن وتسويق المنتجات وتحقيق الأرباح، ولذلك فإن استعمالهم للعلامات التجارية يؤدي إلى ترويج السلع والخدمات داخل البلد وفي الخارج مما يكسب التاجر الشهرة المرتبطة بالعلامة التجارية. وكلما اتسع نطاق تلك الشهرة كلما ازدادت قيمة العلامة التجارية مما يزيد الطلب على تلك السلع والخدمات التي تحمل تلك العلامة التجارية وبالتالي زيادة القدرة على منافسة السلع والخدمات المشابهة مما يؤثر إيجابياً على الاقتصاد الوطني من خلال زيادة الأنشطة التجارية في السوق المحلي والخارجي، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة الإنتاج والعمالة وزيادة الإيرادات الضريبية للدولة وتحسين المستوى المعيشي للسكان.
واستخدام العلامات التجارية يساعد الدولة كذلك على تحديد السلع والخدمات التي تفي بالمعايير المطلوبة للجودة وتلك التي لا تفي بالمعايير المطلوبة بالإضافة إلى استخدامها كمصدر للمعلومات الإحصائية والاقتصادية(. ولذلك فإن الاعتداء على العلامة التجارية بتقليدها وتزييفها هو جرم يستوجب اقامة دعوى مدنية ودعوى جزائية ذلك أن هذا الاعتداء يضر بكل من المنتج والمستهلك والدولة، فهو يسيء للمنتج من خلال خسارته في تسويق منتجاته، كما أنه يسيء للمستهلك لأن التقليد غير القانوني للبضائع والخدمات سوف يقلل من جودة المنتج أو الخدمة الأصلية. وفي بعض الصناعات كالصناعات الدوائية فإن التقليد غير القانوني قد يؤثر سلبياً على الصحة العامة للمرضى، هذا بالاضافة الى أن التقليد والتزييف للعلامات التجارية سوف يضعف من فرص الاستثمار وخاصة الأجنبية في الدولة(9).
ونظراً لدور العلامة التجارية في تسويق المنتجات والخدمات المحلية والدولية، ونظراً لأهمية العلامة التجارية في الحياة التجارية فقد ظهرت صور متعددة للتعدي منها القرصنة على العلامة التجارية كأن يقوم تاجر باستخدام علامة تجارية مطابقة أو علامة مشابهة تخص الغير بوضعها على منتجاته أو خدماته دون إذن من مالكها، أو استخدام هذه العلامة التجارية لأغراض الإعلان عن منتجاته أو خدماته أو الإدعاء الباطل بتسجيل علامة تجارية. هذا على المستوى المحلي، أما على المستوى الدولي فقد تستخدم بعض العلامات التجارية المشهورة من قبل غير أصحابها كوسيلة لتسويق منتجاتهم أو خدماتهم عبر وسائل الاتصال الحديثة وخاصة برامج الإنترنت (
Internet)، الأمر الذي استدعى توفير الحماية القانونية الملائمة مدنياً وجزائياً محلياً ودولياً(10) جراء التعدي على العلامة التجارية.
ان اجراء تعديلات جوهرية على تشريعات الملكية الفكرية ومنها العلامات التجارية كان الغرض منه الانسجام مع أحكام اتفاقية تريبس (TRIPS)(11) الخاصة بحقوق الملكية الفكرية والتي انبثقت عن إنشاء منظمة التجارة العالمية (W.T.O) والتي كان على المشرع الأردني أن يعدل تشريعاته بما ينسجم مع أحكام الاتفاقيات الدولية. وفي هذا السياق صدر القانون المعدل لقانون العلامات التجارية رقم (34) لسنة (1999)(12) الذي أجرى تعديلات جوهرية على قانون العلامات التجارية رقم (33) لسنة (1952)(13)، وقانون علامات البضائع رقم (19) لسنة (1953)(14).
ومن أهم التعديلات التي جاء بها القانون المعدل: حماية علامات الخدمة (Service Marks) (15) والعلامات الجماعية (Collective Marks) (16) والعلامات المشهورة (Well-Known Marks)(17)،بالإضافة إلى علامات السلع والبضائع. كما أجاز القانون المعدل التصرف بالعلامة التجارية بمعزل عن المحل التجاري(18)، وأجاز شطب العلامة التجارية بمرور ثلاث سنوات على عدم الاستعمال(19)، كما نص صراحة على جواز الترخيص باستعمال علامة تجارية من قبل شخص آخر غير مالكها (20). كما نظم القانون المعدل من جديد الحماية المدنية والحماية الجزائية جراء التعدي على العلامة التجارية، إذ أن العلامة التجارية المسجلة محمية مدنياً وجزائياً، فإذا ما اعتدى شخص على علامة تجارية مسجلة في المملكة يستطيع مالكها مطالبة المعتدي بالتعويض الناشئ عن التعدي (م34)، كما من حقه الطلب من المحكمة منعه من الاستمرار في التعدي (م36). ويستطيع مالك العلامة التجارية إقامة دعوى جزائية بموجب المواد (38 و 39) من قانون العلامات التجارية والمواد (3 و 11) من قانون علامات البضائع. والحماية الجزائية للعلامة التجارية مرتبطة بتسجيل تلك العلامة المعتدى عليها في سجل العلامات التجارية في وزارة الصناعة والتجارة، وعليه فإن العلامة التجارية غير المسجلة لا تتمتع بأية حماية جزائية(21).
والحماية المدنية للعلامة التجارية لا تقتصر على طلب التعويض بل تشمل كذلك وقف التعدي والمحافظة على الأدلة ذات الصلة بالتعدي والحجز التحفظي على البضائع التي ارتكب التعدي بشأنها والاعتراض على تسجيل علامة تجارية(22) وشطب (ترقين) علامة تجارية مسجلة بسبب عدم الاستعمال(23). إلا أن الحق في طلب التعويض، الذي عادةً ما يقترن بطلب وقف التعدي، يعتبر أهم حق من حقوق مالك العلامة التجارية في حالة تعرض علامته التجارية للاعتداء من قبل شخص آخر. وهذا الحق مقرر بموجب المبادئ العامة في المسؤولية المدنية إذ منحت المادة (256) من القانون المدني الأردني كل متضرر الحق في المطالبة بالتعويض جراء تعرضه لفعل ضار، وبالتالي فإن هذا الحق مرتبط بواقعة التعدي على العلامة التجارية وحدوث الضرر في جانب مالك العلامة التجارية سواء أكانت العلامة التجارية مسجلة أم غير مسجلة.
إلا أن المادة (34) من قانون العلامات التجارية لسنة (1952) قد اشترطت تسجيل العلامة التجارية في المملكة لاستحقاقها التعويض في حالة التعدي عليها. وقد بقي هذا القيد (التسجيل) مطلوباً رغم صدور القانون المعدل لقانون العلامات التجارية لسنة (1999) الذي صدر لينسجم مع أحكام اتفاقية تريبس. ومثل هذا الإصرار على تطلب تسجيل العلامة التجارية في المملكة لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها يدفعنا للبحث في الحكمة أو العلة من تطلب هذا الشرط خاصة وأن اتفاقية تريبس المنظمة لحقوق الملكية الفكرية، والتي يفترض أن يكون القانون المعدل لقانون العلامات التجارية قد جاء متطابقاً معها، لم تشترط تسجيل العلامة التجارية كمتطلب سابق لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها.
كما أننا نجد بأن قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية الأردني رقم (15) لسنة (2000)(24) قد اعتبر من قبيل أعمال المنافسة غير المشروعة تلك المتعلقة بعلامة تجارية مستعملة في الأردن سواء أكانت مسجلة أو غير مسجلة في المملكة ما دامت تؤدي إلى تضليل الجمهور. وبالتالي فإن الاعتداء على علامة تجارية مسجلة أم غير مسجلة في المملكة يعطي الحق لصاحب هذه العلامة المطالبة بالتعويض استناداً لدعوى المنافسة غير المشروعة (25). وعليه فإن القيد الذي وضعه قانون العلامات التجارية لحق المطالبة بالتعويض وهو التسجيل قد تجاوزه قانون المنافسة غير المشروعة وأصبح بالإمكان المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية ولو كانت غير مسجلة في المملكة.
ولذلك فإن هذا البحث يهدف إلى الوقوف على مدى امكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية سواء أكانت العلامة مسجلة في المملكة أو غير مسجلة من خلال بيان الأساس القانوني لحق المطالبة بالتعويض وبيان مدى اللجؤ لدعوى المنافسة غير المشروعة كوسيلة لحماية العلامة التجارية المسجلة وغير المسجلة وإبراز العلاقة ما بين هذه الدعوى المدنية والدعوى الجزائية لحماية العلامة التجارية المسجلة، ولذلك فإننا سنقسم هذه الدراسة إلى مبحثين نتناول في المبحث الأول الأساس القانوني لحق المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية فيما نتناول في المبحث الثاني دعوى المنافسة غير المشروعة كدعوى مدنية للمطالبة بالتعويض من حيث شروطها وعناصرها وعلاقتها بالدعوى الجزائية لحماية العلامة التجارية المسجلة.
وتحتل العلامة التجارية مكانة هامة ومميزة بين حقوق الملكية الصناعية والتجارية الأخرى بحيث أصبح لها قيمة إضافية(2) تضاف لقيمة المحل التجاري (أو المتجر كما يسميه قانون التجارة الأردني)(3). ولعل السبب في ذلك يعود الى انتشار العلامة التجارية واتصالها الوثيق بالتجارة والاقتصاد أكثر من باقي حقوق الملكية الصناعية والتجارية الأخرى، ذلك أن ازدياد المنافسة بين التجار وقيام المستهلك بالشراء بالاعتماد على نوعية المنتج أو الخدمة دفع التجار الى استخدام علامات تميز منتجاتهم وخدماتهم عن غيرها من المنتجات والخدمات المشابهة.
وتحقق العلامة التجارية مصالح كل من المنتجين والموزعين والتجار بالإضافة إلى مصالح المستهلكين والاقتصاد الوطني، إذ تلعب العلامة التجارية دوراً أساسياً في جذب المستهلكين أو العملاء إلى السلع والخدمات التي تحمل تلك العلامة. فالوظيفة الأساسية
(Primary Function) للعلامة التجارية هي تحديد منشأ المنتج، إذ تضمن العلامة التجارية نوعية البضاعة أو الخدمة ليكون المستهلك مطمئناً لما يشتريه(4). فالعلامة التجارية تساعد المستهلكين على معرفة البضاعة أو الخدمة التي يرغبون بها وتسهل للعميل معرفة المنتجات بمجرد النظر إلى علامتها التي تحدث في نفسه مقدار جودتها ومدى ملاءمتها وإشباعها لحاجاته ورغباته حسب ما تعود عليها إذا كان قد سبق له شراءها أو تعامل معها أو قرأ عن مواصفاتها أو مميزاتها بإحدى النشرات أو الإعلانات, ولذلك فإن تضليل المستهلك (Consumer Confusion) هي الهدف من توفير الحماية القانونية للعلامات التجارية(5).
كما تميز العلامة التجارية بين السلع والخدمات المماثلة المعروضة في السوق مما يساعد المنتج على الاحتفاظ بعملائه وجذب عملاء آخرين، وهذا من شأنه أن يشجع على المنافسة المشروعة بين التجار مما ينعكس بدوره على نوعية الإنتاج وخفض الأسعار. إذ أن حرية المنافسة في التجارة سواء تعلقت بتسويق بضائع
(Goods) أو خدمات (Services) من شأنها أن تساعد على خلق حوافز لتقديم منتجات عالية الجودة (Quality Products) وأسعار معقولة (Reasonable Prices)(6). وهذا من شأنه أن يشجع التاجر على الاستمرار في إنتاج البضاعة أو الخدمة التي وصلت إلى رضى المستهلك من خلال إقباله على التعامل معها وبذات الجودة أو جودة أعلى(7) .
وعلى صعيد التجار فقد فطن التجار إلى أهمية العلامات التجارية منذ زمن غير قريب لأهميتها في جذب الزبائن وتسويق المنتجات وتحقيق الأرباح، ولذلك فإن استعمالهم للعلامات التجارية يؤدي إلى ترويج السلع والخدمات داخل البلد وفي الخارج مما يكسب التاجر الشهرة المرتبطة بالعلامة التجارية. وكلما اتسع نطاق تلك الشهرة كلما ازدادت قيمة العلامة التجارية مما يزيد الطلب على تلك السلع والخدمات التي تحمل تلك العلامة التجارية وبالتالي زيادة القدرة على منافسة السلع والخدمات المشابهة مما يؤثر إيجابياً على الاقتصاد الوطني من خلال زيادة الأنشطة التجارية في السوق المحلي والخارجي، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة الإنتاج والعمالة وزيادة الإيرادات الضريبية للدولة وتحسين المستوى المعيشي للسكان.
واستخدام العلامات التجارية يساعد الدولة كذلك على تحديد السلع والخدمات التي تفي بالمعايير المطلوبة للجودة وتلك التي لا تفي بالمعايير المطلوبة بالإضافة إلى استخدامها كمصدر للمعلومات الإحصائية والاقتصادية(. ولذلك فإن الاعتداء على العلامة التجارية بتقليدها وتزييفها هو جرم يستوجب اقامة دعوى مدنية ودعوى جزائية ذلك أن هذا الاعتداء يضر بكل من المنتج والمستهلك والدولة، فهو يسيء للمنتج من خلال خسارته في تسويق منتجاته، كما أنه يسيء للمستهلك لأن التقليد غير القانوني للبضائع والخدمات سوف يقلل من جودة المنتج أو الخدمة الأصلية. وفي بعض الصناعات كالصناعات الدوائية فإن التقليد غير القانوني قد يؤثر سلبياً على الصحة العامة للمرضى، هذا بالاضافة الى أن التقليد والتزييف للعلامات التجارية سوف يضعف من فرص الاستثمار وخاصة الأجنبية في الدولة(9).
ونظراً لدور العلامة التجارية في تسويق المنتجات والخدمات المحلية والدولية، ونظراً لأهمية العلامة التجارية في الحياة التجارية فقد ظهرت صور متعددة للتعدي منها القرصنة على العلامة التجارية كأن يقوم تاجر باستخدام علامة تجارية مطابقة أو علامة مشابهة تخص الغير بوضعها على منتجاته أو خدماته دون إذن من مالكها، أو استخدام هذه العلامة التجارية لأغراض الإعلان عن منتجاته أو خدماته أو الإدعاء الباطل بتسجيل علامة تجارية. هذا على المستوى المحلي، أما على المستوى الدولي فقد تستخدم بعض العلامات التجارية المشهورة من قبل غير أصحابها كوسيلة لتسويق منتجاتهم أو خدماتهم عبر وسائل الاتصال الحديثة وخاصة برامج الإنترنت (
Internet)، الأمر الذي استدعى توفير الحماية القانونية الملائمة مدنياً وجزائياً محلياً ودولياً(10) جراء التعدي على العلامة التجارية.
ان اجراء تعديلات جوهرية على تشريعات الملكية الفكرية ومنها العلامات التجارية كان الغرض منه الانسجام مع أحكام اتفاقية تريبس (TRIPS)(11) الخاصة بحقوق الملكية الفكرية والتي انبثقت عن إنشاء منظمة التجارة العالمية (W.T.O) والتي كان على المشرع الأردني أن يعدل تشريعاته بما ينسجم مع أحكام الاتفاقيات الدولية. وفي هذا السياق صدر القانون المعدل لقانون العلامات التجارية رقم (34) لسنة (1999)(12) الذي أجرى تعديلات جوهرية على قانون العلامات التجارية رقم (33) لسنة (1952)(13)، وقانون علامات البضائع رقم (19) لسنة (1953)(14).
ومن أهم التعديلات التي جاء بها القانون المعدل: حماية علامات الخدمة (Service Marks) (15) والعلامات الجماعية (Collective Marks) (16) والعلامات المشهورة (Well-Known Marks)(17)،بالإضافة إلى علامات السلع والبضائع. كما أجاز القانون المعدل التصرف بالعلامة التجارية بمعزل عن المحل التجاري(18)، وأجاز شطب العلامة التجارية بمرور ثلاث سنوات على عدم الاستعمال(19)، كما نص صراحة على جواز الترخيص باستعمال علامة تجارية من قبل شخص آخر غير مالكها (20). كما نظم القانون المعدل من جديد الحماية المدنية والحماية الجزائية جراء التعدي على العلامة التجارية، إذ أن العلامة التجارية المسجلة محمية مدنياً وجزائياً، فإذا ما اعتدى شخص على علامة تجارية مسجلة في المملكة يستطيع مالكها مطالبة المعتدي بالتعويض الناشئ عن التعدي (م34)، كما من حقه الطلب من المحكمة منعه من الاستمرار في التعدي (م36). ويستطيع مالك العلامة التجارية إقامة دعوى جزائية بموجب المواد (38 و 39) من قانون العلامات التجارية والمواد (3 و 11) من قانون علامات البضائع. والحماية الجزائية للعلامة التجارية مرتبطة بتسجيل تلك العلامة المعتدى عليها في سجل العلامات التجارية في وزارة الصناعة والتجارة، وعليه فإن العلامة التجارية غير المسجلة لا تتمتع بأية حماية جزائية(21).
والحماية المدنية للعلامة التجارية لا تقتصر على طلب التعويض بل تشمل كذلك وقف التعدي والمحافظة على الأدلة ذات الصلة بالتعدي والحجز التحفظي على البضائع التي ارتكب التعدي بشأنها والاعتراض على تسجيل علامة تجارية(22) وشطب (ترقين) علامة تجارية مسجلة بسبب عدم الاستعمال(23). إلا أن الحق في طلب التعويض، الذي عادةً ما يقترن بطلب وقف التعدي، يعتبر أهم حق من حقوق مالك العلامة التجارية في حالة تعرض علامته التجارية للاعتداء من قبل شخص آخر. وهذا الحق مقرر بموجب المبادئ العامة في المسؤولية المدنية إذ منحت المادة (256) من القانون المدني الأردني كل متضرر الحق في المطالبة بالتعويض جراء تعرضه لفعل ضار، وبالتالي فإن هذا الحق مرتبط بواقعة التعدي على العلامة التجارية وحدوث الضرر في جانب مالك العلامة التجارية سواء أكانت العلامة التجارية مسجلة أم غير مسجلة.
إلا أن المادة (34) من قانون العلامات التجارية لسنة (1952) قد اشترطت تسجيل العلامة التجارية في المملكة لاستحقاقها التعويض في حالة التعدي عليها. وقد بقي هذا القيد (التسجيل) مطلوباً رغم صدور القانون المعدل لقانون العلامات التجارية لسنة (1999) الذي صدر لينسجم مع أحكام اتفاقية تريبس. ومثل هذا الإصرار على تطلب تسجيل العلامة التجارية في المملكة لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها يدفعنا للبحث في الحكمة أو العلة من تطلب هذا الشرط خاصة وأن اتفاقية تريبس المنظمة لحقوق الملكية الفكرية، والتي يفترض أن يكون القانون المعدل لقانون العلامات التجارية قد جاء متطابقاً معها، لم تشترط تسجيل العلامة التجارية كمتطلب سابق لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها.
كما أننا نجد بأن قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية الأردني رقم (15) لسنة (2000)(24) قد اعتبر من قبيل أعمال المنافسة غير المشروعة تلك المتعلقة بعلامة تجارية مستعملة في الأردن سواء أكانت مسجلة أو غير مسجلة في المملكة ما دامت تؤدي إلى تضليل الجمهور. وبالتالي فإن الاعتداء على علامة تجارية مسجلة أم غير مسجلة في المملكة يعطي الحق لصاحب هذه العلامة المطالبة بالتعويض استناداً لدعوى المنافسة غير المشروعة (25). وعليه فإن القيد الذي وضعه قانون العلامات التجارية لحق المطالبة بالتعويض وهو التسجيل قد تجاوزه قانون المنافسة غير المشروعة وأصبح بالإمكان المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية ولو كانت غير مسجلة في المملكة.
ولذلك فإن هذا البحث يهدف إلى الوقوف على مدى امكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية سواء أكانت العلامة مسجلة في المملكة أو غير مسجلة من خلال بيان الأساس القانوني لحق المطالبة بالتعويض وبيان مدى اللجؤ لدعوى المنافسة غير المشروعة كوسيلة لحماية العلامة التجارية المسجلة وغير المسجلة وإبراز العلاقة ما بين هذه الدعوى المدنية والدعوى الجزائية لحماية العلامة التجارية المسجلة، ولذلك فإننا سنقسم هذه الدراسة إلى مبحثين نتناول في المبحث الأول الأساس القانوني لحق المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية فيما نتناول في المبحث الثاني دعوى المنافسة غير المشروعة كدعوى مدنية للمطالبة بالتعويض من حيث شروطها وعناصرها وعلاقتها بالدعوى الجزائية لحماية العلامة التجارية المسجلة.
المبحث الأول الأساس القانوني لحق المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية
تنص المادة (256) من القانون المدني الأردني(26) على أنه :”كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو كان غير مميز بضمان الضرر”. وبموجب هذه المادة فإن الحماية المدنية مقررة لكافة الحقوق استناداً للقواعد العامة في المسؤولية في القانون المدني، إذ يحق لكل من وقع عليه اعتداء المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحق به، وبالتالي يحق لكل من وقع عليه اعتداء في علامته التجارية أن يطالب بالتعويض إستناداً لهذه المادة.
كما أن الاعتداء على علامة تجارية بالتقليد أو التزوير أو بالاستعمال دون موافقة مالكها يشكل اعتداءً صارخاً على قانون العلامات التجارية وفعل من أفعال المنافسة غير المشروعة. فالتجار يتنافسون فيما بينهم بالطرق المشروعة وذلك من أجل جذب أكبر عدد ممكن من الزبائن ولكن إذا استخدمت وسائل غير مشروعة في سبيل تحقيق هذا الهدف عدت المنافسة غير مشروعة وحق لكل من لحقه ضرر المطالبة بالتعويض عن كل ضرر مادي ومعنوي نتج عن فعل المنافسة غير المشروعة.
وبالتالي فإن العلامة التجارية يفترض أن تكون محمية مدنياً من ثلاث جهات :
أولاً: من جهة قانون العلامات التجارية الذي يمنع كل صور التعدي والقرصنة على العلامات التجارية ويوفر للمعتدى على علامته التجارية حق المطالبة بالتعويض ووقف التعدي على علامته.
ثانياً: من جهة قانون المنافسة غير المشروعة إذ أن واقعة التعدي على علامة تجارية
تشكل فعلاً من أفعال المنافسة غير المشروعة.
ثالثاً: من جهة القواعد العامة في المسؤولية المدنية إذ أن التعدي على علامة تجارية يلحق ضرراً بالتجار يستوجب التعويض.
وعليه فإننا سنبحث في الأساس القانوني لحق التعويض في كل من قانون العلامات التجارية وقانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية والقانون المدني الأردني وذلك في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول: حق التعويض في قانون العلامات التجارية :
تنظم المادة (34) من قانون العلامات التجارية الأردني رقم (33) لسنة (1952) موضوع حق المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية. واشترطت هذه المادة تسجيل العلامة التجارية في المملكة لأغراض المطالبة بالتعويض في حالة التعدي عليها. وقد كان هذا النص منتقداً من قبل الفقه التجاري(27) بسبب إشتراطه تسجيل العلامة التجارية في المملكة من أجل المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها وذلك لأن التعويض مرتبط بوقوع الضرر وتحققه والذي يترك للقضاء أمر تحديده، ولا يرتبط التعويض بإجراءات تسجيل العلامة التجارية التي يتطلبها قانون العلامات التجارية الأردني.
ويبرر الدكتور صلاح زين الدين(28) اشتراط المشرع الأردني تسجيل العلامة التجارية في المملكة لإمكانية المطالبة بالتعويض في حالة التعدي عليها إلى رغبة المشرع على تشجيع أصحاب العلامات التجارية للقيام بتسجيلها لدى وزارة الصناعة والتجارة بهدف حصرها ومعرفة أصحابها. إلا أن هذا التبرير، كما أرى، لا يصلح سبباً كافياً لمخالفة أحكام المبادئ العامة في المسؤولية المدنية والتي تعطي لكل متضرر الحق في المطالبة بالتعويض كما بينت ذلك المادة (256) من القانون المدني الأردني خاصة إذا ما علمنا أن القضاء هو الفيصل في تحديد استحقاق ومقدار التعويض. فكان الأجدر بالمشرع الأردني عدم تطلب شرط تسجيل العلامة التجارية في المملكة لاستحقاقها التعويض جراء التعدي عليها.
وقد كان يؤمل من المشرع الأردني تعديل هذا النص خاصة بعد قيامه بتعديل تشريعات الملكية الفكرية لأغراض انضمام الأردن لمنظمة التجارة العالمية لكي تتوافق مع أحكام اتفاقية تريبس المنظمة لحقوق الملكية الفكرية والتي تشكل أحد أهم محاور منظمة التجارة العالمية. إلا أنه قد صدر القانون المعدل لقانون العلامات التجارية لسنة (1999) مبقياً على نص المادة (34) كما في صيغته القديمة فيما يتعلق بالقدرة على المطالبة بالتعويض إذ تنص هذه المادة على أنه :”لا يحق لأحد أن يقيم دعوى بطلب تعويضات عن أي تعد على علامة تجارية غير مسجلة في المملكة …”، وبهذا يكون المشرع الأردني قد حصر حق المطالبة بالتعويض في حالة التعدي على العلامة التجارية المسجلة في المملكة وبقيت العلامة التجارية غير المسجلة في سجل العلامات التجارية خارج إطار الحماية المدنية المتمثلة بالتعويض.
وبتحليل موقف المشرع الاردني من اشتراط تسجيل العلامة التجارية لأغراض المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها ، وبإصراره على تطلب مثل هذا الشرط حتى بعد صدور القانون المعدل لقانون العلامات التجارية لعام 1999، يجدر بنا الرجوع لأحكام اتفاقية تريبس المنظمة للعلامة التجارية وخاصة النص المتعلق بالاجراءات والجزاءات المدنية.
صحيح أن اتفاقية تريبس قد رتبت كثيراً من الآثار القانونية على تسجيل العلامة التجارية، إلا أنها لم تشترط تسجيل العلامة التجارية لأغراض المطالبة بالتعويض جراء الاعتداء عليها. فالتسجيل وفقاً لاتفاقية تريبس هو السبب المنشئ لملكية العلامة التجارية رغم أنها لم تعول على الاستعمال الفعلي للعلامة التجارية كشرط مسبق للتقدم بطلب لتسجيلها (م19/1من اتفاقية تريبس)، كما أن التسجيل يمنح صاحب العلامة التجارية الحق المطلق في منع الغير من استخدام ذات العلامة أو علامة مشابهة في أعماله التجارية بخصوص نفس نوع السلع أو الخدمات المماثلة لتلك التي سجلت العلامة بشأنها ما دام قد تم هذا الاستخدام بدون موافقة مالك العلامة التجارية المسجلة (م16 من اتفاقية تريبس).
وعليه فإن اتفاقية تريبس المنظمة لحقوق الملكية الفكرية ومنها العلامة التجارية رغم ترتيبها لكثير من الآثار القانونية على تسجيل العلامة التجارية إلا أنها لم تشترط التسجيل المسبق لأغراض المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها خاصة إذا ما علمنا أن المشرع الأردني قد قام بتعديل قانون العلامات التجارية بما يتلائم مع أحكام اتفاقية تريبس وهذا ما كان ينبغي حصوله بخصوص المادة (34) من قانون العلامات التجارية الأردني. وبالرجوع للمادة (45) من اتفاقية تريبس نجد انها قد منحت السلطات القضائية في الدول الأعضاء في هذه الاتفاقية الصلاحية بأن تأمر المعتدي بأن يدفع لصاحب الحق تعويضات عادلة مناسبة عن الضرر الذي لحق به بسبب التعدي على حقه في العلامة التجارية، بالإضافة إلى المصروفات التي تكبدها والتي يجوز أن تشمل أتعاب المحامي المناسبة، ويمكن للسلطة القضائية أن تأمر باسترداد الأرباح التي حققها المعتدي. ولذلك فإن حق المتضرر بالمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به جراء التعدي على علامته
التجارية غير مرتبط بتسجيل العلامة التجارية لدى المرجع المختص (وزارة الصناعة والتجارة). وعليه لا نجد مبرراً واضحاً لموقف المشرع الاردني خاصة بعد صدور القانون المعدل لقانون العلامات التجارية والذي أُخذ بالكامل عن اتفاقية تريبس ، ولذلك كان من المفترض تعديل أحكام المادة (34) من هذا القانون بما يتلائم مع أحكام هذه الاتفاقية الدولية .
المطلب الثاني : حق التعويض في قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية:
لقد صدر قانون المنافسة غير المشروعة والاسرار التجارية لعام 2000على اثر انضمام الاردن لمنظمة التجارة العالمية وذلك لينظم كلاً من المنافسة غير المشروعة والاسرار التجارية . وفي مجال المنافسة غير المشروعة بيّن هذا القانون الأعمال التي يُعد القيام بها أعمال منافسة غير مشروعة وهي على سبيل المثال لا الحصر (م 2) ، كما بيّن الحماية المدنية في حالة القيام بإعمال المنافسة غير المشروعة وهي المطالبة بالتعويض عن الضرر ووقف التعدي (م3) . ومن أعمال المنافسة غير المشروعة بموجب المادة (2/ب) تلك المتعلقة بعلامة تجارية مستعملة في الأردن سواء أكانت مسجلة أو غير مسجلة وتؤدي إلى تضليل الجمهور. وبالتالي فإن القيد الذي وضعه قانون العلامات التجارية الأردني لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية وهو التسجيل قد تجاوزه قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية.
وبعبارات أخرى يمكن القول أن النقص الذي شاب المادة (34) من قانون العلامات التجارية الأردني قد سُد من قبل المادة (2/ب) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية وأصبح بالإمكان المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية على اعتبار أن هذا التعدي يشكل فعلاً من أفعال المنافسة غير المشروعة. وهذا ما أقرته المادة (3) من قانون المنافسة غير المشروعة والاسرار التجارية التي أعطت الحق لكل ذي مصلحة المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر جراء أي فعل منافسة غير مشروعة.
ونتساءل في هذا السياق حول القانون الأولى بالتطبيق أهو قانون العلامات التجارية أم قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية؟ ونظرا لكون كلا القانونيين خاصين, فلا يوجد قانون أولى بالتطبيق عن القانون الآخر, ولذلك يبقى الأمر متوقف على القانون الأصلح لصاحب المصلحة.
كما أرى أنه لا يمكن تطبيق احكام المادة الثانية من قانون التجارة الاردني لعام 1966 والتي اجازت الرجوع لاحكام القانون المدني في حالة خلو القانون التجاري بالمعنى الواسع ( قانون) التجارة الاردني لسنة 1966 والقوانين المكملة لقانون التجارة ومنها قانون العلامات التجارية وذلك بسبب ورود نص صريح وهو نص المادة (34 ) من قانون العلامات التجارية يعالج مدى امكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية .
وعليه يمكن تأسيس دعوى المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية مسجلة في المملكة استناداً للمادة (34) من قانون العلامات التجارية التي أعطت الحق للمتضرر بالمطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامته التجارية المسجلة، واستناداً أيضاً للمادة (2/ب) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية على اعتبار أن التعدي يشكل فعلاً من أفعال المنافسة غير المشروعة. أما إذا كانت العلامة التجارية غير مسجلة في المملكة فلا يمكن تأسيس دعوى المطالبة بالتعويض إلا وفقاً للمادة (2/ب) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية التي لم تشترط تسجيل العلامة التجارية في المملكة لاعتبار التعدي على العلامة التجارية فعلاً من أفعال المنافسة غير المشروعة.
المطلب الثالث : حق التعويض في القانون المدني الأردني :
إن المسؤولية المدنية بشكل عام هي الالتزام بتعويض الضرر، وهي قد تكون مسؤولية عقدية ناشئة عن عقد كما قد تكون مسؤولية تقصيرية ناشئة عن الإخلال بالتزام قانوني وهو عدم الإضرار بالغير(29). وتكون مسؤولية المعتدي على علامة تجارية مسؤولية تقصيرية لا عقدية لأنه إذا وجد اتفاق ما بين تاجرين ينص على تنظيم المنافسة أو عدم المنافسة ففي حالة مخالفة مثل هذا الاتفاق تقوم المسؤولية العقدية ليس على أساس أنه فعل منافسة غير مشروعة بل منافسة ممنوعة، وفيما عدا ذلك تكون المسؤولية تقصيرية.
وقد نظمت المادة (256) من القانون المدني الأردني المسؤوليه التقصيريه إذ أعطت الحق لكل من وقع عليه ضرر المطالبة بتعويضه ولو كان غير مميز. وبالتالي استناداً للمادة (256) فإنه يحق لمن وقع اعتداء على علامته التجارية المطالبة بالتعويض إذا ما أثبت الضرر الذي وقع عليه. ولا يشترط تسجيل العلامة التجارية في المملكة للمطالبة بالتعويض وفقاً لهذه المادة التي تنظم المسؤولية المدنية. وعليه فإنه يمكن المطالبة بالتعويض في حالة الاعتداء على علامة تجارية مسجلة أم غير مسجلة استنادا للمادة (256) من القانون المدني الأردني دون استلزام شكليات معينة كالتسجيل المسبق للعلامة التجارية ما دام بوسع المدعي إثبات عناصر المسؤولية المدنية، وهي : الفعل، الضرر وعلاقة السببية.
وقد اوجب القانون المدني الأردني التعويض عن الضرر المادي والضرر الأدبي إذ تقرر المادة (267/1) أنه “يتناول حق الضمان الضرر الأدبي كذلك. فكل تعد على الغير في حريته أو في عرضه أو في شرفه أو في سمعته أو في مركزه الاجتماعي أو في إعتباره المالي يجعل المعتدي مسئولاً عن الضمان”.
وقد قصرت المادة (363) مدني أردني التعويض على الضرر الواقع فعلاً وهي الخسارة التي لحقت بالدائن فعلاً دون الربح الفائت بقولها: “إذا لم يكن الضمان مقدراً في القانون أو في العقد فالمحكمة تقدره بما يساوي الضرر الواقع فعلاً حين وقوعه”.
واذا كان تقدير التعويض بشكل نهائي غير ممكن عند إقامة الدعوى يمكن للقاضي الحكم بتعويض مؤقت محتفظا للمتضرر بالحق في ان يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في تقدير التعويض (م 268 مدني أردني ).
كما ان الاضرار في القانون المدني الأردني قد يكون بالمباشرة او بالتسبب، فإن كان بالمباشرة لزم الضمان ولا شرط له واذا وقع بالتسبب فيشترط التعدي أو التعمد أو أن يكون الفعل مفضياً الى الضرر (م257) مدني أردني، ووفقاً للقانون الأردني فان المباشر يتحمل تعويض الأضرار التي يسببها للغير دون الاعتداد فيما اذا كان فعله خطأ أو لا، وهذا ما أشارت له المادة (256) مدني أردني السابق ذكرها، وقد انتقد بعض الفقه (30) هذا النص لأنه يؤدي الى ترتيب المسؤولية والتعويض لمجرد قيام شخص بسلوك وان لم يشكل اعتداء على حق الغير، اذ أن الضرر قد يتحقق بتوافر علاقة السببية بينه وبين الفعل, لكن الفعل قد يكون مشروعاً ولهذا لا بد من اشترط التعدي في فعل المباشر حتى يكون مسؤولاً عن ضمان الأضرار التي يلحقها بالغير.
وفي كل الأحوال لإقامة دعوى المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية مسجلة في المملكة أم غير مسجلة (مع مراعاة السند القانوني لإقامة الدعوى بين العلامة التجارية المسجلة وغير المسجلة)، لا بد للمتضرر من إثبات واقعة التعدي كتزوير أو تقليد العلامة التجارية أو استعمالها بدون موافقة صاحبها أو أي فعل آخر ألحق به ضرراً. كما يجب أن يثبت المدعي الخسارة التي لحقت به جراء فعل الاعتداء، ويدخل في حساب الخسارة تلك التي لحقت بالمدعي فعلاً بالإضافة إلى الربح الفائت كانخفاض مبيعات المدعي، كما لا بد من إثبات قيام علاقة سببية بين واقعة التعدي والضرر الذي لحق بالمدعي وذلك وفقاً للقواعد العامة في المسؤولية المدنية. وبالتالي فإن مظلة الحماية المدنية والمطالبة بالتعويض في كل الأحوال هي دعوى المنافسة غير المشروعة وهذا يقودنا للحديث عن هذه الدعوى في المبحث الثاني.
المبحث الثاني شروط دعوى المنافسة غير المشروعة
لقيام دعوى المنافسة غير المشروعة جراء التعدي على علامة تجارية ، لا بد من قيام عناصر المسؤولية المدنية والتي وردت في المادة ( 256 ) من القانون المدني الاردني وهي :- الفعل والضرر وعلاقه السببية ندرسها في ثلاثة مطالب .
المطلب الأول: فعل التعدي على علامة تجارية
يشترط لقيام المسؤولية التقصيرية في القانون المدني المصري أن يكون الفعل من قبيل الخطأ، والخطأ يتضمن ركنيين أحدهما مادي وهو التعدي والآخر معنوي وهو الادراك، ويميل الفقه ( 31) الى تعريف الخطأ على أنه انحراف في سلوك الشخص مع ادراكه لهذا الانحراف، ويقصد بالانحراف أو التعدي هو انحراف في السلوك يؤدي الى الضرر في ذاته سواء كان فعله معتمداً أو غير معتمد ويلحق بالفعل العمد الخطأ الجسيم غير المتعمد بسبب جسامته، وقد يكون التعدي سلبياً من خلال الامتناع عن القيام بواجب قانوني.
أما القانون المدني الاردني فلا يشترط الخطأ لقيام المسؤولية التقصيرية، بل يكفي أن يكون الفعل ضاراً أي أن يؤدي الفعل الى الضرر في ذاته، ولذلك لا يشترط لقيام المسؤولية أن يكون المسؤول مميزاً أي مدركاً لما في عمله من معنى الانحراف أو التعدي، وقد استقى المشرع الأردني نص المادة (256) من القانون المدني الأردني من الحديث الشريف (لا ضرر ولاضرار) ، والخطأ الذي يشترطه القانون لقيام المسؤولية التقصيرية يرادف التعدي في الفقه الاسلامي وهو الانحراف في السلوك سواء عن إهمال وتقصير او عمداً أدى الى الحاق الضرر بالغير( 32). وعليه فان التاجر المنافس يلزم بتعويض الاضرار التي يسببها للتاجر الآخر بغض النظر ان كان فعله يشكل خطأ ام لا وذلك لان المادة ( 256) السابق ذكرها قد اعتدت بالمسؤولية الموضوعية للمتسبب بالضرر دون النظر للنشاط الذي يقوم به سواء أكان خطأ أم لا.
وينتقد بعض الفقه (33) هذا النص لانه يعّرض الشخص للمطالبة بالتعويض لمجرد قيامه بأي سلوك حتى ولو لم يشكل اعتداء على حق الغير وهذا قد يؤدي الى احباطه، ولذلك دعى هذا الجانب من الفقه الى ضرورة تقييد الاضرار بوصف التعدي حيث يمكن الوصول الى هذه النتيجة بتفسير المادة (256) من القانون المدني الاردني في ضوء المواد( 61 و257/2 و291) من ذات القانون والمواد ( 918 – 920 ) من أحكام مجلة الاحكام العدلية .
والفعل الضار في دعوى المنافسة غير المشروعة يفترض وجود منافسة بين تاجرين يقوم أحدهما بفعل منافسة غير مشروعة سواء عن قصد أو إهمال وعدم تبصر(34). وقد استخدم الفقه لتحديد المقصود بالفعل الضار معيار مدى مخالفة ذلك الفعل لقواعد الأمانة والشرف والنزاهة في التجارة (35).
وقد بينت المادة (2) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية لسنـــة (2000) صور المنافسة غير المشروعة وذكر من بينها حالة التعدي على علامة تجارية تخص الغير مستعملة في المملكة سواء أكانت العلامة مسجلة أو غير مسجلة وتؤدي الى تضليل الجمهور.
اذ تنص المادة (2) من هذا القانون على ما يلي:
” أ- يعتبر عملاً من أعمال المنافسة غير المشروعة كل منافسة تتعارض مع الممارسات الشريفة في الشؤون الصناعية أو التجارية وعلى وجه الخصوص ما يلي :-
1. الأعمال التي بحكم طبيعتها تسبب لبسا مع منشأة أحد المنافسين أو منتجاته أو نشاطه الصناعي أو التجاري .
2. الإدعاءات المغايرة للحقيقة في مزاولة التجارة والتي قد تسبب نزع الثقة عن منشأة أحد المنافسين أو منتجاته أو نشاطه الصناعي أو التجاري .
3. البيانات أو الإدعاءات التي قد يسبب استعمالها في التجارة تضليل الجمهور فيما يتعلق بطبيعة المنتجات أو طريقة تصنيعها أو خصائصها أو كمياتها أو صلاحيتها للاستعمال.
4. أي ممارسة قد تنال من شهرة المنتج أو تحدث لبساً فيما يتعلق بمظهره الخارجي أو طريقة عرضه أو قد تضلل الجمهور عند الاعلان عن سعر المنتج أو طريقة احتسابه .
ب- اذا كانت المنافسة غير المشروعة متعلقة بعلامة تجارية مستعملة في المملكة سواء أكانت مسجلة أو غير مسجلة وتؤدي الى تضليل الجمهور فتطبق في هذه الحالة أحكام الفقرة (أ) من هذه المادة .
ج- تسري الاحكام الواردة في الفقرتين (أ) و (ب) من هذه المادة على الخدمات حسب مقتضى الحال ”
ومما يجدر التنويه اليه أن صور المنافسة غير المشروعة التي حددتها المادة (2) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية قد وردت على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي يمكن قياس حالات أخرى من المنافسة غير المشروعة على الصور الموجودة حالياً. ونظراً لوجود فقرة خاصة بالعلامة التجارية المستعملة سواء أكانت مسجلة أم غير مسجلة ، فاننا لن نتطرق لصور المنافسة غير المشروعة التي وردت في الفقرة (أ) من المادة الثانية من هذا القانون ، وسوف نقصر الحديث على الفقرة (ب) من ذات المادة التي تناولت بشكل خاص العلامة التجارية .
ويقتضي الحديث عن فعل التعدي على علامة تجارية تحديد المقصود بهذه العلامة اذ تعّرف العلامة التجارية على أنها إشارة توسم بها البضائع والسلع والمنتجات والخدمات أو تعلم تميزاً لها عما يماثلها من بضائع أو سلع أو خدمات(36). والعلامة التجارية تشمل العلامة الصناعية وبالتالي يمكن أن تميز العلامة التجارية المنتجات الزراعية ومستثمرات الارض ، أي كل ما يعد داخلاً في التعامل التجاري أيا كانت طبيعة مصدر المنتجات (م1/3 من اتفاقية باريس لعام 1883). وتعّرف العلامة التجارية كذلك على أنها كل إشارة أو دلالة أو رمز يضعها التاجر أو الصانع على المنتجات التي يقوم ببيعها أو صنعها وتهدف إلى تيسير التعرف على مصدر بيع المنتجات أو صنعها بحيث لا تختلط بغيرها من السلع المماثلة في الأسواق مما يساعد على سهولة التعرف عليها من قبل المشترين أو المتعاملين معها(37).
وقد عرفت المادة (2) من قانون العلامات التجارية الأردني العلامة التجارية على أنها :”أي إشارة ظاهرة يستعملها أو يريد استعمالها أي شخص لتمييز بضائعه أو منتجاته أو خدماته عن بضائع أو منتجات أو خدمات غيره(38). وبهذا يكون المشرع الأردني قد اعترف إلى جانب علامات البضائع
(Goods) ومثال ذلك علامة (Pepsi – Cola) للمشروبات بعلامات الخدمة (Service Marks)كنوع من أنواع العلامات التجارية. وعلامات الخدمة هي تلك التي تتخذ شكل شارات معينة لتمييز خدمات معينة كالشارات التي تضعها محطات خدمة السيارات كتقديم خدمة لتشحيم السيارات أو كالشارات التي تضعها مصبغة على الثياب التي قامت بتنظيفها أو صبغها وكذلك الشارات التي تتخذها الفنادق والمطاعم، ومثال ذلك علامة (The Four Season) لخدمة المطاعم. كما اعترف المشرع الأردني بالعلامة التجارية المشهورة التي تجاوزت شهرتها حدود البلد الأصلي الذي سجلت فيه (م2)، إذ أنه مع تطور التجارة وسهولة الاتصال بين الدول وانسياب حركة التجارة وانتقال السلع والبضائع والخدمات بين دول العالم، كان هناك حاجة لحماية العلامات التجارية المشهورة التي تجاوزت شهرتها حدود البلد الذي سجلت فيه. كما أخذ القانون المعدل بالعلامة التجارية الجماعية (Collective Marks) والتي عرفتها المادة (2) بأنها :”العلامة ا لتي يستعملها شخص اعتباري لتصديق مصدر بضائع ليست من صنعه أو المواد المصنوعة منها أو جودتها أو طريقة إنتاجها أو الدقة المتبعة في صنعها أو غير ذلك من ميزات وخصائص لتلك البضائع”. ومثال ذلك علامة (AFL – CIO) وجميع هذه العلامات سواء أكانت علامات بضائع أو خدمات أو علامات مشهورة أوعلامات جماعية تخضع جميعها لأحكام قانون العلامات التجارية(39).
وعليه يمكن تأسيس دعوى المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية مسجلة في المملكة استناداً للمادة (34) من قانون العلامات التجارية التي أعطت الحق للمتضرر بالمطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامته التجارية المسجلة، واستناداً أيضاً للمادة (2/ب) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية على اعتبار أن التعدي يشكل فعلاً من أفعال المنافسة غير المشروعة. أما إذا كانت العلامة التجارية غير مسجلة في المملكة فلا يمكن تأسيس دعوى المطالبة بالتعويض إلا وفقاً للمادة (2/ب) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية التي لم تشترط تسجيل العلامة التجارية في المملكة لاعتبار التعدي على العلامة التجارية فعلاً من أفعال المنافسة غير المشروعة.
المطلب الثالث : حق التعويض في القانون المدني الأردني :
إن المسؤولية المدنية بشكل عام هي الالتزام بتعويض الضرر، وهي قد تكون مسؤولية عقدية ناشئة عن عقد كما قد تكون مسؤولية تقصيرية ناشئة عن الإخلال بالتزام قانوني وهو عدم الإضرار بالغير(29). وتكون مسؤولية المعتدي على علامة تجارية مسؤولية تقصيرية لا عقدية لأنه إذا وجد اتفاق ما بين تاجرين ينص على تنظيم المنافسة أو عدم المنافسة ففي حالة مخالفة مثل هذا الاتفاق تقوم المسؤولية العقدية ليس على أساس أنه فعل منافسة غير مشروعة بل منافسة ممنوعة، وفيما عدا ذلك تكون المسؤولية تقصيرية.
وقد نظمت المادة (256) من القانون المدني الأردني المسؤوليه التقصيريه إذ أعطت الحق لكل من وقع عليه ضرر المطالبة بتعويضه ولو كان غير مميز. وبالتالي استناداً للمادة (256) فإنه يحق لمن وقع اعتداء على علامته التجارية المطالبة بالتعويض إذا ما أثبت الضرر الذي وقع عليه. ولا يشترط تسجيل العلامة التجارية في المملكة للمطالبة بالتعويض وفقاً لهذه المادة التي تنظم المسؤولية المدنية. وعليه فإنه يمكن المطالبة بالتعويض في حالة الاعتداء على علامة تجارية مسجلة أم غير مسجلة استنادا للمادة (256) من القانون المدني الأردني دون استلزام شكليات معينة كالتسجيل المسبق للعلامة التجارية ما دام بوسع المدعي إثبات عناصر المسؤولية المدنية، وهي : الفعل، الضرر وعلاقة السببية.
وقد اوجب القانون المدني الأردني التعويض عن الضرر المادي والضرر الأدبي إذ تقرر المادة (267/1) أنه “يتناول حق الضمان الضرر الأدبي كذلك. فكل تعد على الغير في حريته أو في عرضه أو في شرفه أو في سمعته أو في مركزه الاجتماعي أو في إعتباره المالي يجعل المعتدي مسئولاً عن الضمان”.
وقد قصرت المادة (363) مدني أردني التعويض على الضرر الواقع فعلاً وهي الخسارة التي لحقت بالدائن فعلاً دون الربح الفائت بقولها: “إذا لم يكن الضمان مقدراً في القانون أو في العقد فالمحكمة تقدره بما يساوي الضرر الواقع فعلاً حين وقوعه”.
واذا كان تقدير التعويض بشكل نهائي غير ممكن عند إقامة الدعوى يمكن للقاضي الحكم بتعويض مؤقت محتفظا للمتضرر بالحق في ان يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في تقدير التعويض (م 268 مدني أردني ).
كما ان الاضرار في القانون المدني الأردني قد يكون بالمباشرة او بالتسبب، فإن كان بالمباشرة لزم الضمان ولا شرط له واذا وقع بالتسبب فيشترط التعدي أو التعمد أو أن يكون الفعل مفضياً الى الضرر (م257) مدني أردني، ووفقاً للقانون الأردني فان المباشر يتحمل تعويض الأضرار التي يسببها للغير دون الاعتداد فيما اذا كان فعله خطأ أو لا، وهذا ما أشارت له المادة (256) مدني أردني السابق ذكرها، وقد انتقد بعض الفقه (30) هذا النص لأنه يؤدي الى ترتيب المسؤولية والتعويض لمجرد قيام شخص بسلوك وان لم يشكل اعتداء على حق الغير، اذ أن الضرر قد يتحقق بتوافر علاقة السببية بينه وبين الفعل, لكن الفعل قد يكون مشروعاً ولهذا لا بد من اشترط التعدي في فعل المباشر حتى يكون مسؤولاً عن ضمان الأضرار التي يلحقها بالغير.
وفي كل الأحوال لإقامة دعوى المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية مسجلة في المملكة أم غير مسجلة (مع مراعاة السند القانوني لإقامة الدعوى بين العلامة التجارية المسجلة وغير المسجلة)، لا بد للمتضرر من إثبات واقعة التعدي كتزوير أو تقليد العلامة التجارية أو استعمالها بدون موافقة صاحبها أو أي فعل آخر ألحق به ضرراً. كما يجب أن يثبت المدعي الخسارة التي لحقت به جراء فعل الاعتداء، ويدخل في حساب الخسارة تلك التي لحقت بالمدعي فعلاً بالإضافة إلى الربح الفائت كانخفاض مبيعات المدعي، كما لا بد من إثبات قيام علاقة سببية بين واقعة التعدي والضرر الذي لحق بالمدعي وذلك وفقاً للقواعد العامة في المسؤولية المدنية. وبالتالي فإن مظلة الحماية المدنية والمطالبة بالتعويض في كل الأحوال هي دعوى المنافسة غير المشروعة وهذا يقودنا للحديث عن هذه الدعوى في المبحث الثاني.
المبحث الثاني شروط دعوى المنافسة غير المشروعة
لقيام دعوى المنافسة غير المشروعة جراء التعدي على علامة تجارية ، لا بد من قيام عناصر المسؤولية المدنية والتي وردت في المادة ( 256 ) من القانون المدني الاردني وهي :- الفعل والضرر وعلاقه السببية ندرسها في ثلاثة مطالب .
المطلب الأول: فعل التعدي على علامة تجارية
يشترط لقيام المسؤولية التقصيرية في القانون المدني المصري أن يكون الفعل من قبيل الخطأ، والخطأ يتضمن ركنيين أحدهما مادي وهو التعدي والآخر معنوي وهو الادراك، ويميل الفقه ( 31) الى تعريف الخطأ على أنه انحراف في سلوك الشخص مع ادراكه لهذا الانحراف، ويقصد بالانحراف أو التعدي هو انحراف في السلوك يؤدي الى الضرر في ذاته سواء كان فعله معتمداً أو غير معتمد ويلحق بالفعل العمد الخطأ الجسيم غير المتعمد بسبب جسامته، وقد يكون التعدي سلبياً من خلال الامتناع عن القيام بواجب قانوني.
أما القانون المدني الاردني فلا يشترط الخطأ لقيام المسؤولية التقصيرية، بل يكفي أن يكون الفعل ضاراً أي أن يؤدي الفعل الى الضرر في ذاته، ولذلك لا يشترط لقيام المسؤولية أن يكون المسؤول مميزاً أي مدركاً لما في عمله من معنى الانحراف أو التعدي، وقد استقى المشرع الأردني نص المادة (256) من القانون المدني الأردني من الحديث الشريف (لا ضرر ولاضرار) ، والخطأ الذي يشترطه القانون لقيام المسؤولية التقصيرية يرادف التعدي في الفقه الاسلامي وهو الانحراف في السلوك سواء عن إهمال وتقصير او عمداً أدى الى الحاق الضرر بالغير( 32). وعليه فان التاجر المنافس يلزم بتعويض الاضرار التي يسببها للتاجر الآخر بغض النظر ان كان فعله يشكل خطأ ام لا وذلك لان المادة ( 256) السابق ذكرها قد اعتدت بالمسؤولية الموضوعية للمتسبب بالضرر دون النظر للنشاط الذي يقوم به سواء أكان خطأ أم لا.
وينتقد بعض الفقه (33) هذا النص لانه يعّرض الشخص للمطالبة بالتعويض لمجرد قيامه بأي سلوك حتى ولو لم يشكل اعتداء على حق الغير وهذا قد يؤدي الى احباطه، ولذلك دعى هذا الجانب من الفقه الى ضرورة تقييد الاضرار بوصف التعدي حيث يمكن الوصول الى هذه النتيجة بتفسير المادة (256) من القانون المدني الاردني في ضوء المواد( 61 و257/2 و291) من ذات القانون والمواد ( 918 – 920 ) من أحكام مجلة الاحكام العدلية .
والفعل الضار في دعوى المنافسة غير المشروعة يفترض وجود منافسة بين تاجرين يقوم أحدهما بفعل منافسة غير مشروعة سواء عن قصد أو إهمال وعدم تبصر(34). وقد استخدم الفقه لتحديد المقصود بالفعل الضار معيار مدى مخالفة ذلك الفعل لقواعد الأمانة والشرف والنزاهة في التجارة (35).
وقد بينت المادة (2) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية لسنـــة (2000) صور المنافسة غير المشروعة وذكر من بينها حالة التعدي على علامة تجارية تخص الغير مستعملة في المملكة سواء أكانت العلامة مسجلة أو غير مسجلة وتؤدي الى تضليل الجمهور.
اذ تنص المادة (2) من هذا القانون على ما يلي:
” أ- يعتبر عملاً من أعمال المنافسة غير المشروعة كل منافسة تتعارض مع الممارسات الشريفة في الشؤون الصناعية أو التجارية وعلى وجه الخصوص ما يلي :-
1. الأعمال التي بحكم طبيعتها تسبب لبسا مع منشأة أحد المنافسين أو منتجاته أو نشاطه الصناعي أو التجاري .
2. الإدعاءات المغايرة للحقيقة في مزاولة التجارة والتي قد تسبب نزع الثقة عن منشأة أحد المنافسين أو منتجاته أو نشاطه الصناعي أو التجاري .
3. البيانات أو الإدعاءات التي قد يسبب استعمالها في التجارة تضليل الجمهور فيما يتعلق بطبيعة المنتجات أو طريقة تصنيعها أو خصائصها أو كمياتها أو صلاحيتها للاستعمال.
4. أي ممارسة قد تنال من شهرة المنتج أو تحدث لبساً فيما يتعلق بمظهره الخارجي أو طريقة عرضه أو قد تضلل الجمهور عند الاعلان عن سعر المنتج أو طريقة احتسابه .
ب- اذا كانت المنافسة غير المشروعة متعلقة بعلامة تجارية مستعملة في المملكة سواء أكانت مسجلة أو غير مسجلة وتؤدي الى تضليل الجمهور فتطبق في هذه الحالة أحكام الفقرة (أ) من هذه المادة .
ج- تسري الاحكام الواردة في الفقرتين (أ) و (ب) من هذه المادة على الخدمات حسب مقتضى الحال ”
ومما يجدر التنويه اليه أن صور المنافسة غير المشروعة التي حددتها المادة (2) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية قد وردت على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي يمكن قياس حالات أخرى من المنافسة غير المشروعة على الصور الموجودة حالياً. ونظراً لوجود فقرة خاصة بالعلامة التجارية المستعملة سواء أكانت مسجلة أم غير مسجلة ، فاننا لن نتطرق لصور المنافسة غير المشروعة التي وردت في الفقرة (أ) من المادة الثانية من هذا القانون ، وسوف نقصر الحديث على الفقرة (ب) من ذات المادة التي تناولت بشكل خاص العلامة التجارية .
ويقتضي الحديث عن فعل التعدي على علامة تجارية تحديد المقصود بهذه العلامة اذ تعّرف العلامة التجارية على أنها إشارة توسم بها البضائع والسلع والمنتجات والخدمات أو تعلم تميزاً لها عما يماثلها من بضائع أو سلع أو خدمات(36). والعلامة التجارية تشمل العلامة الصناعية وبالتالي يمكن أن تميز العلامة التجارية المنتجات الزراعية ومستثمرات الارض ، أي كل ما يعد داخلاً في التعامل التجاري أيا كانت طبيعة مصدر المنتجات (م1/3 من اتفاقية باريس لعام 1883). وتعّرف العلامة التجارية كذلك على أنها كل إشارة أو دلالة أو رمز يضعها التاجر أو الصانع على المنتجات التي يقوم ببيعها أو صنعها وتهدف إلى تيسير التعرف على مصدر بيع المنتجات أو صنعها بحيث لا تختلط بغيرها من السلع المماثلة في الأسواق مما يساعد على سهولة التعرف عليها من قبل المشترين أو المتعاملين معها(37).
وقد عرفت المادة (2) من قانون العلامات التجارية الأردني العلامة التجارية على أنها :”أي إشارة ظاهرة يستعملها أو يريد استعمالها أي شخص لتمييز بضائعه أو منتجاته أو خدماته عن بضائع أو منتجات أو خدمات غيره(38). وبهذا يكون المشرع الأردني قد اعترف إلى جانب علامات البضائع
(Goods) ومثال ذلك علامة (Pepsi – Cola) للمشروبات بعلامات الخدمة (Service Marks)كنوع من أنواع العلامات التجارية. وعلامات الخدمة هي تلك التي تتخذ شكل شارات معينة لتمييز خدمات معينة كالشارات التي تضعها محطات خدمة السيارات كتقديم خدمة لتشحيم السيارات أو كالشارات التي تضعها مصبغة على الثياب التي قامت بتنظيفها أو صبغها وكذلك الشارات التي تتخذها الفنادق والمطاعم، ومثال ذلك علامة (The Four Season) لخدمة المطاعم. كما اعترف المشرع الأردني بالعلامة التجارية المشهورة التي تجاوزت شهرتها حدود البلد الأصلي الذي سجلت فيه (م2)، إذ أنه مع تطور التجارة وسهولة الاتصال بين الدول وانسياب حركة التجارة وانتقال السلع والبضائع والخدمات بين دول العالم، كان هناك حاجة لحماية العلامات التجارية المشهورة التي تجاوزت شهرتها حدود البلد الذي سجلت فيه. كما أخذ القانون المعدل بالعلامة التجارية الجماعية (Collective Marks) والتي عرفتها المادة (2) بأنها :”العلامة ا لتي يستعملها شخص اعتباري لتصديق مصدر بضائع ليست من صنعه أو المواد المصنوعة منها أو جودتها أو طريقة إنتاجها أو الدقة المتبعة في صنعها أو غير ذلك من ميزات وخصائص لتلك البضائع”. ومثال ذلك علامة (AFL – CIO) وجميع هذه العلامات سواء أكانت علامات بضائع أو خدمات أو علامات مشهورة أوعلامات جماعية تخضع جميعها لأحكام قانون العلامات التجارية(39).
وبحسب المادة السابعة من قانون العلامات التجارية الاردني يجب ان تكون العلامة التجارية المنوي تسجيلها مؤلفة من أسماء ( 40) أو حروف (41) أو رسوم (42) أو أرقام (43) أو أشكال (44) أو ألوان (45) أو خليط من هذه الاشياء ذي صفة فارقة وقابلة الادراك عن طريق النظر بشكل يكفل تمييز بضائع أو خدمات مالك العلامة التجارية عن بضائع أو خدمات غيره من الناس .
والعلامة التجارية المتعدى عليها قد تكون مسجلة كما قد تكون غير مسجلة، ولتسجيل علامة تجارية ما في سجل العلامات التجارية في وزارة الصناعة والتجارة لا بد من استكمالها للشروط الموضوعية والشكلية التي يتطلبها القانون. ويقصد بالشروط الموضوعية هي تلك الشروط التي تنصب على ذات العلامة التجارية المنوي تسجيلها وهي : أن تكون العلامة التجارية فارقة جديدة مشروعة وقابلة للادراك عن طريق النظر .
ويقصد بالعلامة التجارية الفارقة أن يكون لها ذاتيتها الخاصة لمنع وقوع العملاء في الخلط بين المنتجات التي تحمل علامة تجارية مشابهة وعليه لا يجوز تسجيل علامة تجارية تستعمل عادة في التجارة لتمييز أنواع البضائع وأصنافها إلا إذا أبرزت بشكل خاص واصبح هذا الشكل الخاص هو المميز لبضائع مالك تلك العلامة، فلا يجوز تسجيل رقم كعلامة تجارية إلا إذا أبرز الرقم بشكل خاص. وقد أجازت محكمة العدل العليا تسجيل الرقم (4711) كعلامة تجارية لشركة عطور ألمانية كون هذا الرقم قد استخدم بشكل مميز على العطور مدة طويلة من الزمن، وفي هذا السياق تقول محكمة العدل العليا:- (لا يجوز تسجيل الرقم كعلامة تجارية إذا كان هذا الرقم يؤلف بمفرده العلامة التجارية، أما إذا كان هذا الرقم هو جزء من العلامة التجارية أو أنه أبرز في شكل خاص فلا يوجد في هذا القانون ما يمنع تسجيله).(46) كما لا يجوز تسجيل وصف أو رسم شائع وتسجيله لا يكسب العلامة ولا يمنحها الحماية القانونية، وفي هذا قررت محكمة العدل العليا إذا كان الرسم المستعمل في العلامة التجارية المطلوب حذفها من الرسوم الشائعة فلا يشكل بحد ذاته علامة فارقة، وليس من شأنه أن يميز بضائع صاحبه عن بضائع غيره من الناس، وأن مجرد استعمال هذا الرسم وحده من قبل المستدعين لا يشكل تعديا على هذه العلامة التي سجلها المستدعي ضده).(47) وفي هذا السياق أيضا لم تجز محكمة العدل العليا تسجيل كلمة ستاندرد
STANDARD)) كعلامة تجارية كونها كلمة عادة ما تستعمل في التجارة لتمييز أنواع البضائع وأصنافها(48).
وترجع العلة في اشتراط أن تكون العلامة التجارية فارقة للحيلولة دون غش الجمهور وانخداعه جراء استعمال الغير علامة تجارية مطابقة أو مشابهة للعلامة التجارية المسجلة حتى ولو اختلف الصنف الذي استعمل عليه المعتدي العلامة عن الصنف الذي من أجله سجلت العلامة. وقد أجملت محكمة العدل العليا في قرارها رقم 108/65 معايير التشابه المؤدي إلى غش الجمهور وهي على النحو التالي:
1. الفكرة الأساسية التي تنطوي عليها العلامة التجارية والتي يجب أن تكون مميزة وفارقة:- وتتضح الفكرة الأساسية للعلامة من خلال الاسم والشكل والرسم أو الصور أو الختم أو الحروف أو النقوش التي تتكون منها. وقد قررت محكمة العدل العليا أنه (لا يوجد تشابه من شانه أن يؤدي إلى غش الجمهور بين العلامة التجارية (لامكس) والعلامة التجارية (فوراكس) لأن الاسمين مختلفان والأولى تحتوي على صور مختلفة وحددت بألوان ثلاثة ميزتها عن الثانية التي لا وجود للصور عليها)(49) .
2. المظاهر الرئيسية للعلامة لا تفاصيلها الجزئية :- إن التقليد الذي يشكل اعتداءًا على علامة تجارية هو ذلك التقليد الذي يقع على الجزء الرئيسي للعلامة لا على تفاصيلها الجزئية. وفي هذا قررت محكمة العدل العليا (أن التشابه في جزء جوهري بين علامتين تجاريتين من شانه أن يؤدي إلى غش الجمهور) (50). وفي قرار آخر قررت محكمة العدل العليا أنه (يستفاد من المادتين 7/2و 8/10 من قانون العلامات التجارية أن التشابه الممنوع بالقانون هو التشابه الحاصل في مجموع العلامة لا في جزء من أجزائها فقط، وعليه لا يوجد تشابه بيـن عـلامة (7-up) وعلامة Bubble UP)) من شانه أن يغش الجمهور إذ أن هناك اختلاف بينهما في اللفظ والرسم والشكل ولهذا لا يوجد ما يمنع من تسجـيـل علامــة (Bubble Up) (51) .
3. نوع البضاعة التي تحمل العلامة: استخدمت محكمة العدل العليا في حكمها لفظة نوع بدلا من صنف، وهذا من شأنه أن يضيق من معيار التشابه ويعطي حرية أكبر للتجار باستخدام ذات العلامة التجارية أو علامة أخرى مشابهة على أنواع أو سلع أخرى (52). وقد طبقت محكمة العدل العليا هذا الاتجاه في قرارها رقم 39/87(53) حيث سمحت بتسجيل علامتين متماثلتين تحت صنف واحد وهو (29) كانت العلامة التجارية الأولى للأسماك وسمك التونة في حين كانت العلامة التجارية الثانية تخص باقي أنواع البضائع تحت صنف (29). إذ قررت أنه (لا يمنع الغير من استخدام نفس العلامة لتمييز سلعة أخرى تختلف عنها إذ لا ينشأ عن ذلك لبس أو خلط بين السلع الحاملة ذات العلامة ما لم تكن السلع متقاربة، ولا يجوز لمالك العلامة الاحتجاج بها إلا في مواجهة منافسين يمارسون تجارة أو صناعة من ذات النوع، ذلك أن الغرض من العلامة هو تمييز المنتجات ومنع الخلط بينها وبين منتجات مماثلة لها).
4. احتمال وقوع التباس بين العلامات عن طريق النظر أو سماع الاسم:- قد تؤدي العلامة التجارية إلى غش الجمهور سواء عن طريق النظر إليها أو عند سماع الاسم الذي يطلق عليها. وفي هذا قررت محكمة العدل العليا أنه لا يوجد تشابه يؤدي إلى غش الجمهور بين العلامة (جنرال الكترك) وعلامة (جنرال) لأن العلامة الثانية مؤلفة من كلمة واحدة ولا تؤدي إلى فرق ذات المعنى الذي تؤديه العلامة الثانية(54).
5. عدم افتراض أن المستهلك عند شراء البضاعة يفحص علامتها التجارية فحصا دقيقا ويقارنها بالأخرى. ويقوم هذا المعيار على أساس عدم افتراض أن المستهلك خبير علامات تجارية عند شرائه للبضائع والخدمات التي تحمل العلامات التجارية (55). وفي هذا السياق أكدت محكمة العدل العليا أنه (لا يفترض في المستهلك عند شراء بضاعة ما القيام بفحص العلامة التجارية فحصا دقيقا لا سيما إذا كان المستهلك من عامة الناس ذلك أن قانون العلامات التجارية شرع لمن لا يدقق) (56).
كما يجب أن تكون العلامة التجارية المنوي استخدامها جديدة لم يسبق لأحد استعمالها أو تسجيلها لتمييز منتجاته أو بضائعه أو خدماته. وشرط الجدة مقيد بنوع المنتجات ومن حيث الزمان والمكان أيضا. إذ يجب على طالب تسجيل العلامة التجارية أن يحدد نوع البضاعة التي يرغب في تسجيل علامته من أجلها. وقد قام نظام العلامات التجارية في الجدول الرابع بتصنيف البضائع إذ يجب أن يشتمل كل طلب على الصنف المحدد التي ستسجل العلامات التجارية فيه، والصنف يشمل عادة عددا من أنواع البضائع التي تدخل تحته. فإذا ما سجلت علامة تجارية على بعض أنواع البضائع في صنف معين، فلا تمتد الحماية القانونية لجميع أنواع البضائع التي يشتمل عليها ذلك الصنف، ولو سجلت علامة تجارية لتشمل جميع البضائع الداخلة في صنف معين، فلا يتمتع صاحب العلامة التجارية بالحماية القانونية إذا ما قام شخص آخر باستعمال تلك العلامة التجارية على صنف آخر غير الصنف الذي سجلت العلامة التجارية فيه. ويستثنى من ذلك العلامات التجارية المشهورة إذ لا يمكن استخدام العلامة المشهورة على صنف آخر غير الصنف الذي سجلت من أجله البضاعة او الخدمة وذلك لتعلق ذهن المستهلك بهذه العلامة مما يؤدي الى تضليل الجمهور وغشهم.
كما إن حماية العلامة التجارية قاصرة على مدة ملكية العلامة التجارية وهي عشر سنوات من تاريخ تسجيلها، غير أنه يجوز تجديد تسجيل العلامة من حين إلى آخر وفقاً لأحكام القانون (م20/1). ويمكن لمالك العلامة التجارية المسجلة تجديد علامته استنادا للمادة (21/2) لمدة عشر سنوات اعتبارا من تاريخ انتهاء مدة التسجيل الأول أو من تاريخ انتهاء التسجيل الأخير. وإذا لم يقم مالك العلامة التجارية بتجديدها جاز للمسجل شطبها من السجل وفقدت الحماية القانونية.
أما من حيث المكان فنطاق الحماية قاصر على إقليم الدولة التي سجلت فيها العلامة التجارية مع عدم الإخلال بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وعليه فلا حماية لعلامة تجارية مسجلة في الأردن ووقع الاعتداء عليها خارج الأردن، كما لا حماية لعلامة تجارية مسجلة خارج الأردن ووقع الاعتداء عليها في الأردن ما لم تكن محمية بموجب معاهدة دولية منظمة إليها الأردن.(57)
كذلك يجب أن تكون العلامة التجارية مشروعة ، وتكون العلامة التجارية غير مشروعة إذ خالفت نصا قانونيا أو جاءت مخالفة للنظام العام أو الآداب (م8/6). ولمسجل العلامات التجارية رفض تسجيل العلامة إذا كان لفظها يتنافى مع الأخلاق والآداب العامة (58). وقد بينت المادة الثامنة من قانون العلامات التجارية ما لا يجوز تسجيله كعلامة تجارية نظراً لتعلق هذه العلامة بالصفة الرسمية أو الدينية أو لتشابهها مع علامة تجارية أخرى أو لغيرها من الأسباب(59). وأخيرا يجب أن تكون العلامة التجارية المنوي تسجيلها قابلة للادراك عن طريق النظر.
وبالإضافة للشروط الموضوعية للعلامات التجارية، لا بد من توافر شروط شكلية لتسجيل هذه العلامات. ويقصد بالشروط الشكلية الإجراءات التي تتبع لتسجيل العلامة التجارية ابتداءً من تقديم طلب التسجيل وانتهاءً بإصدار شهادة تسجيل للعلامة التجارية(60). وإذا ما سجلت العلامة التجارية (Trademark Registration) على النحو السابق، فإنها تمنح صاحبها حماية داخلية من تاريخ تقديم الطلب وتعطي أولوية لمقدم الطلب في مواجهة أي شخص يستخدم نفس العلامة أو علامة مشابهة بعد تاريخ تقديم الطلب. أما العلامة غير المسجلة فإن الحماية لها محدودة وفقا لقانون العلامات التجارية في تلك الحالات التي تكون فيها العلامة مشهورة(61) (Well Know). الا أن الاعتداء على العلامة التجارية غير المسجلة يُخول مالكها حمايتها من خلال اقامة دعوى منافسة غير مشروعة, اذ أن دعوى المنافسة غير المشروعة تسري على العلامات التجارية المسجلة وغير المسجلة المشهورة وغير المشهورة.
كما أن أعمال المنافسة غير المشروعة أعمال مادية يمكن إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها شهادة الشهود والقرائن(62). ويجب ملاحظة أن الفيصل في تحديد فعل التعدي على العلامة التجارية هو إلحاق الضرر بالتاجر ومحله التجاري مما يؤدي إلى انصراف العملاء عنه مما يقتضي الحديث عن عنصر الضرر.
المطلب الثاني : الضرر :
لا مجال للمطالبة بالتعويض من خلال دعوى المنافسة غير المشروعة ما لم ينجم عن فعل التعدي على العلامة التجارية ضرر يصيب التاجر المنافس الذي وقع الاعتداء على علامته التجارية، إذ أن المطالبة بالتعويض بدون تحقق الضرر يؤدي الى رد هذه المطالبة إذ لا دعوى بلا مصلحة كما أشارت الى ذلك المادة (3/1) من قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني، مع ملاحظة أنه يمكن تقديم طلب للمحكمة المختصة لوقف المنافسة غير المشروعة حتى ولو لم يلحق فعل المنافسة غي المشروعة ضرر (م3/ج) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية.
وهذا الضرر قد يكون مادياً يصيب التاجر في أمواله أو معنوياً يصيبه في سمعة منتجاته . والضرر المادي هو ذلك الضرر الذي يصيب المضرور في ماله أي هو الضرر أو التلف الذي يصيب الأشياء والأموال المتعلقة بالمضرور وهذا الضرر المتعلق بالاشياء قد يؤدي الى انعدام الفائدة والقيمة الاقتصادية التي تمثلها هذه الأشياء وإما مجرد انقاص هذه القيمة(63).
ويشترط في الضرر المادي أن يكون ناشئاً عن مصلحة مشروعة كتملك علامة تجارية أو حتى استعمالها لفترة من الزمن كما يشترط أن يكون الضرر الواجب التعويض عنه محقق الوقوع أي ثابت على وجه اليقين بأن يكون قد وقع بالفعل (64) ، وبالتالي إذا كان الضرر المطلوب تعويضه محقق الوقوع بأن يكون قد وقع فعلاً أو سيقع حتماً فلا يكون أمام المحكمة إلا الحكم بالتعويض الذي يتناسب مع مقدار الضرر، أما الضرر المحتمل الوقوع الذي لا يعرف ما إذا كان سيقع في المستقبل أم لا فلا تعويض عنه(65). كما لا بد أن يكون الضرر مباشرا, أي أن يترتب الضرر على الفعل مباشرة فلا يحول بين الفعل والضرر فعل آخر(66).
وعليه فإن التاجر الذي يتم الاعتداء على علامته التجارية يستطيع ان يطالب بالتعويض عن الضرر الذي وقع فعلاً وهو الانتقاص من مبيعاته، أما اذا كان الضرر سيقع حتماً في المستقبل، من خلال الخسارة المالية التي ستلحق به بسبب عجزه عن تسويق منتجاته أو عدم الاقبال على شراءها، أو إذا كان الضرر محتمل الوقوع ولكنه غير حتمي، فلا يستطيع المتضرر المطالبة بالتعويض وانما يستطيع المطالبة بوقفه (م3/ج) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية لذلك فان المطالبة التعويض لا تكون الا في الضرر الواقع فعلاً فقط.
ويمكن للمحكمة أن تقضي بالتعويض إن تحقق الضرر في جانب المعتدى على علامته التجارية وأن تتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع استمرار وقوع هذا الضرر (67) وهو ما يسمى بوقف التعدي وهو أحد صور الحماية المدنية للعلامة التجارية. إذ بموجب المادة (39) من قانون العلامات التجارية فإنه يحق لمالك العلامة التجارية المسجلة في المملكة عند إقامة دعواه المدنية أو الجزائية أو أثناء النظر فيها الطلب من المحكمة وقف التعدي والحجز التحفظي على البضائع التي أرتكب التعدي بشأنها والمحافظة على الأدلة ذات الصلة بالتعدي. وطلب وقف التعدي مرتبط بموجب هذه المادة بتسجيل العلامة التجارية المعتدى عليها مما يعني أنه لا يجوز طلب وقف تعدي على علامة تجارية غير مسجلة في الأردن، لكن الأمر على نقيض ذلك في قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية (م3/2).
كما يمكن أن يكون الضرر معنوياً كالحط من جودة المنتجات وطريقة انتاجها. والتعويض عن الضرر المعنوي لا يهدف الى جبر الضرر كما في التعويض عن الضرر المادي اذ يصعب تقدير الضرر المعنوي تقديراً مالياً مباشراً ولكن يمكن جبر الضرر بطريق غير مباشر من خلال إعطاء المضرور تعويضاً مالياً يحقق له قدراً من الرضا والسعادة والهدوء النفسي تخفف عنه المساس بسمعة منتجاته وشهرتها(68).
والاعتداء على علامة تجارية لتاجر يلحق بالضرورة ضرراً مادياً ومعنوياً في نفس الوقت، فواقعة الاعتداء على علامة تجارية وإن لم تلحق ضرراً مادياً مباشراً بمالك العلامة التجارية إلا أنها تؤثر على سمعة المنتج أو الخدمة التي يقدمها مالك العلامة التجارية وتؤثر مستقبلاً في نظرة العميل لهذا المنتج أو الخدمة وتحد من رغبته على التعامل معها مما سيؤثر حتماً على تسويق ذلك المنتج أو تلك الخدمة وبالتالي يترجم الضرر المعنوي الى ضرر مادي ملموس، ويشترط كذلك في الضرر المعنوي أن يكون الضرر محقق الوقوع غير احتمالي.(69)
ويقع عبء إثبات الضرر على عاتق المدعي طالب التعويض جراء التعدي على علامته التجارية، ويكون اثبات أفعال المنافسة غير المشروعة بكافة طرق الاثبات وعلى وجه الخصوص الشهادة والمعاينة والخبرة، ويمكن إثبات الضرر في دعوى المنافسة غير المشروعة جراء التعدي على علامة تجارية من خلال تحول العملاء عن منتجات المدعي إلى منتجات أخرى نتيجة للوسائل غير المشروعة التي قام بها المدعى عليه. صحيح أن التاجر لا يتمتع بحق ملكية على عملائه ولا يستطيع منعهم من التعامل مع منتجات التجار الآخرين، إلا أن كل تاجر يسعى إلى الاحتفاظ بعملائه وجذب عملاء جدد(70) بوسائل تجارية مشروعة.
المطلب الثالث : علاقة السببية بين فعل التعدي والضرر
علاقة السببية أو رابطة السببية هي عنصر لازم لانعقاد المسؤولية المدنية وتحديد مداها أي لتحديد مدى التعويض الناجم عن هذه المسؤولية. فلا يكفي لالزم شخص ما بالتعويض أن يتوافر لنا الفعل والضرر في جانبه بل لا بد أن يكون من شأن الفعل أن يؤدي الى هذا الضرر، بمعنى أن يكون الفعل ضرورياً لتحقق الضرر، أي لولا حدوث الفعل لما وقع الضرر(71)، كما تتوافر علاقة السببية بين الفعل والضرر حتى ولو نتج عن الفعل ضرر واحد وأصاب عدة أموال يمتلكها أشخاص مختلفون(72)، كما يجب أن يترتب الضرر على الفعل مباشرة، أي أن لا يحول دون الفعل والضرر فعل آخر، وأن يكون قد نتج عن الفعل الأول(73).
ولا تثير رابطة السببية أية مشكلة اذا كانت النتيجة النهائية للفعل قد تمت من خلال فعل المعتدي وحده ولكن المشكلة تثور اذا اجتمعت عدة اسباب ساهمت في تحقيق النتيجة كمشاركة فعل المضرور او الغير في تحقيقها .(74) لذلك فقد أوجد الفقه عدة نظريات لتحديد علاقة السببية منها نظرية تكافؤ الاسباب التي ترى بوجوب الاعتداد بكل الاسباب التي اشتركت في احداث الضرر ومنها ايضاً نظرية السبب المنتج التي نادت بضرورة التفرقة بين الاسباب العرضية والاسباب المنتجة والاعتداد فقط بالاسباب المنتجة(75).
وللمطالبة بالتعويض من خلال دعوى منافسة غير مشروعة جراء التعدي على علامة تجارية لا بد من توافر علاقة سببية بين فعل التعدي الذي ارتكبه أو تسبب به المعتدي على العلامة التجارية وبين الضرر الذي لحق بمالك العلامة التجارية المعتدى عليها. فإذا لم يكن بالإمكان إثبات هذه العلاقة السببية ما بين فعل التعدي والضرر فلا يمكن المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق بمالك العلامة التجارية، كأن يكون الضرر الذي لحق بصاحب العلامة التجارية قد تأتى جراء فعل الغير وليس فعل المدعى عليه أو جراء خطأ مالك العلامة التجارية الشخصي(76).
ويمكن لمالك العلامة التجارية المطالبة بوقف التعدي بطلب مستعجل حتى قبل وقوع الضرر بالفعل(77). ويهدف المدعي في هذه الحالة إلى منع وقوع الضرر في المستقبل جراء وجود علامات تجارية مشابهة أو مطابقة لعلامته التجارية. ولا يملك المدعي هنا المطالبة بالتعويض لعدم تحقق الضرر بالفعل. ويمكن المطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية مسجلة أمام المحاكم الجزائية إذا كانت الدعوى الجزائية قد رفعت وهو ما يسمى بالادعاء بالحق الشخصي تبعاً لدعوى جزائية، ومن باب أولى يمكن المطالبة بالتعويض بدعوى مدنية مستقلة أمام القضاء المدني، إذ أن الادعاء بالحق الشخصي هو ادعاء مدني يمكن اقامته تبعاً للدعوى الجزائية أو بصورة مستقلة عنها أمام المحكمة المختصة.
وتتميز الدعوى المدنية عن الدعوى الجزائية في حالة التعدي على علامة تجارية في أن الدعوى الجزائية تستلزم أن تكون العلامة التجارية مسجلة فلا حماية جزائية لعلامة تجارية غير مسجلة في الأردن، أما الدعوى المدنية فيمكن تحريكها سواء أكانت العلامة التجارية مسجلة أم غير مسجلة (مع اختلاف السند القانوني بين الحالتين).
كما يمكن الحكم بالتعويض لمالك العلامة التجارية حتى ولو قضت المحكمة الجزائية ببراءة المشتكى عليه لعدم توافر القصد الجرمي، إذ أن التعويض مرتبط بوجود الضرر سواء نجم هذا الضرر عن قصد أم بالخطأ(78). ويملك كل متضرر من الاعتداء على علامة تجارية إقامة دعوى منافسة غير مشروعة، وإن تعدد المتضررين كان لكل منهم إقامة الدعوى مستقلاً عن الآخرين بشرط إثبات الضرر في حقه. كما أن دعوى المنافسة غير المشروعة يمكن إقامتها في مواجهة من قام بواقعة الاعتداء على علامة تجارية وكل من اشترك معه في فعل التعدي شريطة أن يثبت علمه بعدم شرعية العمل أو كان بإمكانه العلم بذلك كصاحب المطبعة الذي يقوم بطبع بطاقات تحمل علامات تجارية مقلدة(79).
الخاتمـــة
على ضوء ما تقدم نستطيع أن نخلص الى النتائج التالية:-
أولأ: أن القانون المعدل لقانون العلامات التجارية رقم (34) لسنة 1999, و الذي جاء كتمطلب لانضمام الاردن لمنظمة التجارة العالمية
(W.T.O.) ولاتفاقية تريبس (TRIPS) التي تعنى بحماية حقوق الملكية الفكرية، قد استطاع أن يلبي معظم المتطلبات الدولية فيما يخص حماية العلامة التجارية وذلك من خلال اعترافه بالعلامة التجارية الخدمية (Service Mark) والعلامة التجارية المشهورة (Well-known Mark) والعلامة التجارية الجماعية (Collective Mark) وذلك إلى جانب علامات السلع والبضائع (Goods Mark).
ثانيا: أن قانون العلامات التجارية قد وفر حماية مدنية كاملة للعلامة التجارية المسجلة من حيث طلب التعويض، وقف التعدي، الاعتراض على تسجيل العلامة التجارية وشطب (ترقين) العلامة التجارية، أما العلامة التجارية غير المسجلة فإن الحماية المدنية لها غير متوافرة، إذ لا يحق للمتضرر طلب تعويضات جراء التعدي على علامته التجارية غير المسجلة (م 34) ولا يجوز له طلب وقف التعدي (م 39) .
ثالثا: أن القانون المعدل لقانون العلامات التجارية رقم (34) لسنة 1999 رغم قيامه بتعديل معظم نصوص قانون العلامات التجارية لسنة 1952 انسجاما مع انضمام الاردن لمنظمة التجارة العالمية، إلا أنه أبقى على نص المادة (34) من قانون العلامات التجارية كما هو، والتي اشترطت تسجيل العلامة التجارية في المملكة لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها رغم انتقاد هذا الشرط من قبل الفقه التجاري خاصة وأن اتفاقية تريبس لم تشترط تسجيل العلامة التجارية لإمكانية المطالبة بالتعويض جراء التعدي عليها.
رابعا: أن قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية رقم (15) لسنة 2000 قد اعتبر من قبيل اعمال المنافسة غير المشروعة تلك المتعلقة بعلامة تجارية مستعملة في الأردن سواء كانت مسجلة أو غير مسجلة ما دامت تؤدي إلى تضليل الجمهور. هذا بالإضافة إلى أن المادة (256) من القانون المدني الأردني تعطي الحق لمن وقع عليه اعتداء في علامته التجارية أن يطالب بالتعويض وفقا للمبادئ العامة في المسؤلية المدنية.
خامسا: للمطالبة بالتعويض جراء التعدي على علامة تجارية مسجلة أم غير مسجلة لا بد من إقامة دعوى المنافسة غير المشروعة، وهذا يتطلب أولا ان يكون المعتدى عليها علامة تجارية بالمعنى الذي يقصده القانون وذلك من خلال استكمالها لمجموعة من الشروط الموضوعية (إذا كانت العلامة التجارية مسجلة وغير مسجلة) واستكمالها للشروط الموضوعية والشروط الشكلية معاً(إذا كانت العلامة التجارية مسجلة فقط). ولقيام دعوى المنافسة غير المشروعة لا بد من قيام عناصر المسئولية المدنية وهي: -الفعل، الضرر وعلاقة السببية. ويتمثل الفعل في حالة التعدي على علامة تجارية باستعمال ذات العلامة أو علامة مشابهة من قبل تاجر آخر دون إذن مالك العلامة التجارية أو محاولة استخدام العلامة في الإعلان والتسويق لمنتجاته. أما الضرر فلا بد أن يكون محقق الوقوع بأن يكون قد وقع بالفعل أو سيقع حتميا في المستقبل، وقد يكون الضرر مادياً يصيب التاجر في ذمته المالية أو معنوياً يصيبه في سمعته وسمعة منتجاته، والضرر المعنوي هو ضرر متحقق دائماً بمجرد حصول واقعة الاعتداء على علامة تجارية وذلك من خلال عزوف الناس عن التعامل بالمنتجات التي تحملها علامته التجارية وهذا يؤدي الى انخفاض مبيعات التاجر وخسارته، كما لا بد من توافر علاقة سببية ما بين فعل التعدي على العلامة التجارية والضرر الذي اصاب المعتدى على علامته .
وعلى ضوء النتائج السابقة, فاننا نقترح ما يلي:-
أولأ:- تعديل المادة (34) من قانون العلامات التجارية الأردني بحيث تعطي الحق لكل متضرر المطالبة بالتعويض في حالة التعدي على علامته التجارية سواء أكانت تلك العلامة التجارية مسجلة أم غير مسجلة.
ثانيا:- الغاء نص المادة (2/ب) من قانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية التي عالجت موضوع العلامة التجارية غير المسجلة في الأردن لأنها ستعتبر تكرار لا مبرر له في حالة تعديل المادة (34) من قانون العلامات التجارية الأردني.
1 person likes this.
بحث قانوني عن نظرية الحوادث الطارئة في القانون .
يرجع أصل نظرية الظروف الطارئة الى القانون الكنسي , حيث كان الفقهاء الكنسيون يحرمون الغبن في العقود ,سواء كان ذلك في تكوين العقد , او في تنفيذه . فهو في الحالين ضرب من الربا المحرم , كما وجدت هذه النظرية لدى رجال الفقه الاسلامي في نطاق بعض العقود , وعلى العقد عقد الايجار , وفي القانون الفرنسي القديم ادى الاخذ بمبدأ سلطان الارادة الى اندثار نظرية الظروف الطارئة , اذ هي تتيح للقاضي ان يعدل العقد بناء على طلب احد المتعاقدين دوء رضاء الاخر , وفي ذلك اهدار للقوة الملزمة للعقد.
وقد حاول جانب من الفقه الفرنسي ان يجد لها سندا من المبادي العامة في القانون المدني , فقد قيل اولا : أنها تقوم على اساس شرط ضمني في العقد ,مقتضاه بقاء الظروف على حالها , ويراد به ان المدين ما رضي بالالتزام إلا على اساس بقاء الظروف التي عقد فيها العقد على حالها دون تغيير . وقد كان هذا هو الاساس الفني للنظرية في الفقه الكنسي , وقيل ثانيا أن أساسها هو نظرية الغبن : فلئن كان المشرع يجازي الغبن الواقع عند تكوين العقد , فيتعين ايضا ان نجازي الغبن الطارئ عند تنفيذه . وقيل ايضا ان اساسها فكرة الاثراء بلا سبب : فالدائن يثري على حساب المدين بدون سبب , اذ هو يتمسك بتنفيذ العقد المرهق للمدين ارهاقا ثقيل الوطأة , وارتكز البعض على فكرة عدم جواز التعسف في استعمال الحق : فالدائن الذي يطلب التنفيذ.
غير آبه بما يتهدد المدين من خسارة فادحة . انما يتعسف في استعمال حقه . الامر الذي يستتبع مسؤوليته .
ولم يكن في اي من هذه المحاولات ما يقنع القضاء المدني بتقبل نظرية الظروف الطارئة بغير نص تشريعي تقوم عليه . فشرط بقاء الظروف على حالها لا يخرج عن كونه شرطا مفترضا , لم تنصرف اليه ارادة المتعاقدين الحقيقية , ثم ان الغبن الذي يعرفه القانون هو الغبن الواقع عند ابرام العقد ,لا عند تنفيذه . هذا الى ان القانون لا يجازي على الغبن . الا استثناء , فلا يجوز التوسع فيه , والاثراء الذي يحققه الدائن , نتيجة لتغير الظروف , ليس بغير سبب , بل ان لإثرائه سببا موجودا هو العقد ذاته وأخيرا فإن الدائن الذي يقتصر على المطالبة بالحق الذي يخوله له العقد هو متبصر لا متعسف , فلا يمكن ان ينسب اليه سوء نية او تعسف , ولذا لم تلق نظرية الظروف الطارئة قبولا لذى اغلبية فقهاء القانون المدني , ورأى فيها الكثيرون تهديدا خطيرا لاستقرار التعامل . كما اطرد قضاء محكمة النقض في فرنسا على عدم الاخذ بها , وما زالت ايضا ترفضها محكمة النقض البلجيكية , خلافا للقضاء الايطالى والقضاء الالماني
وعلى العكس مما تقدم , فقد ازدهرت نظرية الظروف الطارئة في مجال القانون الاداري , و أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي , منذ الحرب العالمية الاولى .منذ حكم صادر في 30/6/916
حيث اجاز لشركة الكهرباء المطالبة برفع سعر توريد الكهرباء , وقد ساعد القضاء الاداري على الاخذ بالنظرية سببان:
اولا: ان النوازل التي تعرض عليه تتصل بالمصلحة العامة , وفي هذا ما يجعله يحرص على التوفيق بين القواعد القانونية ومقتضيات المصلحة العامة , فاذا تعلق الامر بمرفق عام كان الاولى مراعاة جانب من يتولى ادارة هذا المرفق ,كي يتسنى له مواصلة عمله , لأنه لو تعرض لخسارة فادحة , لانتهى الامر الى تعطيل سير المرفق العام ذاته , وحرمان الجمهور من خدماته.
ثانيا: ان القضاء الاداري ليس مقيدا بنصوص تشريعية . فهو يتمتع بحرية لا يتمتع بها القضاء العادي , الامر الذي هيأ له السبيل ان يراعي الظروف , ويساير التطور
وقد اخذت النظرية تظهر في العديد من القوانين المدنية لاحقا
الاساس الذي تقوم عليه هذه النظرية : يذهب البعض ان هذه النظرية تقوم على اساس ضرورة التعادل الاقتصادي بين الالتزامات المتقابلة في العقود الملزمة للجانبين , والحجة اختلال التعادل غير كاف لتطبيق نظرية الاستغلال , ويذهب اخرون الى ان اساس النظرية هو النية المفترضة عند المتعاقدين في استمرار بقاء التعادل الشخصي , الذ كان موجودا وقت ابرام العقد , ويرد على هذا ان المشرع لم يأمر برد الاعتبار الالتزام المرهق الى الحالة التي كان عليها وقت ابرام العقد , بل اقتصر على رده الى الحد المعقول , و الواقع ان اساس النظرية هو العدالة.
.
*شرح القانون المدني .النظرية العامة للالتزام :د وحيد الدين سوار
5 people اعجبت بهذا
بحث قانوني مميز عن أثر ظهور القوانين على القضاء في البلاد الاسلامية .
أ* عبد الله كامل
بسم الله الرحمن الرحيم
تاريخ القضاء في البلاد الإسلامية قبل ظهور القوانين
اول من تولى القضاء في الاسلام هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمر من رب العباد في قوله تعالى : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله )المائدة 48 , وتولى هذه المهمة خلفاؤه من بعده , كما أسندوها إلى من يحسن القيام بها من اهل العلم والفقه.
ومهمة القضاء الفصل بين الناس فيما يقع بينهم من خصومات , ولولا القضاء لانتشر الفساد , وساد الظلم و الطغيان , وعسر على الناس العيش في هذه الحياة .
وكانت الشريعة الاسلامية هي مرجع القضاة في الديار الاسلامية في مسائل الاحوال الشخصية و في غيرها .
والمرجع الرئيس لهذه الشريعة المباركة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,وكان من السهل على علماء المسلمين و قضاتهم الرجوع الى نصوص الكتاب والسنة , فأكثرهم يحفظ القرآن , وله اطلاع واسع على كتب السنة.
وقد جمعت النصوص التي تقرر الاحكام التشريعية ” القانونية” في مدونات خاصة , فالنصوص القرآنية تدعى بآيات الاحكام , والأحاديث النبوية في هذا الموضوع تدعى بأحاديث الاحكام , وقد انتدب بعض اهل العلم انفسهم لشرح هذه المدونات , منها احكام لقرآن للجصاص , ونيل الاوطار شرح احاديث منتفى الأخبار للشوكاني , وسبل السلام للصنعاني .
ودون الفقهاء المدونات الفقهية التي تعرض للأحكام الشرعية في مختلف الموضوعات , و أختلف الفقهاء فيما بينهم في كثير من الاحكام , و تشكلت المذاهب الفقهية , و وقع الخلاف بينها , بل وق الاختلاف في المذهب الواحد.
وقد شغل الخلاف في الاحكام التي تصدر عن القضاة عقول المسلمين على مر التاريخ , و ارتأى بعض المسلمين ان السبيل لتوحيد المسلمين هو جمعهم على كتاب واحد او على مذهب واحد .
وقد حكمت كثير من الدول بمذهب واحد من مذاهب ائمة الفقه بهدف توحيد الاحكام ,ونال المذهب الحنفي القسط الاوفر من ذلك , فقد كان المذهب المعتمد في الدولة العباسية , والدولة العثمانية , وكان القضاة يرجعون – في الاغلب – الى الراجح من مذهب ابي حنيفة , وكان الحكم في الاندلس على مذهب الامام مالك , ولا يزال القضاء في المملكة العربية السعودية على مذهب الامام احمد الى اليوم .
و التقيد بمذهب فقهي واحد , وعدم جواز العدول عنه الى غيره , احدى المسائل التي دار حولها خلاف كبير بين العلماء , فالمقلدون يُلزَمون باتباع مذهب واحد , وقد ساد هذا التوجه زمنا طويلا , وحصرت كل فئة من المسلمين نفسها في اطار مذهب فقهي واحد , وقد احدث التوجه الذي اخذ به قانون حقوق العائلة وهو الاخذ من المذاهب الاخرى خلافا و جدلا لا يزال قائما بين العلماء .
والصواب من القول ان المذاهب الفقهية لأهل السنة والجماعة بمثابة مذهب واحد يؤخذ منها الحكم الاقوى دليلا , ولا يجوز الاخذ من المذاهب المختلفة بمجرد التشهي و الاستحسان العقلي الذي لا يقوم على منهج الاستدلال الذي قرره العلماء
(الواضح في شرح قانون الاحوال الشخصية الاردني ,د. عمر الاشقر )
لماذا لا تكون اول معجب
بحث قانوني عن كيفية تحقيق الوقف لمقاصد الشريعة .
د. علاء الدين حسين رحّال / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة اليرموك
أ.د أحمد محمد السعد / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة اليرموك
ملخص
تناولت الدراسة موضوع الوقف وحفظ مقاصد الشريعة فأظهرت بشكل تفصيلي كيف حقق الوقف مقاصد الشريعة في حفظ الكليات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
وأبرزت الدراسة أن الحفاظ على الكليات الخمس له ثلاث مراتب، مرتبة ضرورية تتعلق بالحفاظ على أصل الكليات الخمس، ومرتبة حاجية تتعلق بجلب معاني التيسير والرفق للكليات الخمس، ومرتبة تحسينية تتعلق بجلب معاني التزيين والجمال لها.
وأظهرت الدراسة أن الشريعة أعطت الحق للواقف بأن يشترط ما يشاء في وقفه شريطة أن لا تتعارض شروطه مع مقاصد الشريعة وأن حكمة الشرط تكمن في تكميل مصلحة المشروط.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق وسن لهم الشرائع، إنما أراد المصلحة والمنفعة لهم، ودفع المفسدة والمضرة عنهم. وتضمنت شرائعه سبحانه دعوة واضحة إلى المصالح العاجلة في الدنيا، والسعادة الأبدية في الآخرة. فما من حُكم إلا فيه مصلحـة “ما أمر الله بشيء إلا فيه مصلحة عاجلة أو آجلة أو كلاهما ، وما أباح شيئا إلا فيه مصلحة”([1])، لأن “الشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا قرأت قول الله: “يا أيها الذين آمنوا” فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه، أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحثّ والزجر”([2]).
لكن قد يَقصر فهم بعض الناس عن مقصود الشرع، فيظهر لهم أن الشرع قد أوجب ما يظن أنه مفسدة، وألغى بعض ما يتوهم أن فيه مصلحة.
إلا فيه مصلحة عاجلة أو آجلة أو كلاهما، وما أباح شيئا وقد جعل الله سبحانه للأحكام الشرعية عللاً وحكماً، إذا تبصّرها الإنسان بعقله وأدركها ببصيرته ووعاها تمام الوعي، استطاع أن يستنبط الأحكام الشرعية، وأن يفهم من النصوص المقصد الشرعي فيجري في حياته على هداها. وتدور مقاصد الشريعة حول الأمور العامة التي استهدفتها الشريعة الإسلامية وقصدت إلى حفظها في الناس، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات.
ويُعدّ المال أحد الضروريات الخمس التي قصدت الشريعة المحافظة عليه وحمايته، فقد جعله الله قوام الحياة في قوله تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً)[5: النساء]، فعلى المسلم أن يتصرف بماله كسباً وإنفاقاً فيما أباحته الشريعة الإسلامية.
فالمال يباح إنفاقه إما على النفس وعلى من تعول، أو على العبادات من غير إسراف ولا تقتير ولا تبذير، وإما أن ينفق في الصدقات والمروءات، ووقاية العرض والأهل، وإما أن يصرف في وجوه البر كالوقف.
وإنفاق المال في الوقف له مقاصده ومصالحه وهذا يتبين من خلال استقراء صور الوقف التي تمت في عصر الرسالة وعصر الخلافة الراشدة وعلى مدار العصور الإسلامية، فيقف المسلم على مقاصد الوقف ومراميه الإنسانية والاجتماعية.
فللوقف مقاصد متعددة دينية واجتماعية وصحية وعلمية، وهو كأحد أحكام الشريعة الإسلامية يرتبط إلى حد كبير مع الخطاب القرآني العالمي، الذي تظهر أهميته في ضوء التعاليم الكلية، والتي تدور في محاور إنسانية شاملة واسعة (يا بني آدم)، (يا أيها الناس)، ولعل من أهم ما يمّيز الوقف أنه أداة تكميلية لمدخلات البر والإحسان إلى جانب الزكاة وغيرها من أدوات التكافل الاجتماعي.
ونظراً للأهمية البالغة لفهم المقاصد العامة للشريعة فإن ثمة ما يدعو إلى محاولة الكشف عن الصلة الوثيقة التي ربطت كثيراً بين النظم الاجتماعية والاقتصادية في الخبرة الحضارية الإسلامية بالمقاصد العامة للشريعة، وفي مقدمة هذه النظم نظام الوقف. ومن خلال فهم مقاصد الشريعة يمكن ضبط شروط الواقف، لتظل محكومة بالمقاصد لا حاكمة لها ولا خارجة عنها. والوقف يضبط شروط الواقف بما يحقق مصلحة الواقف والموقوف عليه والوقف.
وقد قمنا في بحثنا هذا بتعريف الوقف لغة واصطلاحاً، ثم عرّفنا مقاصد الشريعة لغة واصطلاحاً، وأفردنا فرعاً لتأصيل المقاصد، وذكرنا تفصيلاً مجالات الوقف وعلاقتها بالمقاصد الشرعية وكيفية تحقيقها في حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات بصور تطبيقية من حضارتنا الإسلامية، ثم بيّنا دور المقاصد الشرعية في فهم شروط الواقف وضبطها.
المبحث الأول تعريف الوقف والمقاصد لغة واصطلاحاً وتأصيلاً
نتناول في هذا المبحث تعريف الوقف لغة واصطلاحاً، ثمّ تعريف المقاصد لغة واصطلاحاً، ونعرّج على تأصيل المقاصد في ثلاثة مطالب: المطلب الأول لتعريف الوقف لغة واصطلاحاً، والمطلب الثاني لتعريف المقاصد لغة واصطلاحاً، والمطلب الثالث لتأصيل المقاصد.
المطلب الأول: تعريف الوقف لغة واصطلاحاً:
الوقف لغة الحبس والمنع وهو مصدر لقولك: وقفت الدابة ووقفت الأرض على المساكين، والجمع أوقاف([3]). وقد عرّف الفقهاء الوقف عدة تعريفات متقاربة، يكاد لا يخلو كتاب فقهي منها، منها ما ذكره ابن نجيم إذ عّرف الوقف بأنه: “حبس العين على ملك الواقف والتصدّق بالمنفعة”([4])، وعرّفه المالكية بأنه “إعطاء المنافع إما على سبيل التأبيد أو على مدة معينة ثم يرجع ملكاً”([5])، وعرّفه الشافعية بـ”حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصرف مباح”([6])، واختلاف الفقهاء في تعريف الوقف مبني على اختلافهم في بعض أحكام الوقف والتفريعات الجزئية، والتعاريف متقاربة بالنظر إلى جوهر حقيقة الوقف وهي تحبيس العين على وجه من وجوه الخير، وهو ما ذهب إليه الحنابلة في تعريفهم للوقف بأنه” تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة”.([7]) فهو مستمد من المعنى اللغوي للوقف، وهو الحبس، ومستمد من نص الحديث: “إن شئت حبست أصلها وتصدقت بالمنفعة”([8]) ثم منه تتفرع الآراء الفقهية في مسائل الوقف. من حيث الملك والتأقيت والتأبيد واللزوم وعدم اللزوم، وغير ذلك من الأحكام.
المطلب الثاني: تعريف المقاصد لغة واصطلاحاً:
نتناول في هذا المطلب تعريف المقاصد لغة، ثم تعريف المقاصد اصطلاحاً في فرعين، الفرع الأول لتعريف المقاصد لغة، والفرع الثاني لتعريف المقاصد اصطلاحاً.
الفرع الأول: تعريف المقاصد لغة:
المقاصد من قصد، ومعانيها متنوعة عند أهل اللغة، ومن هذه المعاني: الإتيان، يقال: قصدت قصده، أي نحوت نحوه. ومنها الاستقامة: يقال اقتصد أمره أي استقام. (وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)[9: النحل]. وتأتي بمعنى الاعتدال والتوسط لقوله تعالى: (وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ)[32: فاطر]، متوسط بين الكثرة والقلة، وبين الإفراط والتفريط([9])، أي عدم تجاوز الحد. وفي الحديث:” القصد القصد تبلغوا”([10]) وعن جابر بن سمرة يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً”([11]) أي متوسطه بين الطول والقصر. وتأتي بمعنى العدل والإنصاف، وتأتي بمعنى الكسر والطعن([12]).
وتأتي أيضاً بمعنى القهر والجبر: يقال قصده أي جبره وقسره. وتأتي بمعنى السهولة، لقوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ)[42: التوبة]، أي سفراً سهلاً قريباً.
وأصل الكلمة واستعمالها عند العرب تعني الاعتزام والتوجه نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور([13]). وتوجد تفصيلات أخرى في المعاني يمكن الرجوع إليها في معاجم اللغة العربية.
الفرع الثاني: تعريف المقاصد اصطلاحاً:
تعددت تعريفات الفقهاء للمقاصد ، فعرفها ولي الله الدهلوي([14])، والطاهر بن عاشور([15])، وحمادي العبيدي([16])، ومحمد سعد اليوبي([17])، وعبد الرحمن الكيلاني([18])، ويوسف العالم([19])، ووهبه الزحيلي([20])، والريسوني([21])، وخليفة بابكر الحسن([22])، ونور الدين الخادمي([23])، وعلاّل الفاسي([24]). ووجدنا هذه التعريفات متقاربة بين موجز ومطول، ومن الممكن أن نستخلص تعريفاً من مجموعها.
فالمقاصد هي: الغايات والأهداف التي وضعها الشارع عند كل حكم لتحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية، أو هي: مصالح العباد التي اتجهت لتحقيقها التشريعات الإلهية.
ومن الألفاظ ذات الصلة بالمقاصد (العلة والحكمة). فالعلة هي العلامة الدالة على الحكم، بمعنى الباعث، أي المشتملة على حكمة صالحة تكون مقصود الشارع من شرع الحكم([25])، والحكمة هي التي لأجلها تكون العلة ويوجد الحكم([26])، أو هي ما تعلقت به عاقبة حميدة([27]).
المطلب الثالث: تأصيل المقاصد:
نعني بتأصيل المقاصد، البحث في الأدلة الشرعية الدالة على اعتبار المقاصد، وهي إما أن تدل عليها النصوص، أو نستدل عليها بالاستقراء، أو من فهم الصحابة.
وقد ورد في القرآن الكريم نصوص عامة تشير إلى اعتبار المقاصد في أفعال المكلفين، فكثير من الآيات اختتمت بقوله سبحانه: (لعلكم تتقون)، و(لعلكم تعقلون) و(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[2: الملك] و(لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ)[150: البقرة]. و(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)[190: آل عمران]، وقوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [56: الذاريات]. و(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [107: الأنبياء].
وفي القرآن الكريم نصوص تخص جزئية بعينها، وتشير إلى مقصد الشرع من هذا الحكم، مثل قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [45: العنكبوت]، وقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [14: طه14]، فهذه تشير إلى المقصد من شرعية الصلاة وفرضيتها.
وعن الزكاة يقول تعالى:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[103: التوبة]. وعن الحج جاءت الآيات تبين المقاصد الشرعية التي من أجلها فرض الحج في قوله تعالى:(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)[28: الحج]، وفي قوله تعالى:(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[29: الحج].
وعن المال يبين القرآن الكريم وجوب إنفاقه ودفع الحقوق الواجبة فيه، حتى لا يبقى هذا المال في يد فئة قليلة من الناس ويحرم منه غيرهم، في قوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ)[7: الحشر].
إضافة إلى نصوص أخرى كثيرة مبثوثة في القرآن الكريم والسنة المطهرة يصعب حصرها. ومن السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”([28]). وقوله صلى الله عليه وسلم:”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”([29]). هذه النصوص تشير إلى الغاية التشريعية من الحكم.
ولم يغفل المسلمون مراعاة العرف الصحيح والعادة الحسنة عند تقرير الأحكام، فلم يقفوا عند حدود الألفاظ والصيغ، بل كان مقصدهم تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وكثيراً ما كان يعدل بعض الفقهاء عن رأي أدى إليه اجتهاده، إلى رأي آخر حين ينتقل من مكان إلى آخر، أو يرتحل من بلد إلى آخر دون أن يتناقض اجتهاده مع نص من الكتاب والسنة، أو يتعارض مع إجماع المسلمين.
ومن هنا يتبين بأن الشريعة الإسلامية قامت لرعاية المصالح في الأحكام العامة والخاصة، ومن يقصر الحكم على ظاهر النص، يعدّ ذلك قصوراً عن فهم الشريعة ودلالات الألفاظ. ويشير إلى هذا قول ابن القيم:” والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصودة للمعاني، والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى، وقد يكون اللفظ أقوى، وقد يتقاربان”([30]).
ويؤكد ذلك الشاطبي بقوله: “كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو في العبارة بل التفقه أو التفكر في المعبّر عنه، والمراد به، هذا لا يرتاب فيه عاقل”([31]).
وكما هو ملاحظ اليوم، فإن أي قانون تصدره الحكومات، فإنه يرافقه مذكرات تفسيرية وإيضاحية تبين المقصد من تشريع القانون بوجه عام، وتبين المقصد الخاص من كل مادة من مواده، وهي تشكّل عوناً لرجال القضاء على فهم القانون وتطبيقه بنصوصه وروحه ومعقوله([32]).
المبحث الثاني مجالات الوقف وعلاقتها بالمقاصد الشرعية
تمهيد:
إن حصر وتصنيف المقاصد في الفكر الأصولي قد تحدّث عنه بعض الباحثين المعاصرين وهو ليس مجال الدراسة في بحثنا لكن نعرّج عليه بما يخدم البحث أي الإفادة من التقسيم الأصولي للمقاصد الشرعية، والتقسيم الذي اشتهر به الغزالي هو التقسيم الثلاثي أي تقسيم المقاصد الشرعية إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات وذكر تعريفاتها والتمييز بين رتبها([33])وتعريف رتب المقاصد كما ورد عند الشاطبي على النحو الآتي:
الضروريات (المصالح الضرورية): “المصلحة التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين”([34]). فالضروريات هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها، ويؤول حال الأمة بانحرافها إلى فساد وتلاش([35])، فلا بدّ منها لمصالح الناس ديناَ ودنيا، فوجودها يعني استقرار الحياة ودوامها، وفقدانها يعني توقف الحياة.
الحاجيات (المصالح الحاجية): “فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة”([36]).
التحسينيات “فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق”([37]).
فالضروريات هي أقوى المراتب وأعلاها([38]). وقد برع الشاطبي([39]) في بيان علاقة هذه المراتب فيما بينها، وبيّن القواعد التي تحكم هذه العلاقة، بحيث تظهر كل قاعدة العلاقة بين المرتبة والأخرى ومدى تأثيرها فيها، وقد حاول بعض المعاصرين وضع قواعد للتمييز بين مراتب المقاصد ونذكرها باختصار وهي:
1- إن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي([40]). مع أن الضروريات وإن كانت أصلاً للحاجيات والتحسينيات فإنها ليست على وزان واحد.
2- إن اختلال الضروري يلزم عنه اختلال الباقيين بإطلاق([41]).
3- لا يلزم من اختلال الحاجي والتحسيني اختلال الضروري([42]).
4- إنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما([43]).
5- إنه ينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني للضروري([44]).
المطلب الأول: مجالات الوقف التي تحقق الضروريات:
لقد ثبت أن مقصد الشريعة من التشريع حفظ نظام العالم، وضبط تصرف الناس منه على وجه يعصم من التفاسد والتهالك([45])، حيث قال ابن عاشور في مقصد الشريعة: “إنما هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان”([46])، والصلاح لا يتحقق إلا بجلب المصالح ودرء المفاسد لهذا الإنسان، وحيث إن الوقف هو أحد التشريعات التي تهدف إلى تحقيق الصلاح للإنسان ومن حوله، فإن الوقف بهذا المعنى يدخل ضمن المصالح التي تندرج في مقاصد الشريعة.
وقد مثّل الغزالي في المستصفى، ثم الشاطبي في الموافقات([47])، لهذه الضروريات في خمسة أمور هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. إذ قال الغزالي: “ومقصد الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم”([48]). مع الإشارة إلى أن للأصوليين تفصيلات حول هذا الترتيب وحصره([49]). وإن جزم الكثير من الأصوليين بأن المقاصد الضرورية تنحصر في المحافظة على الخمسة المذكورة([50]).
وقد بيّن الشاطبي أن حفظ هذه الضروريات يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أصل وجودها على سبيل الابتداء والإبقاء على سبيل الدوام، والثاني: ما يدفع عنها الإخلال الذي يعرض بدفع القواطع([51]). أي أن تتم مراعاتها من جانبين: الوجود والعدم.
والكليات الخمس وترتيب المقاصد إلى ثلاث مراتب متداخلان، فالحفاظ على الكليات الخمس له ثلاث مراتب، مرتبة ضرورية تتعلق بالحفاظ على أصل الكليات الخمس، ومرتبة حاجية تتعلق بجلب معاني التيسير والرفق للكليات الخمس، ومرتبة تحسينية تتعلق بجلب معاني التزيين والجمال للكليات الخمس.
ونشرح في الفروع الخمسة التالية كيفية تحقيق الوقف للضروريات الخمس، وما هي المجالات التي راعاها، والحفاظ هنا سيكون بالمحافظة على أصل هذه الخمس. مع التأكيد على أن الخمس كما هي موجودة في الضروريات فهي موجودة في الحاجيات والحفاظ عليها يكون بما يتعلق بجلب معاني التيسير والرفق، والحفاظ على التحسينيات يكون بجلب معاني التزيين والجمال، لكننا سنفصل في الضروريات ونجمل عند الحديث عن الحاجيات والتحسينيات.
وكمثال لهذا نقول إن حفظ الدين على ثلاثة مراتب: الضروري منه وهو بناء المساجد، والحاجي منه وهو إصلاح المساجد وتعيين المؤذّنين وغيرهم، أما التحسيني فكتزيين المساجد وفرشها بالسجاد وطلاء جدرانها([52]). ومن خلال المثال يتضح أن حفظ الدين له مراتب فبناء المساجد مقصد ضروري لحفظ الدين لا بدّ منه، يليه إصلاح المساجد وتعيين المؤذنيين والوقف لهم وهو حاجي، ثم تزيين المساحد وفرشها وهو تحسيني.
الفرع الأول: الوقف وحفظ الدين:
تعدّ المساجد المعلم الأهم لحفظ الدين وقد ساهم الوقف على المساجد ببنائها وإنشائها بحفظ الدين، وساهم الوقف من خلال تأسيس المدارس الدينية المحضة بحفظ الدين كذلك([53])، وقد حافظت هذه الأوقاف على الدين من جانبين: من جانب الوجود فساعدت على نشر الدين، وإبقائه على سبيل الدوام، وزرع العقيدة السليمة في النفوس، وغرس الأخلاق التي دعى إليها الإسلام. ومن جانب العدم فالوقف على المساجد منع أي وسيلة من شأنها أن تفسد اعتقاد المسلم بدينه.
وتعدّ الأوقاف التي حبست لبناء المساجد وإنشائها، من أهم العوامل التي حافظت على حفظ الدين ونشره، وكذلك العطاء الذي خصّص لبعض زوايا المسجد، والأوقاف التي خصّصت لتوسعة بناء المسجدين (المسجد الحرام والمسجد النبوي) ورعايتهما، وكذلك المسجد الأقصى الذي حظي باهتمام الواقفين، فالكثير من الوقفيات تشترط الإنفاق على الحرمين الشريفيـن أولاً ثم على المسجد الأقصى، ثم على المساجد الأخرى([54]).
ومن المؤسسات الدينية التي كان لها أثر في حفظ الدين “الرِّبط والزوايا والتكايا”، والرّبط هي محل إقامة للفقراء المتصوفة، وأماكن للعبادة والتزهد([55])، والتكايا هي مباني يسكنها الدراويش الذين ليس لهم كسب، وإنما مرتبهم من أوقاف التكية.
وقد استمر هذا الوقف إذ لا توجد دولة عربية أو إسلامية إلا وفيها وزارة أوقاف أو ما شابه تقوم ببناء المساجد لحفظ الدين كمقصد ضروري، إضافة إلى اهتمام الوزارة بالأمور الأخرى([56]).
ولحماية الدين وجدت أوقاف للجهاد والتسليح، فالإنفاق على الجهاد من القربات الرئيسة، فهناك أوقاف للسلاح، وأوقاف للثغور (قلاع وأبراج وأسوار) على المدن والقرى لحمايتها من العدوان الخارجي، وأوقاف لتجهيز الجيوش([57]).
الفرع الثاني: الوقف وحفظ النفس:
يعدّ الوقف من أهم الأدوات المساعدة التي شرعها الإسلام للمشاركة في ضمان الضروريات الأساسية، بوصفها ضروريات غير مقصودة بذاتها، وإنما هي مقصودة لحفظ النوع الإنساني وأهم هذه الضروريات التي يدعمها نظام الوقف لحفظ النفس: المطعم، والملبس، والمسكن([58]).
فكان هناك وقف على مياه الشرب، ووقف على إعداد الطعام وصنعه وتوزيعه، ووقف على الملابس والأكسية، ووقف على المساكن والشقق، فهذه من الضروريات اللازمة لحفظ النفس الإنسانية. وقد أخذ وقف الطعام أشكالاً ثلاثة: “الإطعام الدائم، والإطعام في المناسبات الدينية كشهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى، وما أوقف لصرف غلته في شراء مواد غذائية توزّع على بيوت الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام والغرباء”([59]).
وأشهر أوقاف الطعام وأقدمها، وقف تميم الداري في مدينة الخليل، حيث شمل الوقف أربعة قرى هي: الخليل والمرطوم وبيت عينون وبيت إبراهيم، وكان مدخول هذا الوقف يستخدم عادة في توفير الحساء والخبز وإطعام المحتاجين والمسنين في مدينة الخليل([60]). وقد ظهر الوقف على السكن لحفظ النفس كوقف الخيمة أو الكوخ([61]).
وقد ساهم الوقف في توفير كفاية النفس مما يحتاجه الجسد من طعام، وشراب، ولباس، ومسكن، ووقاية من الأمراض السارية والمخاطر التي تؤدي بالنفس كالحريق والغرق وغيرها من الوسائل التي لا يتم حفظ النفس إلا بها، والتي تأخذ حكم المقصد الضروري([62])، فيعدّ الوقف من قبيل تلبية حاجات المحتاجين الأصلية، والتخفيف عنهم في مجال الفقر والجهل والمرض([63])، وأحد الوسائل الهادفة لحفظ النفس الإنسانية. فالوقف حافظ على النفس من جانبي الوجود والعدم.
فأمّن للنفس الطعام والشراب واللباس والمسكن، أي وضع الضمانات لحفظ النفس. ومن الأوقاف التي اهتم بها المسلمون لحفظ النفس المياه التي تشكّل روح الحياة وأساس كل شيء حي لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[30: الأنبياء]. وأشهر هذه الأوقاف وقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة، ثم أصبحت السبل والسقايات من الأوقاف التي حفلت بها المدن الإسلامية لتوفير ماء الشرب لعابري السبيل. ومن أشهر هذه السبل والعيون، أسبلة مدينة سمرقند، بحيث يندر أن يوجد خان أو محلة أو طرف سكة أو مجمع ناس يخلو من ماء سبيل. ومن ذلك أيضاً عين زبيدة زوجة هارون الرشيد التي أرسلت المهندسين الذين عملوا على شق طريق تحت الصخور لتوصيل الماء إلى أهل مكة من عين حنين إلى الحرم. كما حظي القدس الشريف بعناية أهل الخير من الحكام الذين عملوا على توصيل المياه إلى المدينة عن طريق عين العروب، إضافة إلى حفر الآبار ووقفها، وانتشر وقف الأسبلـة في معظم المدن الإسلامية كالقاهرة وقرطبـة ومعظم مدن الغرب الإسلامي([64]).
وساهم الوقف في تأمين النفس من الأمراض والمخاطر التي تُودي بها، فوقف للمستشفيات. وأوّل مستشفى بدأ بالخيمة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم لرفيدة الأسلمية رضي الله عنها، حيث كان الناس يتداوون فيها بدون مقابل. ثم المستشفى الذي بناه الوليد بن عبد الملك سنة 88ه. حيث نقل الأطباء العرب نظام المستشفيات الذي نشأ قبل الإسلام في بلاد فارس. ثم ازدهرت هذه المستشفيات في العهد العباسي، وانتقلت مراكز الثقافة والطب إلى بغداد. ثم تتابع الأمر حتى غصت حواضر الإسلام بهذه المنشآت، وحبست عليها الأوقاف الدارة حتى إن في قرطبة وحدها كان يوجد أكثر من خمسين مستشفى([65]).
ولو أردنا أن نتتبع المستشفيات في المدن الإسلامية والخدمات التي كانت تقدّمها للمرضى، واهتمام الخلفاء والأمراء بها لاحتاج الأمر إلى مجلدات، لكن هذا كله يدل على مدى اهتمام الأوقاف بحفظ النفس التي تعدّ من الضرورات الخمس التي طالب الإسلام بحفظها.
الفرع الثالث: الوقف وحفظ العقل:
العقل مناط التكليف وضرورة لا بدّ منها لبناء المسلم الصالح النافع القادر على المساهمة في خدمة مجتمعه وخدمة دينه ونفسه، لذا لم يغفل الإسلام الاهتمام بالعقل وتنميته. وللوقف إسهامات واضحة وملموسة في حفظ العقل. فالوقف أسهم إسهاماً رئيساً في ذلك بعدة وسائل منها: الوقف على المكتبات ودور العلم، باعتبار أن الكتاب هو الأساس في بناء الشخصية العلمية، وتربية الأجيال الناشئة، والوقف من أجل انعاش الحقل العلمي، وبناء أماكن للدراسة، ومحافل العلم والمدارس، والصرف على مستلزماتها والقائمين عليها من أساتذة ومدرسين([66]).
فالوقف قد حافظ على العقل من جانبي الوجود والعدم. فأمّن للعقل كل ما ينهض به ويعلي من شأنه من وقف المدارس والجامعات والبحوث، وأطلق العقل للعمل والتفكير وفق أحكام الشريعة ومقاصدها.
وقد نشأ بجانب بعض المساجد ما سمي بالكُتّاب، فكان الناس يتعلمون أمور دينهم وعلومهم فيها، فالعلم يحفظ العقل من الخرافات والثقافات الفاسدة، ويزوّد الإنسان بالفضائل والقيم والمثل العليا، مما يجعل الفرد نافعاً ومؤثراً ومنتجاً([67]).
ولو ذهبنا نحصي الكتاتيب التي تم إنشاؤها لنشر العلم بكل صنوفه وأشكاله لعجز الباحث عن إحصائها. هذا إضافة للمكتبات التي تم وقفها ورعايتها وتزويدها بالكتب، كل ذلك لحفظ العقل وتنميته([68]).
وقد حمى الوقف العقل من التعطيل والجهل والخمول والتقليد([69])، عن طريق وقف المدارس والمعاهد العلمية والجامعات، حيث كان لها الأثر في حفظ العقل من الجهل بتعليم الإنسان كل ما يلزمه ويلزم أمته من فقه وحديث ولغة ونحو وطب وإدارة، وشمل التعليم الرجال والنساء والأطفال، وحتى المماليك والعبيد والإماء والأيتام واللقطاء، وانتشرت الثقافة بين البوابين والفراشين؛ لأن شروط الوقفيات سهلت لهم ذلك. وكثير من العلماء والفقهاء الذين خدموا الدّين تلقوا تعليمهم وثقافتهم من خلال هذه المدارس والمكتبات الوقفية([70]).
ولمّا كان التعليم غير معتمد على الدولة، فقد نهض الوقف بهذه المهمة، واعتمد العلم على ما يوقفه المحسنون من المسلمين، وكان لهذا الوقف أثر في بناء شخصية وعقلية العالم والفقيه، فكان الواحد منهم يتمتع بالاستقلال المادي ومن ثمّ الاستقلال الفكري، معتمدين على أموال الوقف التي تغدق عليهم. وقد تمتع المسلمون بحرية البحث العلمي بدون خوف من انقطاع الموارد الوقفية كما هو الحال مع الخوارزمي وابن سينا والرازي، إذ إن كثيراً من بحوثهم العلمية ما كانوا ليتوصلوا إليها إلا نتيجة لما خصص من أموال الوقف لهم، كما ساعدت الأموال الموقوفة على التعلم في تطوير الدراسات الأدبية والفلسفية في معالجة الأغراض المتعددة، ولمعالجة مشاكل العصر المطروحة، والإجابة عن الأسئلة الفقهية والاجتماعية، وفي صياغة أفكار جديدة أو استنباط حلول لمشاكل واجهت المجتمع الإسلامي في حينه([71]).
يقول ابن جبير عندما زار المشرق ورأى تعدّد المدارس والأوقاف عليها، ومدى الرفاه الذي ينعم به طلاب العلم مناشداً أبناء المغرب العربي إلى أن يرحلوا إلى الشرق لتلقي العلم: “تكثر الأوقاف على طلاب العلم في البلاد المشرقية كلها وبخاصة دمشق، فمن شاء الفَلاح من أبناء مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد فيجد الأمور المعينة على طلب العلم كثيرة وأدلها فراغ البال من أمر المعيشة”.([72])
ويمكن أن نقترح تخصيص جزء من أموال الوقف لمكافحة المخدرات ببناء مراكز التوعية والتثقيف لحماية العقل.
الفرع الرابع: الوقف وحفظ النسل:
النسل مهم في الحياة، وحفظه من الركائز الأساسية لعمارة الأرض، والنسل عنصر هام للجهاد الذي يحفظ الدين والنفس، وكلها من الضروريات الخمس، والنسل تكمن فيه قوة الأمة، وبه يباهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم. والإسلام حث على التناسل وعني بحمايته بوسائل عدة، ومنها الوقف.
فالوقف على الأبناء والذرية في أي ناحية من نواحيه، كحبس الأموال من أراضي وعقارات ونخيل لتوزع منافعها على أهل الواقف وذريته، ويبقى المال نفسه محبوساً لا يوزع، بل يتكرر عطاؤه موسماً بعد موسم وعاماً بعد عام([73])، فيتحقق فيه معنى الإحسان والبر، لأنه بر بالأجيال القادمة وزيادة في رفاهيتهم، أو تخفيفاً من معاناتهم([74])، كوقف الزبير بن العوام دوره بمكة لأولاده([75]).
والوقف على الأبناء يمثل دوراً تراحمياً كبيراً ويعمق أواصر التراحم بين الواقف وأبنائه، وهو وسيلة لصيانة المال عن التبديد، ودوام انتفاع الأعقاب منه([76]).
فالوقف يحافظ على النسل من جانبي الوجود والعدم، فحفظ كيان واستمرارية بقاء النسل برز بشكل واضح من تخصيص بعض الأموال للمقبلين على الزواج ومساعدتهم في إنشاء أسرة مستقرة متماسكة للحفاظ على النسل واستمراره، ووجد كذلك من أوقف على أصحاب العوائل ممن كثر عياله وقل رزقه([77]). وقد نص أكثر من مؤرخ على اهتمام الوقف بحفظ النسل من خلال التزويج فقال الونشريسي: “وتناولت الأوقاف تزويج الأيامى والأبكار اليتيمات”([78]).
وقد خصصت أوقاف أخرى لتزويج الفتيات الفقيرات، فقد كان في فلسطين أوقاف مخصصة لتوفير مهور للفتيات اليتيمات كي يتسنى لهن الزواج([79]). وكتطبيق معاصر لاستمرار الوقف في حفظ النسل فقد انتبهت وزارة الأوقاف في دولة الكويت لأهمية حفظ النسل فأنشأت الصندوق الوقفي لرعاية الأسرة للمساعدة في إنشاء الأسرة ابتداء بدفع جزء من المهر وتكاليف الزواج ثم لرعاية الأسرة بعد الزواج للحفاظ عليها([80]).
وخصّصت أوقاف للنساء المرضعات تسمى “أوقاف نقطة الحليب” يوزع منها الحليب على المرضعات في أيام محددة في كل أسبوع، إلى جانب الماء المذاب فيه السكر. فقد كان من مَبرات القائد صلاح الدين في أحد أبواب القلعة في دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وآخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في الأسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتجنه من ذلك([81]).
وقد اعتنى الوقف بالأرامل والمساكين انطلاقاً من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فقد ورد في الحديث “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله”([82]).
وورد عن عمر رضي الله عنه قوله: “لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً”([83]). وهذا يدل على اهتمامه بهذه الفئة.
ويعدّ الصحابي الزبير بن العوام رضي الله عنه أوّل من أوقف وقفاً لصالح الأرامل والمطلقات من بناته. فقد جاء في صيغة وقفه لبعض دوره” وللمردودة -أي المطلقة- من بناتي أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها”([84]).
وقد تطوّر العمل الاجتماعي لخدمة هذه الفئة من الناس، فأنشئت مؤسسات متخصصة لهذا النشاط في مختلف المدن الإسلامية (بغداد، مصر، المغرب الأقصى) حتى ذكر أنه في مدينة فاس وجد ملجأً خاصاً بالنساء الفقيرات يتكون من دارين([85]).
الفرع الخامس: الوقف وحفظ المال:
ينطلق التصور الإسلامي للمال من أن المال لله عزّ وجل وأن الإنسان مستخلف فيه([86]). والوقف يتفق مع هذا التصور لأنه متفرع منه.
كما أن الوقف بجميع أنواعه وصوره ومجالاته، لا يتم إلا بالأموال سواء كانت ثابتة كالعقارات والأراضي، أم منقولة ومتداولة بين الأيدي.
وحيث إن المال أحد ضروريات الحياة، وبه تسد الحاجات المستمرة للأفراد والمجتمعات، فالوقف لا يتم من غير العنصر الضروري، لارتباطه الوثيق به، فلا وقف بلا أموال. والوقف يحافظ على المال من جانبي الوجود والعدم، إذ يعمل الوقف على تنمية الأموال واستثمارها بالمشاريع الوقفية المختلفة. فإذا تمعن المسلم في الأحكام الشرعية للوقف، وما ذكره الفقهاء من مسائل في موضوع الوقف، يجد أن الأحكام تصب في اتجاه حفظ المال، ومنها: أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في الوقف تصرفاً يفقده صفة الديمومة والاستمرار. فكان تركيز الفقهاء بأن أوّل ما ينفق من ريع الوقف ما كان لصيانته وترميمه للمحافظة على الأصل ليستمر إنتاجه ويعطي عوائده التي ينفق منها على الجهة الموقوف عليها، بحيث تغطى النفقات الجارية في مختلف الجوانب الدينية والصحية والتعليمية والاجتماعية، فيتحقق من جراء ذلك الأهداف المرجوة على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية المباشرة وغير المباشرة.
وعدم جواز انتقال ملكية المال الموقوف إلى الموقوف عليه، وعدم بقاء ملكيته للواقف، يُحدّ من التصرف بمال الوقف وتضييعه. والقول بتأبيد الوقف أيضاً يحفظ الأصول، ويبقي الوقف مدرّاً لما يتمكن ناظر الوقف من الإنفاق على الموقوف عليهم، بل يمكن أن تنتفع منه فئات عديدة من المجتمع، فالوقف يشكل احتياطاً للأجيال القادمة فلا يقتصر على فئة محدودة.
وجواز الوقف لكل أنواع المال (الثابت والمنقول والمنافع) يوسّع دائرة الوقف، ويعمل على وفرة في رأس المال فيزيد من الإنتاج ومن ثمَّ يزيد من العائد، مما يحقق منفعة للموقوف عليهم ولغيرهم، وكذلك جواز الاستبدال وجواز توحيد الوقف وتجميعه، وبيعه إذا أصبح غير نافع، أو أن ريعه لا يكفي لترميمه وإصلاحه، وتفعيل تحديد مدة إجارة الوقف لما لا يزيد عن ثلاث سنوات، كل هذا يعمل على حفظ المال وحماية عوائده من الضياع.
والشروط التي بيّنها الفقهاء في من يتولى نظارة الوقف، ومراقبة القضاء له، كلها تصب في مسار الحفظ الضروري للمال وتنميته، لهذا نجد كثيراً من الواقفين يدعمون وقفياتهم بمؤسسات منتجة دعماً للوقف.
وكنموذج للتطور الذي حصل في الأردن مثلاً فإن واقع الاستثمار للأصول الوقفية كان متواضعاً جداً إذ إنّ قيمة المشروعات التي نفذتها وزارة الأوقاف خلال حوالي عشرين سنة 1983-2001م لم تتجاوز خمسة ملايين ديناراً، لكن بعد تأسيس مؤسسة تنمية أموال الأيتام 2002م كذراع استثماري لوزارة الأوقاف فقد تضاعفت أكثر من عشر مرات قيمة المشروعات التي أنجزت خلال خمس سنوات لتصل إلى 50 مليون دينار([87]).
المطلب الثاني: مجالات الوقف التي تحقق الحاجيات:
تتناول المقاصد الحاجية حفظ الكليات الخمس ذاتها أي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، لكن بمرتبة أقل من الضرورية، فتحفظ المقاصد الحاجية هذه الخمس بما يجلب التيسير والرفق للمكلفين. وقد فصلنا الحديث عنها في الضروريات أما هنا فنجمل القول فيها. والمقاصد الحاجية هي التي يقصد منها التوسعة ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة بفوت المطلوب، وبما أن ظروف الحياة المتجددة والمتغيرة تنشأ دائماً عن حاجات لا حصر لها، فتتنوع صور الوقف بتنوع هذه الحاجات التي يطلب تلبيتها، حيث إن هذه الحاجات لا غنى للإنسان عنها، وبوجودها يرفع الحرج والمشقة عن الأفراد والأمة، وتجلب التيسير والرفق. ونذكر أمثلة للمقاصد الحاجية في حفظ الكليات الخمس.
أولاً: حفظ الدين
تم الوقف على إصلاح المساجد وتعيين الأئمة والمؤذنين([88])، والوقف على الخلاوي والزوايا([89]).
ثانياً: حفظ النفس
تم الوقف على الرعاية الصحية([90])، للتيسير على الناس والرفق بهم بانتظام أمورهم على وجه حسن([91]). فالوقف ساهم في تجهيز المستشفيات ودفع رواتب الأطباء، وتمويل كليات الطب، وبناء المراكز الصحية المتنقلة لخدمة المرضى([92]). وتم تخصيص أوقاف لأبواب المساكن ونوافذها([93]) ورعاية الفئات الخاصة والمحتاجة كالعجزة، من خلال توزيع الطعام والكسوة، والوقف على ذوي الاحتياجات الخاصة([94]).
ثالثاً: حفظ العقل
تم الوقف على التعلّم وكسب المعرفة وإلى تسخيرها في صالح الفرد والمجتمع، فقد تطورت أساليب دعم الوقف للعملية التعليمية، ليواكب التغير في الحاجات التعليمية، فوفّر البعثات الدراسية لطلبة العلم في الخارج ودعم الجامعات([95]).
رابعاً: حفظ النسل
تمثل هذا بالوقف على رعاية النساء وبخاصة من تعيل أبناءً صغاراً، أو من يؤذيها زوجها، أو على المفاصلة عند القاضي([96])، فظهرت صور المواساة بين أفراد الأمة الخادمة لمعنى الأسرة، فهي مصلحة حاجية جليلة([97]).
خامساً: حفظ المال
تمثّل الوقف بإيجاد المهن المناسبة، وتوفير فرص العمل، وكذلك التملك والإنتاج، فتم الوقف على عمارات تحتوي محلات تجارية، ودكاكين، يسهل للتجار الحصول عليها، كما عمل الوقف على تحسين مستوى حياة مجموعة لا بأس بها من الفلاحين والمزارعين، وساهم الوقف في كثير من المشاريع الاستثمارية المنتجة([98]). ومن الأوقاف الحاجية، وقف الخانات، والخان هو مكان يجتمع فيه التجار ويحفظ فيه أمتعتهم وبضائعهم، وفيه مكان ينام فيه المسافرون، فهو يقوم مقام الفندق والسوق.
والخان نوعان: على الطرق الخارجية، وبخاصة على طرق الحج والمزارات وقوافل التجار، وغالباً ما ينشأ حوله حوانيت وأكواخ، وغالباً ما يوجد بئر ماء للشرب والغسيل والوضوء والاستحمام([99]).وهذه المؤسسات مكتملة المرافق من حيث أماكن الراحة والنوم والاستحمام، وأماكن مخصصة لإيداع الأموال ومستودعات لحفظ البضائع، وقاعات لإعداد الطعام وأفران خبز([100]).
ومنها الخانات الداخلية، والسمة الرئيسة لهذه الخانات أنها تجارية صرفة، ولها وظائف أخرى منها تخصيص بعض الحجرات لتعليم الصبيان القراءة والكتابة وقراءة القرآن، وهي شبيهة بالربط الإسلامية. وقد وصف المقريزي إحدى هذه الخانات بأنها “فندق كبير وعلى دائرته عدة مخازن تؤجّر بأجر زهيد من غير زيادة عليه، لذلك فهي تتوارث، ورؤيتها من الداخل والخارج تدهش الناظر لكثرة ما فيها من أصناف البضائع وازدحام الناس”([101]).
المطلب الثالث: مجالات الوقف التي تحقق التحسينيات:
المصالح التحسينية من التحسين والتزيين والتكميل، وهي الأخذ بمحاسن العادات والأخلاق، وترك ما تستقذره النفس وتعافه الطباع، ووجودها حسن؛ لأن النفوس تتطلع دائماً إلى زيادة حسن وجمال متع الحياة. وهي تتناول حفظ الكليات الخمس الدين والنفس والعقل والنسل والمال بجلب معاني التزيين والجمال لها، أي إنها تدخل في تحسين الكليات الخمس.
أولاً: حفظ الدين
ظهرت مجالات الوقف التي تحقق التحسينيات في تزيين المساجد وفرشهه بالسجاد وطلاء جدرانها([102])، وظهر واضحاً في الفن المعماري المتفرد بمقوماته وأشكاله في المدن الإسلامية، وما نالته المساجد من روائع الإبداع في الأشكال الهندسية، وساعد الوقف على انتشار الصناعات الفنية الخاصة مثل صناعة الكسوة لبيت الله الحرام والسجاجيد للصلاة تفرش بها بيوت الله، ثم صناعة القناديل والثريات لإنارة المساجد ونحوها، والبخور والطيب والمسك، كما انتشرت طباعة المصاحف وزخرفتها.
ثانياً: حفظ النفس
وجدت الأوقاف الخاصة بتأثيث المساكن وتزيينها وعمل حدائق لها([103])، وكان الوقف على المستشفيات يحتوي وسائل ترفيهية لتخفيف آلام المرضى، فيقصون القصص أو الروايات المضحكة، أو الأناشيد أو الرقص الشعبي([104]). وقد ظهرت المختبرات الطبية ودُرست الأعشاب والنباتات وصُنعت الأدوية والعقاقير، وأُنشئت الحدائق والبساتين ليوزع فيها كل ما يحتاج إليه من أعشاب ونباتات طبية علاجية([105]).
كما وجد ما يسمى بوقف الزّبادي، وهي أواني الخزف والفخار التي كانت تتكسر بأيدي الأولاد في السوق أثناء عودتهم لبيوتهم، فيأتون إلى مكان الوقف بهذه القطع المكسورة ليستبدلوها بأخرى جديدة، فينجون من عقاب أهاليهم([106]). وتمّ وقف العنبر والمسك، ووقف الحلي لغرض اللبس([107]).
ثالثاً: حفظ العقل
ظهر فن الترجمة لنقل التراث القديم من مختلف اللغات إلى اللغة العربية والعكس كذلك، لتبادل الثقافات وتداول العلوم والمعارف.
رابعاً: حفظ النسل
برز الوقف من خلال المساهمة في دعم حفلات الزفاف وتقديم الهدايا للمتزوجين.
خامساً: حفظ المال
ساهم الوقف في تنمية العديد من المدن والقرى فشارك في إقامة منشآت عمرانية ومؤسسات مساعدة مثل الحمامات والمزارع والحدائق العامة قرب المنشآت الخيرية لتقوم بدعمها وبرعايتها. وهذه المنشآت كانت نواة لإنشاء قرى أو بلدات وربما إلى مدن ومراكز جذب للقوافل([108]).
وهذه الأوقاف إن دلت على شيء فإنما تدل على كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، وحتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الإندماج فيها أو التقرب منها([109])، لما فيها من محاسن العادات، وأسمى التشريعات.
يظهر من العرض السابق لمجالات الوقف أهم المقاصد الشرعية التي حققها ويحقّقها الوقف:
1- يحقق الوقف مقصود الشارع الإجمالي “وحيث إن المصلحة هي المحافظة على مقصود الشرع من الخلق جميعه، وهو أن يحفظ عليهم دينهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة، فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة”([110]). فالوقف في ذاته مصلحه، والمصلحة ركن من أركان مقاصد الشريعة، حيث تعد المصلحة لب المقاصد وغرضها الأساسي.
2- يحقق الوقف مقصد التعاون على البر والتقوى لقوله تعالى:(وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)[2: المائدة]، فالتعاون والتضامن والتكافل إحدى خصائل الوقف.
3- يحقـق الوقف مقصداً عظيماً في حقـوق الأخـوة والصحبة، فيه تقضى الحاجات([111])، ويتم القيام بها قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة، وما ذلك إلا لأن الواقف لا يقصد إلا رضا الله تعالى وتقرباً إليه، فالوقف يحقق مكارم الأخلاق ومحاسنها، وذلك لما فيه من التوجه الخالص في العبادة لله عز وجل، وخدمة عباده، فقد قال الغزالي: “من كان نظره إلى الخالق لزم الاستقامة ظاهراً وباطناً، وزيّن باطنه بالحب لله ولخلقه، وزيّن ظاهره بالعبادة لله والخدمة لعباده، فإنها أعلى أنواع الخدمة لله، إذ لا وصول إليها إلا بحسن الخلق”([112]) فالوقف أحد الطاعات المشروعة لإصلاح القلوب والأجساد والنفع للعباد([113]).
4- يمكن للوقف في الوقت الحالي أن يحقق مقصداً مهماً في تأمين حاجات الدولة، فالوقف على الأغراض التعليمية والصحية والدفاعية ومشاريع البنية التحتية الأساسية سيقلل من الإنفاق العام للدولة ويؤمّن احتياجاتها واحتياجات الأفراد، مما يوفر في موارد الدولة ويغطي جزءاً من عجز الموازنة وتخفيض الديون، فالوقف يعمل على إعادة توجيه الفائض من موارد القطاع العام إلى بعض المشروعات الاستثمارية التي ترفع من معدلات النمو الاقتصادي، وتساعد بدورها على تحقيق التنمية([114]).
5- إنشاء المؤسسات الوقفية يعمل على توفير فرص عمل وتوفير الخبرات المتخصصة، مما يعمل على دوام المؤسسة واستمرارها. فمن المباديء الاقتصادية الهامة أن التخصص يرفع الإنتاجية ويزيد الابتكار، فبقدر ما نجد أوقافاً متخصصة بقدر ما نجد أناساً متخصصين، وهذا يسهم في الإبداع والتطوير الذي يعود على العمل الخيري وعلى المحتاجين الذين يعيشون منه بالخير العميم([115]).
المبحث الثالث شروط الواقف وتحقيق المقاصد الشرعية
لا نكاد نجد وقفاً إلا وللواقف فيه أغراض ومقاصد يسعى إلى تحصيلها عن طريق وضع شروط خاصة تحقق مراده من الوقف وهذه الشروط متنوعة منها ما هو معتبر ومنها ما هو غير ذلك. فلا بدّ من مراعاة مقاصد الشريعة في الوقف ومنها شروط الواقف، أي إنّ شروط الواقف يمكن أن تعدّ نموذجاً لكيفية مراعاة مقاصد الشريعة حسب مراتبها، وقد بيّن الشاطبي أن حكمة الشرط تكمن في تكميل مصلحة المشروط “إن المراد بالشرط في هذا الكتاب ما كان وصفاً مكملاً لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط أو فيما اقتضاه الحكم فيه”([116]). ونتناول في هذا المبحث شروط الواقف، ثمّ منهج الفقهاء في التوفيق بين احترام شروط الواقف وتحقيق المقاصد الشرعية في مطلبين، المطلب الأول لشروط الواقف. والمطلب الثاني لمنهج الفقهاء في التوفيق بين احترام شروط الواقف وتحقيق المقاصد الشرعية.
المطلب الأول: شروط الواقف:
شروط الواقف هي ما يعبّر به كل واقف في وقفه عن رغباته ومقاصده من وقفه([117]). أو هي ألفاظ الواقف التي ينشأ الوقف بوجودها، وتشكل نظام الوقف للوصول إلى غرضه منه.
وهذه الشروط يمليها الواقف بمحض إرادته ليعبّر بها عن رغباته ومقاصده بالكيفية التي ينشئ بها وقفه.
وقد ثبتت مشروعية هذا الاشتراط في السنة النبوية، عندما سأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أَنْفَسُ عندي منه فما تأمر به؟ قال صلى الله عليه وسلم: “إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها” قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم غير متمول فيه”.([118])
وقد بوّب البخاري لهذا الحديث بقوله: باب الشروط في الوقف. وعلّق صاحب عمدة الأحكام على الحديث بقوله: “وفي الحديث دليل على جواز الشروط في الوقف واتباعها”([119]). فالشرع أثبت للواقف حق الاشتراط في وقفه، لكن هذه الشروط يجب أن تكون معتبرة شرعاً “والشروط المعتبرة شرعاً على ضربين، أحدهما ما كان راجعاً إلى خطاب التكليف إما مأموراً بتحصيلها.. وإما منهياً عن تحصيلها… فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه فالأول مقصود الفعل والثاني مقصود الترك، وكذلك الشرط المخيّر فيه فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف إن شاء فعله فيحصل المشروط وإن شاء تركه فلا يحصل”([120]).
والمجال واسع للواقف نفسه، ولقانون الوقف، لوضع الشروط التي يراها مناسبة لتحقيق هدف الوقف الذي أُنشئَ من أجله. “فالمتوقع من قانون الأوقاف أن يعطي أكبر قدر ممكن من الحرية للواقف ليختار الشروط المناسبة لوقفه، وأن يهيئ للواقف أكبر فرصة لتحقيق جميع الأغراض التي يصبو إليها من إنشاء الوقف، ضمن حدود القواعد الشرعية المنصوص عليها”.([121]) وقد نصّ الشاطبي على” أن الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون مكملاً لحكمة المشروط وعاضداً لها بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال… فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعاً لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضى حكماً”([122]).
وقد أجمع الفقهاء على احترام شروط الواقف فيما هو مباح مسموح به، وعدم مخالفتها ومعاملتها بمعنى من معاني الإلزام الذي تعامل به النصوص الشرعية نفسها. حتى قالوا: “بأن شروط الواقف كنص الشارع”([123]).
فشروط الواقف التي لا تخالف مقاصد الشريعة الإسلامية، تعدّ لازمة وقطعية، والواقف هو الذي يحدّد نوع الوقف وغرضه([124]).
ولما كان الواقف يتوخى غرضاً معيناً من وقفه، وكان يتعذر حصر الشروط التي يحتمل اشتراطها من قبل الواقفين، فالنظر الفقهي يقضي بأن يحكم في ذلك غرض الواقف، عندما لا تستطيع القواعد الفقهية والأصولية تعيين أحد الاحتمالات، “فما كان منها أقرب إلى غرض الواقف، وجب ترجيحه والعمل به دون سواه؛ لأنه أقرب ما يكون إلى مراده، وهذا في غاية السداد، إذ لا يعقل عندئذ ترجيح الاحتمال المخالف على الملائم المخالف لغرض الواقف”([125]).
فكل شرط يشترطه الواقف لنفسه فى عقد وقفه فهو شرط معتبر شرعاً كأن يشترط الغلة كلها أو بعضها لنفسه مدة حياته أو مدة معينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على ذلك بقوله: أن يأكل منها أهلها بالمعروف غير المنكر([126]). ولأن عمر رضي الله عنه قال: “ولا بأس على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه”([127]). وكان الوقف في يده إلى أن مات([128])، وهذا يمكن أن يُعد من التحسينيات؛ ولأن معنى التقرب لا ينعدم بهذا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نفقة الرجل على نفسه صدقة”([129])، أو يشترط الواقف أن له الحق فى تغيير شروطه. لأنه شرط لا يخالف مقتضى العقد، ولأن الواقف يقصد بالتغيير الأنفع للوقف والموقوف عليهم([130]).
وكل شرط يشترطه الواقف فى ناظر الوقف فى شخصه أو صفته أو عمله، فهو شرط معتبر شرعاً، ما لم يكن الشرط مضراً بالوقف أو الموقوف عليه أو كان معصية فى حد ذاته. أما إذا كان الشرط غير ملائم لمقاصد الشريعة فلا يعتد به، يقول الشاطي: “والثاني أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته، فهذا القسم لا إشكال في إبطاله لأنه مناف لحكمة السبب”([131]).
فكل شرط يؤدى إلى التصرف برقبة الوقف غير مشروع، لقوله صلى الله عليه وسلم “حبس أصلها”، “تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث”([132]).إلا أن المالكية يرون صحة هذه الشروط إذا اقترنت بالحاجة، والاحتياج هنا شرط لجواز البيع لا للصحة([133]). ولو شرط الواقف منع الغير من التصرف في الوقف، كأن يشترط عدم تأجير الموقوف أو أن يشترط تأجيره مدة يحددها بنفسه، فالفقهاء يجيزون هذا النوع من الشروط ما دام محققاً لمقصده بما لا يخالف الشرع، وما دام محققاً لمصلحة الوقف والموقوف عليهم، فإذا خالف المصلحة جازت مخالفته([134]).
المطلب الثاني: منهج الفقهاء في التوفيق بين احترام شروط الواقف وتحقيق المقاصد، الشرعية.
إذا كان الهدف الأهم للواقف من وقفه هو الأجر الأخروي وتحقيق النفع العام فإن أي شرط يتعارض مع ذلك تجوز مخالفته تحقيقاً للمصلحة العامة.
ومن هنا بحث الفقهاء مجموعة من الشروط مثل اشتراط التأقيت، أو اشتراط الرجوع بعد مضي الوقت، أو اشتراط التأقيت دون اشتراط الرجوع، وذهب أكثرهم إلى انعقاد الوقف مؤبداً ولغو التأقيت؛ لأن اشتراط التأقيت يتعارض مع استدامة التنمية واستدامة الاستثمار. وكذلك اشتراط الخيار يبطل الوقف؛ لأن هذا يتعارض مع لزوم الوقف، ويتعارض أيضاً مع استدامة التنمية.
ولمّا كان من المتعذر حصر الشروط التي يحتمل اشتراطها من قبل الواقفين، فقد قرر الفقهاء لذلك قواعد عامة، يتعين بها ما يكون معتداً به من شروط الواقفين، ويعمل بها، وما لا يصح ويعد لغواً، وهذه القواعد هي:
1- كل شرط لا يخل بحكم الوقف ولا يوجب فساده فهو جائز ومعتبر، وشرط الواقف المعتبر كنص الشارع- أي في وجوب العمل وفي المفهوم والدلالة- فيجب اتباعه.
“فلو جعل الواقف أرضاً له صدقة موقوفة لله عز
وجل، وشرط استثناء غلتها كلها أو بعضها لنفسه أثناء حياته، ومن بعده لأولاده ونسله ثم للفقراء، صح الشرط وكان له أن ينتفع بريع وقفه ما دام حيا”([135]).
وهذا الضابط ليس على عمومه في وجوب العمل به، بل هو مقيد بما لم يخالف الشرع، وهذا يشتمل على نوع الشروط الصحيحة والمعتبرة في نظر الشارع، وما لم يكن كذلك فلا.([136])
2- كل شرط يوجب تعطيلاً لمصلحة الوقف، أو تفويتاً لمصلحة الموقوف عليهم فهو غير معتبر ويكون الوقف صحيحاً، والشرط لاغياً. مثل: لو اشترط الواقف عدم استبدال العقار الموقوف أو اشترط عدم عزل الناظر الذي ولاّه على الوقف، وكان الناظر خائناً، أو شرط ألا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استثماره سنة، وكان في الزيادة نفع، جاز للمتولي أن يخالف هذا الشرط بإذن القاضي؛ لأن تصرف القاضي منوط بالمصلحة وإن خالف شرط الواقف. وقد أورد الحنفية في كتبهم أنه يفتى بكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف فيه العلماء([137]).
3- كل شرط يخالف الشرع يعدّ لغواً. كأن يشترط عدم عزل المتولين على الوقف وإن ظهرت خيانتهم فلا يعمل بهذا الشرط، ويحق للقاضي محاسبتهم وعزلهم إذا ثبتت خيانتهم، أو تحقق أنهم غير أهل للتولية، حتى ولو كان المتولي هو الواقف نفسه؛ لأن هذا الشرط فيه تفويت لمصلحة الموقوف عليهم وتعطيل الوقف فلا يقبل([138]).
في ضوء ما تقدم يمكن تقسيم شروط الواقفين إلى نوعين رئيسين هما:
“الأول: شروط باطلة، وضابطها: أن ما كان منها مخالفاً لحكم الشرع فهو باطل، وما كان منها مناقضاً لمصلحة الوقف في ذاته واستمراره فهو باطل… وما كان منها مناقضاً لمصلحة الموقوف عليه فهو باطل… الثاني: شروط صحيحة، وضابطها: أن ما كان منها موافقاً لحكم الشرع فهو صحيح، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: شروط صحيحة لا تجوز مخالفتها، وضابطها، كل ما كان منها معبّراً عن إرادة الواقف المحترمة، والمحققة لغرضه المشروع، في تعيين المال الموقوف وواجبات العاملين، وكيفية توزيع الغلة في المصارف التي يختارها، من أشخاص أو جهات بر، فهذا لا تجوز مخالفته وشروط صحيحة تجوز مخالفتها، وضابطها: كل ما كان فيه مخالفة إلى ما هو خير وأنفع في تحقيق غرض الواقف”([139])، وقد وضع الفقهاء لهذه المخالفة مسوغات من أهمها:
أولاً: المصلحة والضرورة
نتيجة لتطور ظروف الحياة، وتجدّد حاجات الناس، قد يصبح تنفيذ شرط الواقف متعذراً أو عسيراً، وهذا يضر بمصلحة الوقف، أو قد تظهر ضرورة لمخالفة شرط الواقف يرى القاضي وجوب مراعاتها؛ لأن الوقف ملك لله محبس للانتفاع به “وما كان هكذا فلا ينظر فيه إلى جانب الواقف، إلا من جهة العناية بمصير ثواب وقفه إليه على أكمل الوجوه وأتمها مهما كان ذلك ممكناً، كما لو شرط الواقف شرطاً يمنع بموجبه استبدال الموقوف، فإنه يعمل بشرطه ما أمكن، فإذا خرب وتعطلت منافعه، ولم يمكن الانتفاع به مطلقاً، ولم يكن له غلة تفي بعمارته، جاز للقاضي مخالفة شرط الواقف، ببيع الموقوف وشراء آخر مكانه… ومن عرف هذه الشريعة كما ينبغي، أنها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، وها هنا جاء المقتضى، وهو جلب المصلحة بظهور الأرجحية وانتفاء المانع، وهو وجود المفسدة، فلم يبق شك ولا ريب في حسن الاستبدال”([140]).
ومن ذلك ما لو شرط الواقف الولاية لنفسه، وأصبح غير مأمون عليه، أو شرطها لغيره، وكان غير كفء، جاز للقاضي مخالفة الشرط، ونزع الولاية من غير المأمون، أو إضافة متول آخر مع المتولي الضعيف، وذلك حفاظاً على مصلحة الوقف والموقوف عليـه . وغير ذلك من الشروط التي تجوز مخالفتها للمصلحة والضرورة، مبسوطة في كتب الفقه([141]).
ثانياً: التعذر الآيل في مصارف الوقف
فلو شرط الواقف في وقف مدرسة أن يكون طلابها أو مدرّسوها من بلد معين، أو من عرف معين مثلاً، فإنه يعمل به إن أمكن ذلك، فإن لم يوجد من الطلاب أو المدرسين من تنطبق عليهم الأوصاف المطلوبة، جازت مخالفة شرط الواقف بأن يقبل غيرهم([142]). وهذه نظرة مقاصدية للحاجة.
ثالثاً: غبن القائمين بأعمال الوقف
كما لو شرط الواقف لناظر الوقف، أو لإمام مسجد أو المؤذن أو الخطيب أو لمدرّس مدرسة أجراً محدّداً، وكان أقل من أجر المثل، أو كان مناسباً ثم صار غير مناسب، وكان في غلة الوقف إمكانية زيادة الأجر لهم، فإنه يجوز للقاضي مخالفة شرط الواقف وزيادة الأجر ليصل إلى أجر المثل، خوفاً من تعطيل القيام بأعمال الوقف؛ ولأن الشرع لا يقر الغبن، بل يأمر بإعطاء الأجير ما يستحقه([143]).
رابعاً: التيسير مع عدم الإخلال بمقصود وغرض الواقف
فالعقار الموقوف إذا كان للاستغلال، فللموقوف عليه الذي يستحق الغلة أن يسكنها عوضاً من إيجاره وأخذ غلته؛ لأن السكنى أيسر من الإيجار، وهي دون الاستغلال الذي يوجب حقاً للغير([144]).
“ولو شرط الواقف للمستحقين أرزاقاً عينية من خبز أو لحم بمقدار معين كل يوم، فللقيّم أن يدفع القيمة من النقد، أو يكون الخيار للمستحقين في أخذ العين أو القيمة”([145]).
خامساً: تغيير الشرط إلى ما هو أصلح منه وأنفع
يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان، كما لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد، صرف إلى الجند([146]). وفي هذا مراعاة للأكثر حاجة.
من خلال ما سبق نجد أن الفقهاء عمدوا إلى احترام شروط الواقف من ناحية إذا كانت هذه الشروط لا تعطّل منافع الوقف، ولا تعمل على تضييعه، ولا تضيع حقوق الموقوف عليهم شريطة الحفاظ على أصل الوقف مع زيادة ريعه وغلته.
والوقف أمانة في يد المتولي أو ناظر الوقف، فإذا كانا غير أمينين أو مبذرين، جاز للقاضي أن يستخدم ولايته العامة، حتى ولو اشترط الواقف غير ذلك؛ لأن الشرط الذي لا يخدم مصلحة الوقف لا يؤخذ به([147]).
فناظر الوقف ملزم بتنفيذ واتباع شروط الواقف المعتبرة شرعاً، والمنصوص عليها من قبل الواقف، وليس لناظر الوقف مخالفتها في الجملة “إن شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع فهو مالك، فله أن يجعل ماله حيث شاء ما لم يكن معصية، وله أن يخص صنفاً من الفقراء، ولو كان الوضع في كلهم قربة”([148]).
ومما سبق من بيان منهج الفقهاء في التعامل مع شروط الواقف يظهر جلياً مراعاتهم لتحقيق المقاصد الشرعية التي توخاها الشارع من تشريع الوقف.
الخاتمة
أولاً: أهم النتائج التي توصلنا إليها:
1- الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وهو أحد وجوه البر والخير.
2- يحقق الوقف مقاصد الشريعة في حفظ الكليات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فيحافظ عليها وجوداً، ويدرأ عنها العدم، وبحفظ الوقف لهذه الأصول فهو مصلحة مقصودة للشرع.
3- يحقق الوقف مقاصد الشريعة الحاجية إذ يوسع عن الأمة ويرفع الضيق.
4- يحقق الوقف مقاصد الشريعة التحسينية فيكمّل الحياة ويزيّنها ويحسّنها.
5- الوقف أحد الأسباب الرئيسة في المحافظة على الأموال وتنميتها، وزيادتها، ودوامها وبقاء أصلها، وحمايتها من أي عامل يسعى إلى إهلاكها أو إفسادها.
6- أعطت الشريعة الحق للواقف بأن يشترط ما يشاء في وقفه شريطة أن لا تتعارض شروطه مع مقاصد الشريعة الإسلامية وأن لا تقوم مصلحة شرعية معتبرة تقتضي مخالفة الشروط.
7- أجاز الفقهاء مخالفة شروط الواقف إذا اقتضت الضرورة أو المصلحة ذلك وأضافوا بعض المسوغات لمخالفة الشروط.
ثانياً: أهم التوصيات:
نوصي كليات الشريعة الاهتمام بتدريس المقاصد الشرعية لطلبة العلم الشرعي.
ونوصي إدارات الأوقاف الإفادة من المستجدات لاستثمار أموال الوقف بما يحقق النفع للموقوف عليهم، وللوقف نفسه.
ولا بدَّ من توجيه طلبة العلم الشرعي للبحث في مسائل الوقف في مرحلة الدراسات العليا ولو بدعم من أموال الأوقاف. والحمد لله رب العالمين.
(*) منشور في “المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية”، المجلد السادس، العدد (4)، 1432ه / 2010م.
الهوامش:
([1]) عز الدين بن عبد العزيز العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق نزيه حماد وعثمان ضميرية، دمشق، دار القلم، 1421ه/2000م، (ط1)، ص143.
([2]) المرجع السابق، ص31.
([3]) انظر جمال الدين الأفريقي ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر، باب الفاء حرف الواو، ص359.
([4]) زين بن إبراهيم ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، بيروت، دار المعرفة، ج5، ص202. وقد نسب هذا التعريف إلى أبي حنيفة أما تعريف الوقف عند الصاحبين فهو حبس العين على حكم ملك الله تعالى، وهو التعريف المعتمد في المذهب.
([5]) صالح عبد السميع الآبي، الثمر الداني في شرح رسالة القيرواني، بيروت، المكتبة الثقافية، ج1، ص556. وعرفه الدرديري بجعل المالك منفعة مملوكة ولو كان مملوكاً بأجرة، أو جعل غلته كدراهم لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس. الدرديري، الشرح الكبير، ج4، ص76.
([6]) أحمد بن حمزة الرملي، نهاية المحتاج إلأى شرح المنهاج، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج5، ص354.
([7]) موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة، المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل، الرياض، نشر المؤسسة السعيدية، ج2، ص307.
([8]) محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1422ه/2001م، (ط1)، ص488، حديث رقم (2737).
([9]) الحسين بن محمد الأ صفهاني، المفردات في غريب القرآن، بيروت، دار المعرفة، ص404.
([10]) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الرقائق باب القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (6463).
([11]) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم (866).
([12]) انظر المبارك بن محمد ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، عيسى البابي الحلبي، 1383ه/ 1963م، ج4، ص68.
([13]) انظر محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، بنغازي، ليبيا، ج9، ص35.
([14]) انظر الدهلوي، حجة الله البالغة، بيروت، دار إحياء التراث، 1420ه/1999م، (ط3)، ج1، ص21.
([15]) انظر محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م، (ط1) ص171.
([16]) انظر حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، دمشق، دار قتيبة، 1412ه/1992م، (ط1)، ص119.
([17]) انظر محمد سعد اليوبي، مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، دار الهجرة للنشر والتوزيع، 1418ه/1998م، (ط1)، ص35.
([18]) انظر عبد الرحمن الكيلاني ، قواعد المقاصـد عند الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، دمشق، دار الفكر، 1421ه/2001م، (ط1)، ص46.
([19]) انظر يوسف العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، الرياض، الدار الإسلامية للكتاب الإسلامي، 1993م، (ط2)، ص79.
([20]) انظر وهبه الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، دمشق، دار الفكر، 1416ه/1986م، (ط1)، ج2، ص1017.
([21]) انظر أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1415ه/1995م، (ط4)، ص19.
([22]) انظر خليفة با بكر الحسن، فلسفة مقاصد التشريع، الخرطوم، دار الفكر، ص7.
([23]) انظر نور الدين الخادمي، الاجتهاد المقاصدي، كتاب الأمة، وزارة الأوقاف، قطر عدد (65)، 1419ه، ج1، ص53.
([24]) انظر علاّل الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993م، (ط5)، ص7.
([25]) انظر محمد بن محمد الغزالي، المستصفى مع فواتح الرحموت، مصر، المطبعة الأميرية، 1322ه، ج2، ص230. وانظر الفخر الرازي، المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر العلواني، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود 1400ه/1980م، (ط1)، ج2، ص311.
([26]) انظر سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، بيروت، دار الفكر، 1401ه/1981م، ج3، ص186.
([27]) انظر الفخر الرازي، الكاشف عن أصول الدلائل، بيروت، دار الجيل، 1413ه/1992م، (ط1)، ص45.
([28]) رواه الحاكم في المستدرك عن طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، في كتاب البيوع، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ج2، ص57. ورواه ابن ماجة عن طريق ابن عباس مرفوعاً، في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر جاره، ج2، حديث رقم (2340)، و(2341).
([29]) البخاري، صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، ص934، حديث رقم (5065)، و(5066)، ورواه مسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ج2، ص 1018، حديث رقم (1400).
([30]) محمد بن أبي بكر ابن القيم، أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق طه عبد الرؤوف، بيروت، دار الجيل، 1973م، ج1، ص217.
([31]) إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز، بيروت، دار المعرفة، ج3، ص410.
([32]) انظر عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، الكويت، دار القلم، 1398ه/1978م، (ط12)، ص198. وانظر محمد زكريا البرديسي، علم أصول الفقه، القاهرة، دار الثقافة للنشر، 1983م، ص446.
([33]) انظر الشاطبي، الموافقات، وانظر للتفصيل عبد القادر حرز الله، ضوابط اعتبار المقاصد في مجال الاجتهاد وأثرها الفقهي، مكتبة الرشد، ص171-204. إذ بدأ بالجويني (ت 478ه) ثم الغزالي (ت 505ه) ثم الآمدي (ت631ه) وغيرهم إلى الشاطبي (ت790ه) إلى ابن عاشور (ت1398ه) وهي دراسة أصولية تاريخية مفصلة ومعمقة، وقد سجّل الباحث اعتراض بعض المعاصرين على هذه التقسيمات مما لا يتسع له مجال البحث.
([34]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص 8.
([35]) ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 219.
([36]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص11.
([37]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص11.
([38]) انظر زياد احميدان، مقاصد الشريعة الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة ناشرون، 1425ه /2004م، ص81-82.
([39]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص 16.
([40]) انظر الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، ص205.
([41]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص16.
([42]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص16.
([43]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص16.
([44]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص17. وانظر الكيلاني، قواعد المقاصد ففيها تفصيل وتطبيقـات كثيرة ص203-232.
([45]) انظر ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 218.
([46]) انظر المرجع السابق، ص63.
([47]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص10.
([48]) الشاطبي، الموافقات، ج1، ص417.
([49]) هناك حديث طويل ومفصل عند بعض المعاصرين في محاولة فهم الضروريات الخمس فيما عُرف بحصر المقاصد وتصنيفها في الفكر الأصولي، وذكروا بعض الضوابط لترتيب هذه الضروريات والاتجاهات الأصولية فيها. وللمزيد انظر حرز الله، ضوابط اعتبار المقاصد، ص171-235.
([50]) انظر حرز الله، ضوابط اعتبار المقاصد، ص180.
([51]) انظر الشاطبي، الموافقات،ج1، ص324.
([52]) انظر منذر قحف، الوقف الإسلامي تطوره وإدارته وتنميته، بيروت، دار الفكر المعاصر، ودمشق، دار الفكر، 1421ه/2000م، (ط1)، ص 39.
([53]) انظر عبد الملك السعدي، الوقف وأثره في التنمية، بغداد، الدار الوطنية، 2000م، (ط1)، ص 48.
([54]) انظر يحيى محمود الساعاتي، الوقف والمجتمع، الرياض، مؤسسة اليمامة، 1417ه، ص19.
([55]) انظر أحمد الدراجي، الربط والزوايا والتكايا البغدادية في العهد العثماني، بغداد، دار الشروق الثقافية، 2001م، (ط1)، ص15.
([56]) انظر محمد موفق الأرناؤوط، نماذج إسلامية معاصرة في الممارسة الاقتصادية للوقف (حالة الأردن)، مجلة أوقاف، الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، العدد 14، السنة الثانية، جمادى الأولى، 1429ه/ مايو 2008، ص62-63.
([57]) انظر مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا، بيروت، المكتب الإسلامي، 1987م، (ط5)، ص126.
([58]) انظر أحمد السعد، الملامح الأساسية بين نظام الوقف والاقتصاد، مجلة مؤتة، جامعة مؤتة، العدد (8)، 2003م، ص 191.
([59]) السعدي، الوقف وأثره في التنمية، ص176.
([60]) انظر مايكل دمبر، سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992م، ص28-29.
([61]) جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دمشق، دار الفكر، 1422ه/2001م، ص52.
([62]) انظر المرجع السابق، ص39.
([63]) انظر رفيق المصري، الأوقاف فقهاً واقتصاداً، سورية، الدار المكتبية، 1420ه/1999م، ص109.
([64]) انظر سعيد عاشور، بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته، القاهرة، دار عالم الكتب، 1987م، (ط1)، ص241.
([65]) انظر أحمد عيسى، تاريخ البيمارستانات في الإسلام، دمشق، الدار الهاشمية، 1357ه/1939م، ص21.
([66]) انظر السعدي، الوقف وأثره في التنمية، ص156-167.
([67]) انظر عبد الغني النوري، التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، الدوحة، دار قطري بن الفجاءة، 1986م، ص11.
([68]) انظر أحمد أبو زيد، نظام الوقف الإسلامي تطوير أساليب العمل وتحليل النتائج، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، 1321ه/2000م، ص42.
([69]) انظر عطيه، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص26.
([70]) انظر فيليب حتي، وآخرون، تاريخ العرب، بيروت، دار غندور، 1974م، (ط5)، ص510. وانظر زهدي يكن، الوقف في الشريعة والقانون، بيروت، دار النهضة العربية، 1388ه/1968م، ص124، 125.
([71]) انظر عبد الملك السيد، الدور الاجتماعي للوقف، الحلقة الدراسية لتثمير ممتلكات الأوقاف، جدة، 1404ه/ 1984م، (ط1)، ص244.
([72]) أبو الحسن محمد ابن جبير، الرحلة، بيروت، دار صادر، ص258.
([73]) انظر قحف، الوقف الإسلامي، ص 65.
([74]) انظر المرجع السابق، ص 115.
([75]) انظر مصطفى الزرقاء، أحكام الوقف، عمان، دار عمار ودار البيارق، 1419ه/1998م، (ط2)، ص15.
([76]) انظر المرجع السابق، ص 15.
([77]) انظر: راندي ديفيلم اندريه ريمون، الوقف في العالم الإسلامي، دمشق، المعهد الفرنسي، 1995م، ص26.
([78]) أحمد بن يحيى الونشريسي، المعرب في الجامع المغرب عن فتاوى وعلماء أفريقية والأندلس والمغرب، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1991م، ج7، ص13.
([79]) انظر دمبر، سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين، ص19.
([80]) انظر أحمد السعد، الوقف ودوره في رعاية الأسرة، مجلة أوقاف، الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، عدد 8، السنة الخامسة، ربيع الأول، 1426ه/ مايو 2005م، ص150-151.
([81]) انظر السباعي، من روائع حضارتنا، ص128.
([82]) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الساعي على الأرملة، حديث رقم (6006).
([83]) يحيى بن آدم القرشي، الخراج، بيروت، دار المعرفة، 1347ه، ص59.
([84]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، بيروت، دار الكتب العلمية، 1993م، (ط3)، ج5، ص 511.
([85]) انظر رقية بالمقدم، أوقاف مكناس في عهد مولاي إسماعيل، المغرب، وزارة الأوقاف، 1413ه/ 1993م، ج1، ص62.
([86]) انظر العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ص486.
([87]) انظر الأرناؤوط، نماذج إسلامية معاصرة في الممارسة الاقتصادية للوقف (حالة الأردن)، ص67. وللمزيد حول مؤسسة تنمية أموال الأوقاف انظر ص68-74 ففيها ذكر لأهم المشروعات التي أقامتها المؤسسة في الأردن وآفاق عملها في المستقبل.
([88]) انظر قحف، الوقف الإسلامي، ص39.
([89]) انظر قحف، الوقف الإسلامي، ص 39.
([90]) انظر السعد، الملامح الأساسية بين نظام الوقف والاقتصاد، ص 195.
([91]) انظر: ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص223.
([92]) انظر العمر، إسهام الوقف، ص27.
([93]) انظر عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص52.
([94]) انظر المرجع السابق، ص 25.
([95]) انظر العمر، إسهام الوقف، ص28.
([96]) انظر قحف، الوقف الإسلامي، ص38.
([97]) انظر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص118.
([98]) انظر السعدي، الوقف وأثره في التنمية، ص119.
([99]) انظر الدراجي، الربط والتكايا البغدادية في العهد العثماني، ص193.
([100]) انظر المرجع السابق، ص 193.
([101]) تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، لندن، الفرقان للتراث الإسلامي، 1423ه/ 2002م، ج3، ص310.
([102]) انظر قحف، الوقف الإسلامي، ص39.
([103]) انظر عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص52.
([104]) انظر السباعي، من روائع حضارتنا، ص 235.
([105]) انظر محمد الحبيب بن الخوجة، لمحة عن الوقف والتنمية في الماضي والحاضر، ندوة أهمية الأوقاف الإسلامية في عالم اليوم، 2001م، (ط1)، ص216.
([106]) انظر ربحي مصطفى عليان، من الوقف في الحضارة العربية الإسلامية، مجلة الأمن والحياة، عدد (238)، السنة (21)، 1423ه/2002م، ص33.
([107]) انظر أمير عبد العزيز، فقه الكتاب والسنة، القاهرة، دار السلام، 1419ه/1999م، ص 163.
([108]) انظر محمد الأرناؤوط، معطيات عن دمشق وبلاد الشام في نهاية القرن السادس عشر، دمشق، دار الحصاد، 1993م، ص62-66.
([109]) انظر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص224.
([110]) الغزالي، المستصفى، ج1، ص417.
([111]) انظر عز الدين الخطيب، مشروعية الوقف وطبيعته وأنواعه، عمان، مجلة هدي الإسلام، عدد (9)، 1417ه/1997م، ص14.
([112]) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، دار مكتبة الهلال، 2001م، (ط4)، ج2، ص231.
([113]) انظر عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق نزيه حماد وعثمان ضميرية، دمشق، دار القلم، 1421ه/2000م، ج1، ص297.
([114]) انظر منذر قحف، السياسة المالية ودورها وضوابطها في الاقتصاد الإسلامي، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1999م، (ط1)، ص63-65.
([115]) انظر العمر، إسهام الوقف، ص94.
([116]) الشاطبي، الموافقات، ج1، ص233.
([117]) انظر عبد الوهاب خلاف، أحكام الوقف، مصر، 1953م، ص62.
([118]) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، حديث رقم (2737). وانظر أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، بيروت، دار الكتب العلمية، ج7، ص56-57.
([119]) محمد بن علي ابن دقيق العيد، شرح عمدة الأحكام، بيروت، دار كتب العلمية، ج3، ص212.
([120]) الشاطبي، الموافقات، ج1، ص243.
([121]) قحف، الوقف الإسلامي تطوره إدارته وتنميته، ص116.
([122]) الشاطبي، الموافقات، ج1، ص251-252.
([123]) قحف، الوقف الإسلامي تطوره إدارته وتنميته، ص118.
([124]) انظر المرجع السابق، ص117.
([125]) محمد أمين ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، دار الفكر، 1399ه/ 1979م، (ط2)، ج3، ص32.
([126]) انظر موفق الدين ابن قدامة، المغني مع الشرح الكبير، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، 1401ه/ 1981م، ج5، ص352. وانظر ابن قدامة، الكافي في فقه ابن حنبل، تحقيق زهير الشاويش، بيروت، المكتب الإسلامي، 1988م، (ط5)، ج2، ص451.
([127]) ابن حجر، فتح الباري، ج5، ص403.
([128]) انظر ابن قدامة، المغني، ج5، ص352.
([129]) محمد بن عبد الله الحاكم، المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عطا، كتاب البيوع، باب كل معروف صدقة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1990م، (ط1)، ج2، ص 50، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
([130]) انظر ابن عابدين، الحاشية، ج4، ص459-460.
([131]) الشاطبي، الموافقات، ج1، ص252.
([132]) سبق تخريجه، ص22.
([133]) انظر محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية، ج4، ص89.
([134]) انظر زين الدين بن ابراهيم بن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، بيروت، دار المعرفة، ج5، ص258. وانظر محمد الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، بيروت، دار الفكر، ج 2، ص385.
([135]) أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، الرياض، دار عالم الكتب، 1412ه/1991م، ج31، ص48. وانظر ابن عابدين، رد المحتار، ج4، ص366.
([136]) انظر ابن نجيم، البحر الرائق، ج5، ص265. وانظر الدسوقي، الحاشية، ج2، ص123. وانظر مرعي بن يوسف الحنبلي، دليل الطالب، بيروت، المكتب الإسلامي، 1389ه، (ط2)، ج1، ص171.
([137]) انظر ابن عابدين، رد المحتار، ج1، ص344. وانظر محمد بن علي الحصكفي، الدر المختار شرح تنوير الأبصار، بيروت، دار الفكر، 1386ه، (ط2)، ج4، ص408.
([138]) انظر ابن عابدين، رد المحتار، ج4، ص389.
([139]) الزرقاء، أحكام الأوقاف، ص152.
([140]) أحمد بن محمد الهيتمي، الفتاوى الكبرى الفقهية، المكتبة الإسلامية، ج3، ص280. وانظر ابن نجيم، الأشباه والنظائر، تحقيق محمد الحافظ، دمشق، دار الفكر، 1983م، (ط1)، ص222.
([141]) انظر علي بن بكر المرغيناني، الهداية شرح بداية المبتدئ، بيروت، المكتبة الإسلامية، ج3، ص19.
([142]) انظر أحمد غنيم النفراوي، الفواكه الدواني، بيروت، دار الفكر، 1415ه، ج2، ص161.
([143]) انظر ابن عابدين، رد المحتار، ج4، ص436. وانظر ابن نجيم، الأشباه، ص221.
([144]) انظر ابن عابدين، رد المحتار، ج4، ص352.
([145]) ابن نجيم، الأشباه، ص221.
([146]) انظر ابن تيمية، الفتاوى، ج31، ص198.
([147]) انظر الدسوقي، الحاشية، ج4، ص89.
([148]) ابن عابدين، رد المحتار، ج3، ص397. وانظر قدري باشا، مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان، مصر، دار العرجاني، 1403ه/1983م، مادة رقم (687).
لماذا لا تكون اول معجب
بحث قانوني حول قضاء المظالم في الفقه و القانون .
أ.د. محمد وليد العبادي/ كلية الدراسات الفقهية والقانونية – جامعة آل البيت
ملخص
إقامة العدل بمفهومه الموضوعي والشمولي يعتبر أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، فالعدل مأمور به شرعاً في تعامل الفرد مع الفرد أو الجماعة، وتعامل سلطة الحكم مع المحكومين. وهذا كله يحتاج إلى قواعد عامة ومجردة واجبة التطبيق يرضخ لها الكافة حكاماً ومحكومين.
ومن هنا تأتي الرقابة القضائية على شرعية ما يصدر عن سلطات الحكم وأدواته لاتصافها بالموضوعية والجرأة. وهذا ما جسده قضاء المظالم الذي يعتبر قمة الرقابة في الدولة الإسلامية لما امتاز به من تجسيد للعدل وقمع للظلم سواء أتى من الحكام أو المحكومين، وهذا ما سنفصله في هذا البحث.
تمهيد
اعتبرت الشريعة الإسلامية إقامة العدل بمفهومه الموضوعي والشمولي من أهم مقاصدها، فالعدل مأمور به شرعاً في تعامل الفرد مع افرد أو الجماعة وتعامل سلطة الحكم مع المحكومين، ولكن هذا يحتاج إلى قواعد تتصف بالعمومية والتجريد وواجبه التطبيق بعدل موضوعي يرضخ له الكافة من حكام ومحكومين ومؤسسات بشخصياتها الطبيعية والمعنوية وهو ما يعبر عنه بمبدأ المشروعية.
ولما كانت الرقابة القضائية على شرعية ما يصدر عن سلطات الحكم وأدواته أعلى ما يمكن أن تكون عليه هي لما تتصف به من تجرد وموضوعية وجرأة، والسؤال المطـروح: هل عُرفت الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في الدولة الإسلامية؟ وهل تمثلت هذه الرقابة بقضاء المظالم؟
وهذا ما سيجيب عليه هذا البحث.
المقدمة
يعتبر القضاء الإسلامي الذي عُرف بأداء دوره بكفاءة تتفق مع أهدافه في تحقيق العدل قام بدوره الفاعل في المجتمع الإسلامي بما يتفق وأهداف الشريعة على رفع الظلم فعمل على إنشاء مؤسسة قضائية خاصة لكي تعمل على رفع الظلم وإحلال العدل محله، وقد تمثلت هذه المؤسسة بديوان المظالم وقد اضطلع دوره في مسألة العدل في إرساء قواعد الرقابة القضائية على أعمال الإدارة والوصول إلى إلغاء القرار الإداري والتعويض عن آثاره الضارة وتأديب أشخاص الإدارة.
وانطلاقاً مما سبق سوف نقسم هذا البحث إلى مبحثين:
المبحث الأول: يتعلق بالأصول العامة لقضاء المظالم.
المبحث الثاني: ويتعلق بمقارنة قضاء المظالم وما يشابهه من نظم.
نظراً لأن نظام ولاية المظالم يعد من مفاخر النظام القضائي الإسلامي فقد تأثرت به إلى حد كبير الكثير من النظم القضائية المعاصرة، حيث إن النظام القضائي الإسلامي قد أرسى قواعد القانون الإداري من خلال ما حققه العلماء المسلمين في القرن الخامس الهجري بإرساء فكرة قواعد القانون العام أمثال الماوردي والفراء وغيرهم حيث عمل هؤلاء العلماء على لم شتات موضوعات ما يسمى اليوم القانون العام من كتب الفقه والتي تسمى الأحكام السلطانية.
وعليه سنحلل قضاء المظالم من حيث نشأته وسنده التشريعي، ومكونات هذا القضاء واختصاصه.
المبحث الأول الأصول العامة لقضاء المظالم
نشأة قضاء المظالم وسنده التشريعي وتكييفنا له
لما كان قضاء المظالم قد وجد أصلاً لحماية الحقوق العامة والخاصة للأفراد والجماعات من تعسّف أشخاص الإدارة بها وتعدياتهم عليها وإهدارها، فإن ذلك يلزم على الدولة القانونية أن تعمل على إنشاء القواعد التي تتصف بالعمومية والتجريد ولها قوة الإلزام على الكافة بحيث يخضع لها الجميع وتدور تصرفاتهم ضمن إطارها فلا تخرج عليها ومن ثمّ فإنه لا بد من قيام جهة ذات صلاحية بمراقبة هذا الانضباط والقيام بدور إيجابي في ذلك.
فمؤسسات الإدارة قادرة بما لها من سلطات على ضبط الأفراد والجماعات وليس العكس ومن هنا كان لا بد من قيام سلطة ما بدور رقابي فعال على انضباط مؤسسات الإدارة وأشخاصها، ومن ثم عدم تجاوزها على حقوق الأفراد والجماعات وإهدارها وإلحاق الأضرار بهم.
فتأكيد سيادة هذه القواعد يستدعي قيام سلطة ذات صلاحية بالدور الرقابي على أن تتركز في هذه السلطة قدرة على ردع الإدارة وأشخاصها عن تجاوز هذه القواعد بإلغاء التصرف المتجاوز والتعويض عن الضرر الناشئ عن ذلك ومساءلة من يقوم به وهذا يستدعي أيضاً أن تتمتع هذه السلطة باستقلال لتأكيد قوتها وأن تكون على مستوى عالٍ من التجرّد والنزاهة.
ولقد أدى التطور الذي أصاب ولاية القضاء الإسلامي إلى إيجاد نوع من القضاء يضطلع بالدور الرقابي والقضائي على أعمال الإدارة، وإذا أجاز لنا استعمال هذا التعبير في هذا المقام وهو قضاء المظالم فهذا القضاء إنما وجد أصلاً لإنصاف من يتظلم من أفعال وتصرفات ذوي النفوذ والسلطة من رجال الدولة، وأصحاب مراكز القوى ممن يستمدون قوتهم من الاتصال بسلطة الحكم أو أشخاصها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فهو أداة لرفع الظلم وإحلال العدل وهذا يستهدف أن تكون السيادة للشريعة على الكافة من حكّامٍ ومحكومين على السواء.
وللوقوف على حقائق هذا الدور القضائي لا بد من الوقوف حول الأصول العامة لقضاء المظالم من حيث التعريف به وبسنده التشريعي ومكوناته ونطاق اختصاصاته الزمنية والمكانية وكذلك من حيث تعين قاضي المظالم وأخيراً عن نطاق اختصاص قضاء المظالم والمعايير المميزة بينه وبين القضاء العادي.
هذه الحقائق بمجملها تعكس مدى التطور التاريخي والقانوني الذي وصل إليه القضاء الإسلامي من خلال قضاء المظالم ودوره الفعال في تطبيق مفهوم العدالة.
وسنبحث ذلك من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: نشأة قضاء المظالم وسنده التشريعي.
يرجع البعض أصل نشأة قضاء المظالم إلى ملوك الفرس الذين كانوا يرون أن رد المظالم من قواعد الملك وقوانين العدل الذي لا يعم الصلح إلا بمراعاته، ولا يتم التناصف إلا بمباشرته([1]) إلا أن أصحاب هذا الرأي لم يقدموا دليلاً واحداً أو مثالاً على قيام ملوك الفرس بذلك. لذا فإننا نرجح أن نشأة ولاية المظالم إنما يرجع إلى حلف الفضول الذي عقد في الجاهلية بين زعماء الجزيرة العربية وذلك عندما انتشرت بينهم حمى الرئاسة وتعددت وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا بينهم حلفاً لإنصاف المظلوم ورد المظالم([2]) وقد عقد هذا الحلف في دار عبد الله بن جدعان بن تيم بحضور زعما أكبر القبائل وهم بنو هاشم، بنو عبد المطلب، بنو أسد، بنو زهرة، وبنو تيم، واتفقوا جميعهم على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن يدخلونها وجدير بالذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد هذا الحلف قبيل الرسالة المحمدية وأقره بعد الرسالة وقال: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت وما أحب أن لي به حمر النعم” ([3]) وقد حرم الإسلام الظلم تحريماً قاطعاً وأوجب رد الحق لكل مظلوم وتوقيع العقاب على الظالم والسند التشريعي بذلك واضح في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى:(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)[182: آل عمران] وقوله تعالى:(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [76: الزخرف] وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات” وهذا كله يدل بوضوح على أن الإسلام إنما يؤكد على إقامة العدل وينهى عن الظلم وتحتم الأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم والعمل على إيجاد القضاء والقضاة الذي يقضون بالحق فيكون المصدر التشريعي لقيام قضاء المظالم قد اتضح في الشريعة الإسلامية وهو الذي يمثله اليوم ما يسمى بالقضاء الإداري وهكذا نشأ قضاء المظالم (القضاء الإداري الإسلامي) وأخذ مداه طيلة قيام الدولة الإسلامية.
الفرع الثاني: التعريف بقضاء المظالم وتكييفنا له.
الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه([4])، واصطلاحاً: يقصد به التعدي من الحق إلى الباطل قصداً أو الانتقاص بحقوق الغير في الملك أو الأمن أو الحرية أو النشاط أي أن الظلم بإيجاز هو الاعتداء على الناس في أموالهم وممتلكاتهم بصفة عامة.
أما في الاصطلاح الإداري فقد عرفه ابن خلدون([5]) في المقدمة بأنه: “وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء ويحتاج الوالي فيها إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي” وعلى ذلك يمكنني أن أعرف قضاء المظالم بأنه نوع خاص من القضاء منفصل عن القضاء العادي ويقوم إلى جانبه بفصل في التظلمات والخصومات التي يكون أحد طرفيها أو كلاهما من ذوي القوة والجاه والنفوذ سواء استمد ذلك من عمله الوظيفي الذي يقوم به أو بسببه أو بأي سبب آخر في حين القضاء الإداري المعاصر اليوم والذي هو من صنع قضاء المظالم بالأمس يعرف بأنه نوع من القضاء مستقل عن القضاء العادي ينظر بصورة عامة وعلى الرأي الراجح في الدعاوى والخصومات ذات الصلة بالسلطة الإدارية وعلاقتها بالأفراد عند قيامها بإصدار قراراتها الإدارية أو إدارة مرفق عام بوسائل القانون العام([6]).
وتتنوع المظالم إلى نوعين:
الأول: ما يتعلق بظلم القائمين على أمور الأفراد أي شاغلي الوظائف العامة.
الثاني: ظلم الأفراد العاديين بعضهم البعض.
ومن هنا نلاحظ أن هناك تشابهاً بين القضاء الإداري وقضاء المظالم في الموضوع إلا أن قضاء المظالم أكثر شمولاً وأوسع اختصاصاً فهو يشمل الدعاوي والخصومات التي تقوم ما بين الأفراد وجهات الإدارة العامة إلى جانب الخصومات التي يكون أحد طرفيها جهة أو شخصاً ذا قوة ونفوذ وتسلط بحيث أن القضاء العادي لا يستطيع أن يردعه عن ظلمه أو يوقفه عند حده.
والقضاء الإداري اليوم كما قلنا هو من صنع قضاء المظالم تجسده هيئة يطلق عليها اسم مجلس الدولة وهو ترجمة حرفية للاسم الفرنسي لهذه الهيئة (coseil detat) والدولة العثمانية سابقاً كانت تطلق عليها اسم شواري الدولة وعرف هذا المجلس في الدولة العربية باسم مجلس شورى الدولة وفي عام 1918 عندما انفصلت سورية عن الدولة العثمانية سمت هذا المجلس باسم مجلس الشورى العربي وخلفه بعد الاحتلال الفرنسي مجلس شورى الدولة ولا يزال حتى يومنا هذا في لبنان ما يسمى بهذا المسمى ويختصرونه بـ مجلس الشورى أما في سورية ومصر فيطلق عليه اسم مجلس الدولة.
وحتى تكتمل صورة هذا النوع من القضاء الذي يسير والقضاء العادي جنباً إلى جنب في جميع البلاد الإسلامية، فإننا سوف نتناول مكونات هذا القضاء، ونطاق اختصاصاته. ونقصد بذلك تشكيل المجلس وتعين واليه أو رئيسه والشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وطالما أن ثمة قضاءً عادياً إلى جانب قضاء المظالم فنذكر بما يختلف أحدهما عن الآخر، وما هي المعايير المميزة بينهما، وهذا ما سنتناوله من خلال النقاط التالية:
أولاً: تشكيل مجلس قضاء المظالم وانعقاد جلساته واختصاصه.
ديوان المظالم هي الهيئة التي تتولى فحص ودراسة المظالم ويرأس الديوان إما الخليفة الحاكم أو أحد الأفراد ممن تتوافر فيهم صفات معينة ومن ثمَّ فإن المجلس يتكون من صاحب الديوان “رئيس الديوان” وهو والي المظالم وقد يكون الخليفة ذاته أو أحد الوزراء أو شخصاً معيناً بذاته، وشروطه كما بينها الماوردي أن يكون جليل القدر نافذ الأمر عظيم الهيبة طاهر العفة قليل الطمع كثير الورع لأنه يحتاج إلى سطوة الحماة والجمع بين صفات الطرفين وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر بين الجهتين([7]).
أما مساعدو رئيس الديوان، فهم القضاة والفقهاء والكتاب والحماة والأعوان والشهود.
وتنعقد جلسات المجلس زمنياً ومكانياً بمعنى أن لهذا المجلس اختصاصاً زمنياً ومكانياً حيث أجاز الفقهاء أن يتضمن عهد التولية زمناً محدداً بذاته لنظر النزاع كيوم بذاته أو يوم معين من أيام الأسبوع أو أكثر من ذلك فإذا كان التقليد ليوم واحد انتهت الولاية بانتهاء ذلك اليوم، أما إذا كان ليوم معين في الأسبوع أو لأيام فإن الولاية لا تنتهي بإنتهاء ذلك اليوم المعين أو الأيام وإنما تبقى ليوم أو للأيام المماثلة في الأسبوع الثاني([8]). ومع ذلك نلاحظ أن التظلم القضائي بلغ ذروته في العصور العباسية المتلاحقة فأصبحت ولاية القضاء العادي تخضع لإدارة قاضي القضاة وإشرافه ورقابته، وأصبح التخصيص الزمني واضح المعالم وأخضع للدراسات الفقهية. أما ولاية المظالم فقد أصبحت في هذه الفترة ولاية متميزة مستقلة وأصبح قاضي المظالم الخاص يباشر النظر في المظالم طيلة أيام الأسبوع بمكان متميز وهو قبة المظالم أو دار المظالم أو دار العدل أو دار نيابة العدل وبحدود الاختصاص النوعي لاختصاصه، أما إذا كان منتدباً لذلك فإنه يحدد أياماً معينة من الأسبوع يتفرغ للنظر بالمظالم([9]).
وبالنسبة للاختصاص المكاني فهو تقليد قاضي المظالم النظر بما يُدعى من مظالم ضمن إقليم معين، أو مكان معين، فهو ينظر كافة المظالم ضمن هذا الإقليم وبحدود اختصاصه النوعي، سواء أكان ينظر بالمظالم بالاستناد إلى ولايته العامة أم بتقليد خاص ولا يكون له أن يتجاوز ذلك إلى نظر المظالم الواقعة في مكان آخر. أما مقر ديوان المظالم فهو عاصمة الخلافة أو السلطنة، أما بالنسبة للولايات فكان الولاة أو الأمراء إذا كانت إمارتهم عامة يكون من ضمن اختصاصهم الجلوس للمظالم في مركز أو حاضرة الولاية وإذا كانت خاصة([10]) فلا تشمل قضاء المظالم فكان الخليفة يوكل أمر المظالم إلى الوالي نفسه بتفويض خاص أو يعين قاضياً.
ثانياً: تعيين قاضي المظالم والشروط التي يجب توافرها فيه.
معلوم أن القضاء من ضمن الوظائف المحفوظة لصاحب الإمامة الكبرى (الخليفة) ([11]) فما يلزم القيام به كما قال الماوردي (قطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يعتدي ظالم ولا يضعف مظلوم…) وأن (يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة) ([12]).
فالقضاء من وظائف الخليفة بحكم ولايته العامة، وبالاستناد إلى ذلك يباشر الخلفاء نظر المظالم بأنفسهم على النحو المعروف والمقرر لديهم ومن ثمّ فهو يباشر ذلك دون انتخاب أو تكليف وهذه الوظيفة تكون أيضاً لوزراء التفويض والأمراء باعتبار أن أياً من هؤلاء يملك الأمور العامة فلا يحتاج إلى تقليد خاص([13]).
وقد عمل أصحاب الولاية العامة على وضع شروط خاصة وذلك بتعيين قضاة يتمتعون بصفات وخصائص تمكنهم من القيام بهذه الوظيفة إذا توافرت هذه الشروط ويصدر له بذلك كتاب تولية أو تقليد من الخليفة أو السلطان، وهو ما نسميه اليوم إن صح التعبير مرسوماً أو قراراً([14]) والشروط الواجب توافرها في تعيين قاضي المظالم فهي كما بينها الماوردي أن الناظر في المظالم يكون جليل القدر نافذ الأمر عظيم الهيبة طاهر العفة قليل الطمع كثير الورع لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وتثبت القضاة([15]).
ثالثاً: اختصاص قضاء المظالم.
حُددت الاختصاصات الوظيفية والنوعية لهؤلاء القضاة بحيث أصبحت هذه الولاية القضائية تنظر النزاعات التي تقوم بين الأشخاص والجماعات من جهة والدولة وأشخاصها من جهة ثانية، وقد كانت هذه النزاعات تشكل الأسباب الموجبة لتخصيص هذا القضاء لنظر المظالم التي تنشأ عن التصرفات الجائرة الصادرة عن ولاة الجور وممارساتهم الظالمة والمجاهرة بها مع قدرتهم على هذه الممارسات([16]).
والتصرفات محل الشكاوي ما هي إلا تلك التي كانت تشكل خروجاً على الشرعية، بمعنى تجاوز حدود الشريعة والقواعد المعتمدة للعمل بها المستخلصة أصلاً من القواعد الإسلامية. هذه التصرفات التي تصدر على هذا النحو ترتب آثاراً ضارة بالأفراد أو الجماعات، مما يترتب لهؤلاء معها الحق في التظلم بطرح النزاع أمام قاضي المظالم سواء أكان القاضي المخصص لنظر ذلك يباشر بالاستناد إلى عهد التولية أم بحكم وظيفته إذا كان من أصحاب الولاية العامة حتى إذا ما ثبت له صحة التظلم وفقاً للأصول المعمول بها أمام قضاء المظالم توجب إصدار الحكم العادل بذلك ومن ثم تنفيذه.
وبحكم طبيعة الولاية القضائية نجد أن هناك أنواعاً من المظالم يتصدى لها قاضي المظالم بمجرد وقوفه عليها دون حاجة للتقدم بشكوى إذ إنه مكلف شرعاً بدفع الظلم. كما نجد أنواعاً أخرى لا يباشر النظر بها إلا بناءً على شكوى المتظلم وقد استطاع الماوردي في القرن الخامس الهجري استخلاص هذه الاختصاصات وذلك في فئات ثلاث([17]):
الفئة الأولى: وتتشكل من اختصاصات يتصدى قاضي المظالم بموجبها إلى ما يصدر عن الدولة وأشخاصها، فينظر المظالم بناءً على شكوى، أو تصدياً دونما انتظار شكوى كما أنه وجهة رقابية ومالية ورقابة على موافقة القواعد المعمول بها للشريعة أو خروجاً عنها من جهة أخرى، وتندرج تحت هذا الاختصاص مجموعتان:
أ) ما يباشره دون شكوى بل يتصدى لنظره ويقع في دائرته وهي:
1. تعديات الولاة على الناس بالعسف والقهر.
2. الجور في الضرائب والجباية.
3. تصرفات كتاب الدواوين.
4. مشارفة الوقوف العامة (الخيرية).
5.المظالم الناشئة عن الغصوب السلطانية واستغلال النفوذ.
ب) ما ينظره بناءً على شكوى ويقع في دائرته وهي:
1. تظلمات الموظفين والمستخدمين.
2. غصب المتنفذين للأملاك الخاصة.
3. تظلمات أصحاب الوقوف الخاصة (الذرية) بمواجهة المشرفين عليها.
الفئة الثانية: وتشمل الاختصاص بنظر بعض ما يدخل في اختصاص القضاء العام ويقع في دائرته:
1. النظر بين المتشاجرين.
2. تنفيذ الأحكام القضائية.
الفئة الثالثة: وهي اختصاصات تخرج عن ولاية القضاء أصلاً وتدخل في أعمال أصحاب ولايات أخرى ويقع ضمن دائرته:
1. ما يعجز عنه المحتسب.
2. العمل على مراعاة العبادات.
رابعاً: المعايير المميزة لقضاء المظالم.
يستنتج بصورة عامة من خلال ما كتبه الإمام الماوردي عن ديوان المظالم وبخاصة ما ذكره في اختصاص والي المظالم من أن هذا النوع من القضاء يختص في الظلامات أي القضايا التي يكون أحد طرفيها أو كلاهما إما([18]):
1. من ذوي القوة والنفوذ والجاه بحيث لا يردعه عن ظلمه وغيه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر، والأمر الذي يجعل هذا النوع من الخصومة يستلزم هذا النوع من القضاء الذي تمتزج فيه قوة السلطة بإنصاف القضاء.
2. وإما من الولاة المعتدين على الرعية وأخذهم لهم بالعسف في السيرة، أو العمال الجائرين في تصرفاتهم ضد الناس وأموالهم ومخالفتهم للقوانين العادلة في دواوين الأئمة، فيلزمون الناس بتنفيذ ما يصدرونه إليهم من أوامر ونعني بذلك ما يسمى اليوم التنفيذ المباشر لأوامر جهة الإدارة.
ونستخلص مما تقدم وبتعابير هذا العصر أن هذا المعيار هو المعيار العام لقضاء المظالم لأنه يختص بالنظر في القضايا التي يكون أحد طرفيها أو كلاهما إما من ذوي القوة والنفوذ أو ممن يعملون في دواوين الدولة ومرافقها العامة ذات المدلول القانوني المعاصر.
الفرع الثالث: تكييفنا لقضاء المظالم.
قبل تكييفنا لقضاء المظالم، هل هو قضاء إلغاء أم تعويض أم الاثنين معاً؟ فلا بد من إلقاء الضوء على تحديد مدلول هذه الاصطلاحات باعتبارها اصطلاحات حديثة لم تكن معروفة سابقاً تحت هذه المسميات.
أما مدلول قضاء الإلغاء فيقصد به إصدار حكم بدعوى يرفعها صاحب مصلحة إلى محاكم القضاء الإداري يطلب إعدام أو إلغاء قرار إداري مخالف للقانون، فهذه الدعوى من هذا المنطلق هي مجرد أداة لتحقيق مبدأ المشروعية وفقاً لأحكام مبادئ القانون الإداري، فضلاً عن أنها أداة رقابة على إلزام الإدارة بتطبيق هذا المبدأ فإذا ما حادت عنه فإنها تعرف مسبقاً أن القضاء لها بالمرصاد([19])، وهذا النوع من القضاء هو من صنع مجلس الدولة الفرنسي.
ودعوى الإلغاء هذه تتطلب بالضرورة إذن أن يكون ثمة قرار إداري مستوفي لجميع شرائطه وأركانه وصادر عن جهة إدارية وأن يكون القرار نهائياً وتوافر المصلحة لرافع الدعوى يترفعها ضمن المواعيد والإجراءات المحددة وخلال ستين (60) يوماً.
ويتم إلغاء القرارات الإدارية إذا كان قد شابها عيب في ركن أو أكثر من أركانها وهي عيب الاختصاص وعيب الشكل وعيب مخالفة القانون وعيب إساءة استعمال السلطة أو ما يسمى بعيب الانحراف وعيب السبب فإذا ما أصيب القرار الإداري بأحد أو أكثر من هذه العيوب فإنه يصبح غير مشروع وبالتالي يصبح عرضة لطلب إلغاؤه من قبل الجهات المتضررة منه.
فإذا صدر حكم بإلغاء القرار فإن جهة الإدارة ملزمة بأن تلغيه وأن تعيد الوضع إلى ما كان عليـه كأن هذا القرار لم يصدر([20]).
أما بالنسبة لقضاء التعويض فهو يعتبر مكملاً لقضاء الإلغاء، فإذا حدث أن نفذت الإدارة قراراً معيباً ثم صدر حكم بإلغائه فإنه يتعين إلغاء جميع الآثار الضارة الناتجة عن هذا القرار وكذا التعويض للمتضرر من جراء صدوره.
وهكذا فإن المبدأ المقرر هو مسؤولية الدولة عن تصرفاتها واستثني من ذلك أعمال السيادة والقرارات الإدارية التي نص المشرع على حصانتها فالأساس القانوني للتعويض هو الالتزام القانوني العام المنصب على عاتق السلطات العامة في أن تدير المرافق العامة وفق قواعد معينة فإذا ما خالفتها وسببت أضراراً للأفراد فهي ملزمة بالتعويض.
وأخيراً فالقضاء الكامل هو الذي يجمع بين قضائي الإلغاء والتعويض، بمعنى أن من شأنه الحكم بإلغاء القرار المعيب وكذا الحكم بالتعويض لذي المصلحة المتضرر من جراء إصدار الإدارة لقرارها المعيب.
وبعد التعريف بمفهوم كل من قضاء الإلغاء والتعويض والقضاء الكامل وهي أساليب القضاء الإداري المعاصر لإلزام جهة الإدارة بالسير في جادة المشروعية وعدم الحيدة عنها بعد ذلك نتساءل: عما إذا كانت الدولة الإسلامية قد عرفت مبدأ المشروعية وطبقته؟ وعما إذا كانت ثمة سوابق قضائية ظهر فيها إلغاء القرارات المعيبة والتعويض عن الأضرار التي أصابت أصحاب العلاقة؟
يمكننا القول بأن الفقه والقضاء الإداريين الإسلاميين عرفا كل هذه الأمور في مختلف العصور، وطبقت الدولة الإسلامية مبدأ المشروعية منذ أول يوم تأسست فيه لأن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واكبا الدولة الإسلامية منذ لحظة تواجدهما وكانا يرسمان القواعد التشريعية والقانونية حسب الحاجة إليهما وهي قواعد عامة مجردة لها صفة الديمومة والاستمرار مقترنة بالجزاء لمن يخالفها.
فقضاء المظالم نعتبره قضاء إلغاء حيث اتجه قضاء المظالم في الإلغاء باتجاهين رئيسين يقعان تحت أصل كبير هما إلغاء لقواعد التشريعية الصادرة خلافاً للشريعة الإسلامية، وإلغاء آثارهما وتصرفات وقرارات وأعمال وممارسات لأشخاص الإدارة التي تقع خلافاً للشريعة ومقتضياتها، فعملية إلغاء القواعد التشريعية الصادرة خلافاً للشريعة تعتبر وجهاً من أوجه الرقابة الدستورية للقضاء الدستوري يمارسه قضاة المظالم ويدخل في اختصاصاته وفقاً للأصول العامة. ورقابة القضاء هنا تأتي على الأحكام التي مصدرها الاجتهاد وليس على ما كان من المصادر الأصلية الكتاب والسنة ولا على الإجماع([21]). ثم إن إلغاء تصرفات وقرارات لأشخاص الإدارة الواقعة خلافاً لمقتضيات الشريعة، هو المعيار لصحة العمل الإداري، أي الاتفاق مع الشريعة وقواعدها الصادرة وفق أصولها الدستورية بالمفهوم الذي عليه الوضع التشريعي في الدولة التي تقوم على أن السيادة للشريعة، واستناداً إلى ذلك وحتى يمكن اعتبار هذه الأعمال يقتضي أن تكون على هذه الحالة، فإذا ما خرجت عن هذه الضوابط فإنها تتعرض أعمالها للإلغاء إما بتصدي قاضي المظالم أو شكوى الفرد أو الجماعة.
وأخيراً نؤكد على أن قضاء المظالم هو قضاء تعويض وذلك لأن ديوان المظالم في الدولة الإسلامية قد طبق فكرة الخطأ المصلحي قبل أن يُعرف مدلوله القضاء الإداري المعاصر، وقد كان ذلك عندما تحمل بيت مال المسلمين الخطأ نتيجة حادثة القائد خالد بن الوليد عندما قتل أفراداً من بني جذيمة ظناً منه أنهم يخادعونه ولم يسلموا فعوّضهم الرسول صلى الله عليه وسلم عما افتقدوه من متاع من أموال بيت المال([22]).
خلاصة القول نجد أن الدولة الإسلامية طبقت مبدأ المشروعية بكامل أبعاده على جميع التصرفات التي تصدر عنها وعن مرافقها العامة إذا حاد أحد الخلفاء أو الولاة ومن والاهم من موظفين والعاملين منهم واعتدوا على حقوق الناس وحرياتهم فإن القضاء لهم بالمرصاد.
فقضاء المظالم هو أول من رسم الخطوط العريضة لقضائي الإلغاء والتعويض بشكل عملي وكان ينسجم والأوضاع السائدة في تلك العصور. وعليه فإن قضاء مجلس الدولة الفرنسي وفقهه لم يأتيان بجديد في هذا المجال من حيث المضمون وجوهر الموضوع، بل كان قضاء المظالم وفقهه الإداري كان السباق في إقرار هذا المبدأ وبخاصة فيما يتعلق بقضاء التعويض خلافاً لما يدعيه بعض فقهاء القانون الإداري المعاصرون بأن القضاء الإداري هو فرنسي المصدر والنشأة.
المبحث الثاني مقارنة بين قضاء المظالم وما يشابهه من نظم
سنحاول عقد مقارنة بين قضاء المظالم وكلاً من القضاء الإداري الفرنسي ونظام (الامبودسمان) السويدي وذلك من خلال فرعين:
الفرع الأول: يتعلق بقضاء المظالم والقضاء الإداري الفرنسي.
الفرع الثاني: ويتعلق بقضاء المظالم وقضاء (الامبودسمان) السويدي.
الفرع الأول: قضاء المظالم والقضاء الإداري الفرنسي([23]).
نشير في البداية إلى أن فرنسا من الدول التي تأخذ بمبدأ ازدواجية القضاء فهناك قضاء عادي وقضاء إداري ولكل واحد منهم محاكمه الخاصة به أما أهم أسباب نشأة القضاء الإداري فيها كما يدعيه مؤرخوه، أن أموراً سياسية وعوامل اجتماعية تمخضت عنها أحداث ثورة عام 1789 الفرنسية كان من أهمها أنهم كانوا يحملون أسوأ الذكريات عن المحاكم القديمة والتي كانت تسرف في التدخل في أعمال الإدارة وبقي ذلك الأمر على حاله حتى أسس مجلس الدولة الفرنسي والمحاكم الإدارية الإقليمية أيام نابليون عام 1799م الذي أرسى أولى دعامات مجلس الدولة الذي كان له بادي الأمر الصفة الاستشارية ثم أعطي لمجلس الدولة صلاحية البت النهائي في الأحكام وأصبح قضاؤه باتاً في ذلك ومفوضاً لا يحتاج إلى تصديق رئيس الدولة.
ظل الوضع كذلك حتى يناير عام 1954 حيث صدرت عدة تشريعات كان لها الأثر الكبير على مجلس الدولة والذي أصبح بموجبها محكمة إدارية ذات اختصاصات محددة يمارس اختصاصات استشارية واختصاصات قضائية. فالاختصاصات الاستشارية تتمثل بالإفتاء وصياغة مشروعات القوانين والمراسيم واللوائح. أما الاختصاصات القضائية فأصبحت هي الأساس يتقاسمها مجلس الدولة والمحاكم الإدارية الإقليمية، وتتمثل بـ اختصاصات قضائية، كإلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة، ودعاوي تفسير وفحص المشروعية. ومجلس الدولة هنا له دور واسع حيث يعتبر كمحكمة استئناف ونقض لجميع المنازعات الإدارية.
ونعتقد أن المحاكم الإدارية الفرنسية أخذت من حيث المبدأ والتطبيق بما كان عليه نظام قضاء المظالم حيث كان ثمة والٍ للمظالم في العاصمة مركز الخلافة، وكانت ثمة دواوين في الأقاليم وكان يطعن في أحكام دواوين الأقاليم أمام الخليفة واختصاصات هذه المحاكم تتشابه إلى حد كبير مع اختصاصات ديوان المظالم فتنظر هذه المحاكم في:
1.القضايا المتعلقة بالهيئات المحلية وانتخابات مجلس المديريات.
2. القضايا المتعلقة بالضرائب المباشرة والأشغال العامة وبيع أموال الدولة ومخالفات الطرق.
3. المنازعات الفردية المتعلقة بالموظفين في هذه الهيئات.
4. منازعات العقود الإدارية التي تبرمها هذه الهيئات.
5. المنازعات المتعلقة بالمناجم.
وعلى ذلك لا بد من التأكيد على الحقيقة القانونية التي يتمتع بها مجلس الدولة الفرنسي في تأكيده على مبدأ المشروعية وسيادة القانون، فقد كان المجلس شديد الحرص على الموازنة ما بين المصلحة العامة والخاصة، فضلاً عن دوره الفعّال في حماية الحريات الفردية ضد عسف السلطات وجبروت الدولة وإنصاف المواطنين والموظفين تجاه تسلط الدولة.
أما بالنسبة للقضاء الإداري المصري والسوري والأردني، فقد سار على نهج القضاء الإداري الفرنسي وأخذ معظم اختصاصات هذا القضاء والتي من حيث المبدأ والتطبيق تشبه إلى حد كبير قضاء المظالم.
الفرع الثاني: ديوان المظالم في المملكة العربية السعودية([24]).
لقد نشأ في المملكة العربية السعودية قبل نحو أربعين عاماً ديوان المظالم كجهة رسمية تقدم إليها التظلمات المختلفة وتتولى التحقيق فيها قبل عرضها على ولي الأمر وقد تطور وضع الديوان من هذه البداية البسيطة إلى أن أصبح جهة قضائية تمارس أنواعاً مختلفة من الاختصاصات القضائية.
وقد عملت المملكة العربية السعودية على الأخذ بنظام القضاء المزدوج فيوجد فيها القضاء الشرعي صاحب الولاية العامة في الفصل بالمنازعات، كما يوجد ديوان المظالم يتولى الفصل في المنازعات الإدارية وبعض المنازعات الأخرى. وديوان المظالم في وضعه الحالي كما نص عليه نظام إنشائه هو هيئة قضاء إداري مستقلة، كما يوجد إلى جانب هاتين الجهتين القضائيتين بعضاً من الهيئات واللجان التي ناط بها النظام اختصاصات قضائية.
فديوان المظالم من أهم الجهات التي لها ولاية قضائية محددة في المملكة وترجع هذه الأهمية إلى السلطات الواسعة التي يتمتع بها الديوان، ففضلاً عن ذلك فقد اكتسب الديوان الكثير من الاستمرار والثبوت بخلاف الجهات ذات الولاية القضائية المحددة الأخرى وسنحاول التطرق باختصار إلى نشأة هذا الديوان وتنظيمه واختصاصه في النقاط التالية:
أولاً: نشأة ديوان المظالم وتنظيمه([25]).
تم إنشاء ديوان المظالم سنة 1373ه حيث انشئ على هيئة إدارة عامة تتبع مجلس الوزراء وذلك بناءً على نظام شعب مجلس الوزراء الصادر في 12 رجب 1373ه الذي تحدث في الباب الرابع فيه عن ديوان المظالم ونص في المادة (17) منه على أن “يشكل بديوان مجلس الوزراء إدارة عامة باسم ديوان المظالم يشرف على هذه الإدارة رئيس يعين بمرسوم ملكي وهو مسؤول أمام جلالة الملك وجلالته المرجع الأعلى له”.
ثم صدر نظام ديوان المظالم في 17-9-1374ه ونصت المادة الأولى منه على أن “يشكل ديوان مستقل باسم ديوان المظالم ويقوم بإدارة الديوان رئيس من درجة وزير يعين بمرسوم ملكي وهو مسئول أمام جلالة الملك وجلالته المرجع الأعلى له”.
ويتكون ديوان المظالم من الرئيس ونائبه وعدد من المستشارين والمحققين الشرعيين والقانونيين والماليين والفنيين وغيرهم وبالديوان قسمان([26]):
– قسم الرئاسة ويتكون من الرئيس ونائبه.
– الشعبة القضائية وتتكون من:
– لجنة تدقيق القضايا.
– الهيئة الاستشارية.
– هيئة التحقيق.
ثانياً: اختصاصات ديوان المظالم([27]).
أشارت المادة الثامنة من نظام ديوان المظالم تنوع الاختصاصات القضائية التي يزاولها الديوان.
فبعض هذه الاختصاصات في مجال القضاء الإداري والتأديبي والجزائي، وقد أضيف مؤخراً إليها عنصر رابع وهو القضاء التجاري، كما أن هناك اختصاصات أخرى أشير إليها في المادة الثامنة أو ألحقت بالديوان عن طريق أوامر ومراسيم ملكية وقرارات مجلس الوزراء ويمكن أن نعتبرها عنصراً خامساً وسوف نتناول هذه الاختصاصات بإيجاز:
أ- اختصاصات تدخل في مجال القضاء الإداري بالمعنى الدقيق ونلاحظ أن القضاء الإداري هو المحور الأساسي لاختصاص ديوان المظالم وهي:
1. الدعاوي المتعلقة بالحقوق المقررة.
لقد أقر النظام في المادة الثامنة فقرة (أ) أن ما يختص الديوان بنظره هو: “الدعاوي المتعلقة بالحقوق المقررة في نظم الخدمة المدنية والتقاعد لموظفي ومستخدمي الحكومة والأجهزة ذوات الشخصية المعنوية العامة المستقلة أو ورثتهم والمستحقين عنهم”.
ويعتبر هذا الاختصاص الأصيل للديوان من حيث الفصل بين الحكومة والأفراد.
2. الطعن في القرارات الإدارية:
نصت الفقرة (ب) من المادة الثامنة على اختصاص الديوان النظر في “الدعاوي المقدمة من ذوي الشأن بالطعن في القرارات الإدارية متى كان مرجع الطعن عدم الاختصاص أو وجود عيب الشكل أو مخالفة النظم واللوائح أو الخطأ في تطبيقها أو تأويلها أو إساءة استعمال السلطة. ويعتبر في حكم القرار الإداري رفض السلطة الإدارية أو امتناعها عن اتخاذ قرار كان من الواجب عليها اتخاذه طبقاً للأنظمة واللوائح”.
وبهذا الاختصاص نجد أن الديوان قد حقق رقابته على أعمال الإدارة والتأكد من مشروعية القرارات الإدارية.
3. دعاوى التعويض:
لم يقتصر ديوان المظالم في السعودية على الحكم بإلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة، بل عمل أيضاً على تحقيق وتطبيق فكرة القضاء الكامل وقد ورد النص على هذا النوع من القضاء في الفقرة (جـ) من المادة الثامنة “دعاوي التعويض الموجهة من ذوي الشأن إلى الحكومة والأشخاص ذوي الشخصية العامة المستقلة بسبب أعمالها”.
4. دعاوي منازعات العقود الإدارية:
على غرار القضاء الإداري الفرنسي والمصري والسوري واللبناني وعلى عكس القضاء الإداري في الأردن والذي أعلن عدم اختصاص محكمة العدل العليا الأردنية النظر في منازعات العقود الإدارية([28]) فإن قضاء ديوان المظالم قد أكد على اختصاص ديوان المظالم بالنظر في منازعات العقود الإدارية التي تبرمها الإدارة مع أشخاص القانون الخاص في سبيل تسير المرافق العامة.
وهذا ما نصت عليه الفقرة (د) من المادة الثامنة بقولها: “الدعاوي المقدمة من ذوي الشأن في المنازعات المتعلقة بالعقود التي تكون الحكومة أو أحد الأشخاص المعنوية طرفاً فيها”.
5. الدعاوي التأديبية التي ترفع من هيئة الرقابة والتحقيق.
تنص الفقرة (ه) من المادة الثامنة من نظام ديوان المظالم على اختصاص الديوان بـ”الدعاوي التأديبية التي ترفع من هيئة الرقابة والتحقيق”.
الفرع الثالث: قضاء المظالم ونظام (الامبودسمان) السويدي([29]).
أوجدت بعض الدساتير الحديثة نسبياً نوعاً خاصاً من رقابة السلطة التشريعية تكتسي طابع الرقابة الإدارية وهذا مطبق في السويد وسنقوم بتحليله من حيث تعريفه ونشأته واختصاصاته وتقييمه والفرق بينه وبين ديوان المظالم وذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: تعريف نظام (الامبودسمان) ونشأته.
كلمة (الامبودسمان) كلمة سويدية الأصل ويقصد بها الوسيط Intermediaire. و(الامبودسمان) في الواقع ليس إلا جهاز منبثق من البرلمان يختص بحماية حقوق المواطنين وحرياتهم ويحفظ لنفسه بامتيازات الرقابة على الإدارة يمارسها في أوسع نطاق ممكن وبكل الوسائل في إطار الشرعية، ويطلق البعض على (الامبودسمان) لفظ المفوض البرلماني([30]) إلا أننا نرى أن هذا المسمى ليس معبراً تعبيراً حقيقياً على مدلول النظام ووظائفه، ومن ثم نفضل تسميته بالمحامي أو المدافع عن حقوق المواطنين وحرياتهم. نشأ هذا النظام لأول مرة في دولة السويد سنة 1809م وهو تاريخ صدور أول دستور لها بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالسلطة الحاكمة وقتذاك، وطالب بوضع دستور للبلاد يحقق فيه الاستقرار السياسي للدولة ويضع ضمانات لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم الأفراد، وقد نص الدستور على نظام الامبودسمان كوسيلة للحد من تعسف الملوك ورجال السلطة من استعمال ما منح لهم من سلطات ولضمان حماية أكبر قدر من حقوق وحريات الأفراد. ونظراً لما لاقاه من نتائج إيجابية فلقد أخذت به دول كثيرة مثل النروج والدنمارك وألمانيا الاتحادية والمملكة المتحدة وكذلك نيوزلاندا ومن البلاد العربية السودان عام 1918م وتنزانيا في أفريقيا عام 1975 والهند عام 1968([31]).
ثانياً: اختصاصات (الامبودسمان).
أخذت السويد كما سلف القول بهذا النظام منذ أن صدر أول دستور لها عام 1809 وبالإضافة إلى ما ورد بالدستور من نصوص تتعلق بالامبودسمان فقد صدر القانون رقم (928) في 29 ديسمبر لسنة 1967 متضمناً القواعد القانونية المنظمة لوظائف واختصاصات الامبودسمان.
ويباشر الامبودسمان سلطاته الرقابية على جميع موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، وأعضاء الهيئات القضائية، والعاملين بوحدات الإدارة المحلية ابتداءً من سنة 1957، ويخرج من نطاق اختصاصه الملك وأعضاء البرلمان والوزراء. وتستهدف هذه الرقابة بالدرجة الأولى ضمان التأكد من تطبيق القانون تطبيقاً سليماً على جميع المواطنين بدون تمييز، بالإضافة إلى حماية حقوق المواطنين وحرياتهم إذا ما تعسفت الدولة في استعمال ما منح لها من سلطات إزاء الأفراد، وعليه فالامبودسمان يباشر الاختصاصات التالية:
أ- الرقابة على كل من السلطتين التنفيذية والقضائية.
ب- رد الحقوق إلى أهلها ورفع ما وقع على المواطنين من غبن([32]).
ويمارس (الامبودسمان) هـذه السلطات والاختصاصات عن طريق الشكاوي المقدمة من الأفراد، ضد الوزارات والمؤسسات العامة، بما في ذلك القضاء، وكذلك عن طريق التفتيش والتحقيق تمهيداً للوصول إلى الحقيقة وله الحق في توجيه الملاحظات إلى جهة الإدارة. وتعتبر الصحافة مصدراً أساسياً للأمبودسمان لكي يستقي منها المعلومات اللازمة للقيام بوظائفه.
ج- يقدم تقريراً سنوياً إلى البرلمان عن النتائج المتعلقة بأعماله وملاحظاته ويعتبر من العوامل الرادعة لجهة الإدارة.
د- صلاحية تفسير النصوص التشريعية.
ه- مراقبة المشروعية والملاءمة.
ثالثاً: تقييم هذا النظام.
ونلاحظ من وظائف واختصاصات (الامبودسمان) على أعمال السلطتين التنفيذية والقضائية وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم ورفع الظلم. فإن هذا النظام نجح نجاحاً كبيراً في السويد. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن القانون المنظم للامبودسمان اشترط صفات شخصية، فيمن يتولى هذا المنصب لا يحابي أي شخص سواء كان طبيعياً أو معنوياً لأي إنسان كما يقوم بدراسة كل حالة وكل شكوى تصله ويتولى الرد عليها بالتفصيل وهذا أعطى له هيبة كبيرة عند السويديين. فالمواطن السويدي أصبح من خلال هذا النظام مطمئناً بأن أي إساءة تصيبه من موظفي الدولة سوف يحتج عليها وذلك بأن يقوم بإبلاغ الجهة المختصة بذلك وتقوم الجهة المختصة بالبحث عن الأسباب ورفع الظلم عنه من جراء هذا العمل غير القانوني. وأخيراً يمارس (الأمبودسمان) دوراً فعالاً في مجال الإصلاح السياسي والإداري من خلال ما يضمنه في تقريره السنوي المقدم للبرلمان، وآرائه في مجال الإصلاح الإداري والسياسي.
رابعاً: الفرق بين نظام المظالم و(الامبودسمان).
من خلال الدراسة والبحث نجد أن كلا النظامين يتفقان في أن هدفهما واحد يتمثل في تحقيق سيادة القانون وحماية حقوق الأفراد، وردع الظالم ورد المظالم لأهلها، كما أنّ كلاً من والي المظالم والامبودسمان يعينان من قبل الهيئة الممثلة للشعب والخليفة الذي بايعه الأفراد في نظام المظالم والهيئة التشريعية الممثلة للشعب في نظام الامبودسمان.
ولكن يختلفان في أن اختصاص والي المظالم أعم وأشمل في رد المظالم، فلا يوجد أي شخص بعيد عن الرقابة في ظل نظام المظالم حتى الخليفة نفسه حيث يمكن مقاضاته أمام والي المظالم.
أما نظام (الامبودسمان) فيخرج من نطاق اختصاصاته الملك والوزراء وأعضاء البرلمان. كما أنه لا يملك حق توقيع العقوبة على الموظف المخطئ وكل ما يملكه إحالة الموظف للمحاكم التأديبية أو الجنائية بينما يملك والي المظالم كل السلطات بما فيها توقيع العقاب على الموظف المخطئ.
و(الأمبودسمان) لا يملك إصدار أوامر للإدارة أو إصدار قرار بدلاً منها بينما والي المظالم يملك ذلك بجانب سلطة التنفيذ كذلك.
وهكذا نرى أن نظام المظالم الإسلامي أعم وأشمل من نظام (الامبودسمان) وأكثر تفصيلاً ورقابة على كل نواحي الحياة من اختصاصات([33]) في حين نرى أن نظام (الامبودسمان) البرلماني يبدو هزيلاً جداً مع نظام المظالم الإسلامي ومن ثمَّ فهي مقارنة مع الفارق.
وأخيراً يمكننا القول بأن قضاء المظالم يعتبر نظاماً نموذجياً بالنسبة لنظام الامبودسمان وغيره من الأنظمة المعاصرة التي درسناها سابقاً والذي ما زال مطبق في بعض الدول الإسلامية كالمملكة العربية السعودية وبهذا يتضح لنا أن الدولة الإسلامية لها الفضل الكبير في إرساء فكرة الرقابة الدقيقة على أعمال الإدارة وعلى أشخاصها وعمالها مما يكفل للمواطنين حماية حقوقهم وحرياتهم الأمر الذي لم تصل إليه الدول الأوروبية إلا في وقت متأخر بكثير عن العصر الإسلامي.
الخاتمة
في بداية هذا البحث طرحنا سؤالاً رئيسياً اعتبرنا أن الإجابة عنه وما يتفرع عنها تأتي من أسباب الاهتمام بالبحث وهو هل عُرفت الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في الدولة الإسلامية؟ وهل تمثلت هذه الرقابة بقضاء المظالم؟
لقد استطعنا من خلال البحث معالجة مشروعية قضاء المظالم وأسباب قيامه، وتطوره، والبحث في اختصاصاته وسنده التشريعي وما هو قضاء المظالم والتكييف الدقيق له ومكونات قضاء المظالم وانعقاد جلساته زماناً ومكاناً، واختصاصاته والشروط الواجب توافرها لتعيين قضاة المظالم ونطاق اختصاص قضاء المظالم والمعايير المميزة لقضاء المظالم وهل قضاء المظالم قضاء إلغاء؟ أم تعويض؟ أم هما معاً؟
وقد تمت الإجابة على هذه الإشكاليات ثم تناولنا بالمقارنة والتحليل بين قضاء المظالم والأنظمة المشابهة له. وتوصلنا إلى النتائج التالية:
أولاً: إن قضاء المظالم العربي الإسلامي كان أمثولة في تحقيق العدالة اقتدت به كثير من الدول.
ثانياً: هناك تجاهل بالتطرق لقضاء المظالم وخصوصاً من بعض أصحاب الاختصاص في القانون الإداري وحاولنا سد هذا النقص ولو بالجزء اليسير الذي أوردناه.
ثالثاً: نتمنى على المشرع في دولنا العربية والإسلامية التي أخذت بنظام القضاء المزدوج أن تضمن بعض تشريعاتها وقوانينها بعض مبادئ قضاء المظالم. لكي تسد هذا النقص في تشريعاتها وقوانينها وأنظمتها الإدارية لكي تكتمل الحلقة المفقودة في قضائها.
(*) منشور في “المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية”، المجلد الخامس، العدد (1)، 1430ه/ 2009م.
الهوامش:
([1]) راجع في هذا: أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، طبعة 1386ه، 1966م، ص78.
([2]) الماوردي، مرجع سابق، ص78.
([3]) الماوردي، مرجع سابق، ص79.
([4]) لسان العرب، المجلد 12، ص373.
([5]) ابن خلدون، المقدمة، ص222.
([6]) لمزيد من التفاصيل انظر:
– د.سليمان الطماوي، الوجيز في القضاء الإداري، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1985م، ص44 وما بعدها.
– د.محمد وليد العبادي، الوجيز في القضاء الإداري، دراسة قضائية تحليلية مقارنة، الطبعة الأولى، دار المسار للنشر والتوزيع، المفرق، 2004م، ص5 وما بعدها.
([7]) الماوردي، مرجع سابق، ص77.
([8]) لمزيد من التفاصيل انظر: المادتين (21،22) من قانون استقلال القضاء الأردني رقم (49) لسنة 1972، منشور في الجريدة الرسمية، عدد (2383) تاريخ 10/10/1972م، ص 1827. ونجد أن المشرع الأردني تدخل بموجب هذه النصوص بأن حدد مدة لبقاء القاضي في منصبه ضمن الدائرة المكانية والاختصاص الزمني له.
([9]) الماوردي، مرجع سابق، ص100.
([10]) الماوردي، مرجع سابق، ص32.
([11]) ابن خلدون، مرجع سابق، ص275.
([12]) الماوردي، مرجع سابق، ص18.
([13]) لمزيد من التفاصيل انظر: د.سليمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، الطبعة الرابعة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1999م، ص34.
([14]) انظر: الماوردي، مرجع سابق، ص22-77.
([15]) الماوردي، مرجع سابق، ص97.
([16]) الماوردي، مرجع سابق، ص98.
([17]) انظر: الماوردي، مرجع سابق، ص101-104.
([18]) انظر: الماوردي، مرجع سابق، ص80-81.
([19]) راجع تفصيلاً:
– د.سليمان الطماوي، الوجيز في القضاء الإداري، مرجع سابق، ص259-264.
– د.محمد وليد العبادي، الوجيز في قضاء الإلغاء، مرجع سابق، ص209-211.
([20]) لمزيد من التفاصيل حول العيوب التي تصيب القرار الإداري انظر:
– د.محمد وليد العبادي، الوجيز في القضاء الإداري، مرجع سابق، ص290-356.
– د. أحمد الغويري، قضاء الإلغاء في الأردن، الطبعة الأولى، 1989م، مطبعة الدستور، عمان، ص324-332.
([21]) انظر: منير البياني، الدولة القانونية في النظام السياسي الإسلامي، الطبعة الأولى، الدار العربية للطباعة، بغداد، 1979م، ص408.
([22]) محمد حسين هيكل، حياة محمد صلى الله عليه وسلم، بدون طبعة، ص430-431.
([23]) للتوسع في هذا الموضوع راجع:
– د.سليمان الطماوي، الوجيز في القضاء الإداري، مرجع سابق، ص31.
– د.محمود حافظ، القضاء الإداري في الأردن، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، الطبعة الأولى، 1987م، ص 122 وما بعدها.
– د.محمد وليد العبادي، الوجيز في القضاء الإداري، مرجع سابق، ص39 وما بعدها.
– د.محمود حلمي، القضاء الإداري، الطبعة الثانية، منشورات دار الفكر العربي، القاهرة، 1997م، ص27 وما بعدها.
([24]) للتوسع ومراجعة هذا الموضوع بالتفصيل راجع:
– حميدان بن عبد الله بن محمد الحميدان، ديوان المظالم في المملكة العربية السعودية تأصيله الشرعي وتنوع اختصاصاته القضائية، مجلة جامعة الملك سعود، المجلد (7)، العلوم الإدارية (1)، ص171-219.
– حامد محمد أبو طالب، النظام القضائي في المملكة العربية السعودية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984م.
– فؤاد محمد موسى عبد الكريم، القرارات الإدارية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية، دراسة مقارنة، فهرست مكتبة الملك فهد الوطنية، 1424ه، 2003م.
– محمد شتا أبو سعد، قواعد المرافعات والإجراءات في الدعوى الإدارية أمام ديوان المظالم، مجلة الإدارة العامة، العدد (68)، ربيع الآخر، 1411ه، أكتوبر 1990م.
([25]) حامد أبو طالب، مرجع سابق، ص98 وما بعدها.
([26]) انظر تفصيلاً:
– د.محمد عبد الجواد محمد، التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1978م، ص 14 وما بعدها.
– حميدان بن عبد الله، مرجع سابق، ص182 وما بعدها.
([27]) راجع بتوسع:
– فؤاد محمد موسى، مرجع سابق، ص179 وما بعدها.
– حميدان بن عبد الله، مرجع سابق، ص182 وما بعدها.
([28]) انظر في هذا:
– د.محمد وليد العبادي، الوجيز في القضاء الإداري، مرجع سابق، ص193-194.
– عدل عليا رقم 11/95، مجلة نقابة المحامين لسنة 1997م، ص662.
– تمييز حقوق رقم 771/87، مجلة نقابة المحامين لسنة 1988م، ص760.
– تمييز حقوق رقم 810/86، مجلة نقابة المحامين لسنة 1990م، ص260.
– تمييز حقوق رقم 229/87، مجلة نقابة المحامين، ص88.
– تمييز حقوق رقم 1068/90، مجلة نقابة المحامين لسنة 1991م، ص204.
([29]) لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كلاً من:
– د.ليلى تكلا، الامبودسمان، دراسة تحليلية مقارنــة بنظام المفوض البرلماني، مكتبة الأنجلو المصريـة،1971م، ص209-217.
– د.حمدي عبد المنعم، نظام الامبودسمان أو المفوض البرلماني، مقال منشور في مجلة العدالة الصادرة عن وزارة العدل الإماراتية، العدد (23)، السنة الرابعة، أبريل (نيسان) 1980م.
– د.عبد الملك عودة، الإدارة العامة والسياسة، دراسات في البيروقراطية والاشتراكية، دون ناشر، 1963م، ص207-221.
([30]) انظر تفصيلاً:
– د. عبد الملك عودة، مرجع سابق، ص229.
– د. ليلى تكلا، مرجع سابق، ص11.
([31]) د.ليلى تكلا، مرجع سابق، ص19-20.
([32]) د.ليلى تكلا، مرجع سابق، ص20 وما بعدها.
([33]) رجع في هذا: د.حمدي عبد المنعم، مرجع سابق، ص272.
لماذا لا تكون اول معجب
بحث رائع حول التصكيك الإسلامي في ظل الازمة العالمية .
عبد القادر زيتوني / جامعة بجاية – الجزائر
(*) بحث مقدم لمؤتمر (الأزمة المالية والاقتصادية العالمية المعاصرة من منظور إسلامي) الذي أقامه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع جامعة العلوم الإسلامية العالمية، في عمّان – الأردن، ذي الحجة (1431هـ) – كانون أول (2010م).
المقدمة:
إن من نافلة القول أن ثمة اهتماماً تنظيرياً وتطبيقياً منقطع النظير بما بات يُعرف في أروقة المصرفية التمويلية المعاصرة بـ(التصكيك الإسلامي)، إذ باتت هذه الآلية إحدى أهم الابتكارات المالية الأكثر جذباً للمؤسسات المالية، وذلك في ضوء الطلب المتزايد على منتجاتها في الأسواق العالمية. إن من الآفاق الرحبة التي يمكن من خلالها تطوير العمل المصرفي الإسلامي عملية التوسع في تصكيك الاستثمارات وتسييلها وجذب المدخرات الصغيرة قبل الكبيرة.
فالتصكيك الإسلامي لن يكون أداة تمويلية فحسب، بل أنه سيعمل على تطوير العمل المصرفي، وتزويد الأسواق المالية بأدوات مالية متعددة ومتنوعة، بالإضافة إلى إيجاد مؤسسات وساطة مالية تعدّ ضرورية لقيام مثل هذه الصناعة التمويلية، ومساعدة المؤسسات المالية الإسلامية على تخطيها لمشاكل متعددة، ومنها مشكلة السيولة بشقيها إدارة الفائض منها ونقصها. وأيضاً توفير أدوات مالية لإدارة مخاطر هذه المؤسسات مما يمكنها من تلبية متطلبات معايير الكفاءة الدولية. كما ستوفر الصكوك الاستثمارية الإسلامية إطاراً إشرافياً ورقابياً ملائماً على هذه المؤسسات من قِبل البنوك المركزية.
من جانب آخر، لا يزال العالم يحاول الخروج بأقل الخسائر وبأسرع الطرق من إحدى أعنف الأزمات الاقتصادية. وفي اللحظات التي شك فيها العالم بأنظمته الاقتصادية وأساليبه المالية، حظيت المصرفية الإسلامية بنصيب جدير بالاهتمام في الدراسات الاقتصادية الغربية التي عدلت العديد من التشريعات في العديد من المؤسسات الغربية المصرفية بما لا يمنع من تبني آليات وسياسات مالية إسلامية للحد من المخاطر.
لقد أصبحت الصناعة المالية الإسلامية صناعة مالية محترفة ومتطورة وراسخة على الصعيدين الدولي والعربي في تحقيق النمو والأرباح وهي قادرة على المبادرة وتقديم حاجات لعملائها وأصبحت تجربة رائدة. إن جميع ما ذكر لا يشكل إنجازاً إذا قيس بما حققته الآلية التي نحن بصدد الحديث عنها بل يعتبر توطئة لظهورها حيث غيرت هذه الأداة وجه الصيرفة الإسلامية في العالم وحققت لها من الذيوع والشيوع ما لم تحققه جميع أدوات الصيرفة الإسلامية. بل إن هذه الآلية هي التي خلقت إمكانية التوسع والقبول للصيرفة الإسلامية في مختلف دول العالم وفي ظل الأزمة التي يعيشها.
تهدف هذه الدراسة بشكل أساسي إلى إبراز دور التصكيك الإسلامي في دعم مسيرة تطور الصناعة المصرفية الإسلامية في ظل الأزمة العالمية. وتحديداً سيتم تناول التصكيك الإسلامي من حيث مفهومه، وضوابطه، وآلياته، ودوره في دعم تطور الصناعة المصرفية الإسلامية، بالإضافة إلى الحديث عن واقع التصكيك الإسلامي ودوره في علاج الأزمة العالمية والوقاية منها.
أولاً: التصكيك الإسلامي – مفهومه وضوابطه وآلياته:
التصكيك الإسلامي موضوع متشعب وكبير، والتطورات فيه متسارعة متعاقبة على نحو فاق التوقعات، بل أصبح التصكيك الإسلامي من أكثر منتجات المصرفية الإسلامية المعاصرة نمواً واتساعاً. وعليه فقد غدا التصكيك الإسلامي حيث الساعة، وأصبح التصور العام له من الأهمية بمكان للعاملين والمهتمين بالمصرفية الإسلامية.
وبناء على ما سبق، سنتناول مفهوم التصكيك الإسلامي وآلياته وضوابطه في ما يلي.
1. مفهوم التصكيك الإسلامي:
يعرف التصكيك الإسلامي بأنه عملية تحويل الأصول المقبولة شرعاً إلى صكوك مالية مفصولة الذمة المالية عن الجهة المنشئة لها، وقابلة للتداول في سوق مالية شريطة أن يكون محلها غالبه أعيانا وذات آجال محددة بعائد غير محدد أو محدد ولكن ليس خاليا من المخاطر.[1] ويعرف أيضاً بأنه عملية تقسيم ملكية الأصول والموجودات المالية إلى أجزاء يمثل كل منها صكا قابل للتداول لأغراض الاستثمار في سوق المال وفق الضوابط والمعايير الشرعية.[2]
إن المتمعن في هذه التعاريف سيجد أن للتصكيك الإسلامي خصائص تميزه عن التصكيك التقليدي وذلك رغم التماثل الكبير بينهما من حيث الإجراءات، ولعل أهم ما يتباين فيه هذان المفهومان ما يلي:
أ- ترتكز عملية التصكيك الإسلامي على موجودات حقيقية[3] تكون متوافقة تماما مع أحكام المعاملات الإسلامية الأساسية، وهذا عكس التصكيك التقليدي الذي يقوم غالبا على تصكيك الديون.
ب – يحصل حاملو الصكوك الناتجة عن عملية التصكيك التقليدي على فوائد محددة مسبقا بالإضافة إلى أصل الدين، وعلى غرار ذلك يعتمد العائد الذي يحصل عليه حامل الصك الناتج عن عملية التصكيك الإسلامي على ما تحققه تلك الأصول من ربح أو خسارة.
ج – من أهم مكونات صفقة التصكيك التقليدي التعزيزات الائتمانية، أما في التصكيك الإسلامي فالوضع يختلف إذ العلاقة ليست علاقة دائنية وإنما هي مشاركة في الأصول واستحقاق للربح أو الخسارة وبالتالي لا توجد حاجة لمثل تلك التعزيزات.[4]
2. آلية إصدار الصكوك الإسلامية:
تشتمل عملية إصدار الصكوك[5] على خطوات أولية يطلق عليها تنظيم الإصدار وتتلخص فيما يلي:
أ) إعداد التصور والهيكل التنظيمي الذي يمثل آلية الاستثمار بواسطة الصكوك ودراسة المسائل القانونية والإجرائية والتنظيمية ودراسة الجدوى، وتضمين ذلك كله في نشرة الإصدار. ب) تمثيل حملة الصكوك (المستثمرين) وذلك من خلال تأسيس شركة ذات غرض خاص. جـ) طرح الصكوك[6] للاكتتاب بهدف جمع الأموال التي ستمول بها الموجودات الممثلة بالصكوك. د) تسويق الصكوك. هـ) التعهد بتغطية الاكتتاب: قد لا يتم الاكتتاب بكامل الإصدار من الصكوك مما يستدعي وجود جهة تلتزم بتغطية الاكتتاب بهذا الجزء غير المكتتب به، ومن ثم بيعه للمستثمرين الآخرين.
تأتي بعد هذه الخطوات التحضيرية لإصدار الصكوك مرحلة الاكتتاب التي تشكل مرحلة التعاقد الفعلي بين مالك المشروع والمستثمرين (حملة الصكوك)، ثم تأتي ترتيبات ما بعد الاكتتاب.[7] هذا وتشمل الأطراف في هيكل التصكيك كل من: المنشىء، المصدر والمستثمرين، ويمكن أن يشمل أيضا بالإضافة إلى ذلك ما يلي: واحدة أو أكثر من وكالات التصنيف الائتماني لتصنيف الأوراق المالية (الصكوك)، ومصرف استثماري للتصرف بصفته مستشارا أو لطرح الصكوك للمستثمرين.
3. ضوابط عملية التصكيك الإسلامي:
إن الصكوك القائمة على أساس عملية التصكيك تصدر بالاستناد لعقد شرعي على أساس صيغة من صيغ التمويل الإسلامية. تخضع عملية التصكيك لضوابط ومعايير يجب مراعاتها لتكون متوافقة مع أحكام الشريعة الغراء، وتتمثل هذه الضوابط فيما يلي:[8]
أ) أن تكون نوعية الأصول المصككة من الأصول المباحة شرعا. ب) أن يكون بيع الأصول المراد تصكيكها مبنية على الديون في الذمم من المنشىء إلى شركة التصكيك نقدا للابتعاد عن بيع الدين بالدين. جـ) أن تكون خطوات وهيكل التصكيك مقبولة شرعا. د) عنصر الملكية للأصول لتصح عملية البيع والشراء وتسوغ الاستفادة من العوائد. هـ) يجب أن يراعى في إصدار الصكوك مبدأ الأولويات في الاقتصاد الإسلامي. و) يجب النظر في مآلات عملية التصكيك ومدى ملاءمتها للمصلحة العامة.
4. مزايا التصكيك الإسلامي:
توفر عملية التصكيك مزايا عدة للمتعاملين فيها، وهذه هي:
أ. المُصدر الأصلي:
تساعد عملية التصكيك في المواءمة بين مصادر الأموال واستخداماتها. يضاعف التصكيك من قدرة المنشآت على خلق الأموال أي تحريرها لتأمين السيولة اللازمة لتمويل احتياجاتها المختلفة، هذا إضافة إلى تنويع مصادر التمويل. ويعتبر التصكيك وسيلة جيدة لإدارة المخاطر الائتمانية نظرا لأن الأصل محل التصكيك مخاطره محددة.
ب. المستثمرون:
ينتج التصكيك أداة قليلة الكلفة مقارنة بالاقتراض المصرفي وذلك لقلة الوسطاء والمخاطر المالية المرتبطة بالورقة المالية المصدرة. وتتميز أداة التصكيك بأنها غير مرتبطة بالتصنيف الائتماني للمصدر، حيث أنها تتمتع بتصنيف إئتماني عالي نتيجة دعمها بتدفقات مالية محددة. وللصكوك الإسلامية تدفقات مالية يمكن التنبؤ بها. وتوفر عمليات التصكيك فرصا استثمارية متنوعة للأفراد والمؤسسات والحكومات بصورة تمكنهم من إدارة سيولتهم بصورة مربحة.
ج. الاقتصاد الكلي:[9]
تقوم الصكوك الإسلامية بدور هام في تعبئة الموارد المكتنزة لدى المسلمين، وتشجعهم على رفع معدلات الادخار والاستثمار. وتتميز الصكوك الإسلامية بتنوعها الأمر الذي يجعلها تلائم قطاعات اقتصادية واسعة. وتوفير التمويلات اللازمة لمشاريع البنية التحتية. ومعالجة قصور التمويل الحكومي، حيث تساهم الصكوك في نقل عبء تمويل ومخاطر التشغيل التجاري الخاصة بمشروعات البنية الأساسية إلى عاتق القطاع الخاص.[10]
ثانياً: التصكيك الإسلامي ودوره في دعم تطور الصناعة المصرفية الإسلامية:
تعتبر عملية التصكيك الإسلامي أداة محورية في دعم نشاط الصيرفة الإسلامية يمكن من خلالها تطوير هيكل الموارد والاستخدامات للمصارف الإسلامية، وكذا تفعيل دورها الاستثماري والتمويلي وتخفيف المخاطر فيها هذا إلى جانب الحد من مشكلة السيولة.
1. دور التصكيك في حل مشكلة السيولة في المصارف الإسلامية:
لقد كان التحدي الأساسي للمصارف الإسلامية هو كيفية إجراء مختلف عمليات الوساطة المالية من حشد للمدخرات وتوظيفها دون اللجوء لآلية سعر الفائدة. ولهذا كانت البداية مصرفية بصياغة العقود الإسلامية للتمويل والبيوع والاستثمار في جانبي حشد وتوظيف الموارد بالمصارف الإسلامية. ومع التطور الكبير طرأت حاجات جديدة لهذه المؤسسات في إطار تأقلمها المستمر مع متغيرات البيئة المالية الدولية تتمثل في الحاجة لأدوات لإدارة السيولة ودعم الربحية على المستوي القصير وكذلك لتوفير تمويلات مستقرة في الأجلين المتوسط والطويل للمشروعات الكبرى سواء الخاصة أو الحكومية.
واستجابة لذلك تم تطوير الأدوات الإسلامية المستندة على عمليات أسواق رأس المال فكانت الصكوك مختلفة الآجال، وذلك على خلفية انتشار فكرة الأسواق المالية في مختلف الأقطار الإسلامية. ومما ساعد على انتشارها الاستخدام المكثف لها من قبل الحكومات الإسلامية في كثير من الدول لأغراض إدارة موازناتها العامة بعيدا عن الأدوات التقليدية. ومع التطور الهائل للمصارف الإسلامية ونجاحها عالميا، تراكمت لهذه المؤسسات أصولا ضخمة من الذمم والتمويل والاستثمارات بجانب الموجودات الأخرى في ميزانياتها السنوية بصورة جعلت العائد على هذه الموجودات يتناقص باستمرار بسبب صعوبة تدوير هذه الأصول وتسييلها لإعادة استخدامها استجابة لحاجات العملاء.
وتزامنا مع هذه الظروف ظهرت عملية التصكيك الإسلامي كإحدى أهم الابتكارات التي جادت بها الصناعة المصرفية الإسلامية والتي تمت هيكلتها للمساهمة وبشكل أساسي في إدارة السيولة لدى المصارف الإسلامية. إذ تمكن عمليات التصكيك المصارف والمؤسسات المالية من تسييل الأصول غير السائلة في ميزانيتها وتحويلها إلى أصول قابلة للتداول في الأسواق المالية، واستخدام السيولة المتوفرة في إعادة الاستثمار وزيادة حجم عملياتها وأنشطتها دون الحاجة إلى زيادة رأس المال أو زيادة حجم الودائع.
ومن ناحية أخرى، يتيح وجود الأوراق المالية (الصكوك) للمصارف والمؤسسات المالية المجال لإدارة سيولتها بكفاءة عالية وذلك نتيجة لما يلي: تنوع الأدوات الاستثمارية المتاحة للاستثمار، والتنوع بالآجال والأدوات المتاحة للاستثمار ، وتجنب عدم التوافق بين استحقاق الموجودات والمطلوبات. ويساعد وجود التصكيك المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية على استغلال السيولة الفائضة وبالتالي المنافسة في الأسواق المالية المحلية والدولية. ويساعد وجود أدوات التصكيك وتنوعها وتعدد أجالها في تعميق وتطوير السوق الثانوي اللازم لتداول الأدوات المالية في الدول الإسلامية.
2. دور التصكيك في إدارة المخاطر في المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية:
أ – إدارة مخاطر الائتمان:تمكن الإدارة الجيدة لعمليات التصكيك المصارف من حسن إدارة مخاطر الائتمان ويظهر ذلك من خلال ما يلي: تخفيض مستوى التركز الائتماني من خلال تجميع حجم كبير من الموارد المالية لإعادة استثمارها في عمليات جديدة وتنويع عملياتها، ووجود جهات تعزز الضمان للائتمان[11] للأوراق المالية المصدرة، وتساعد عمليات التصكيك في تشجيع المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية على تمويل مختلف القطاعات مثل الصناعة والزراعة والإنشاءات والنقل والاتصالات والتجارة والائتمان وغيرها، والتنويع حسب العملاء والأدوات والقطاعات والأسواق، ويوفر التصكيك تنوعا في الأدوات الاستثمارية المتاحة من حيث العائد والمخاطر والضمان.
ب – إدارة مخاطر أسعار الصرف: يساعد توفر الأدوات الاستثمارية وتنوعها من حيث العملات والأصول الاستثمارية المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية في إدارة مخاطر أسعار الصرف وغيرها.
ج – تحسين نسبة كفاية رأس المال: وذلك بإخراج بعض أصول المصرف ذات المخاطر العالية من الميزانية مما يؤدي إلى انخفاض الأصول المرجحة بالمخاطر، ومن ثم ارتفاع نسبة كفاية رأس المال.
د – تكلفة الحصول على التمويل: تساعد عملية التصكيك في تمكين المصارف والمؤسسات المالية من الحصول على التمويل بتكاليـف منخفضة. ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى ارتفاع مستوى التصنيف الائتماني للإصدارات، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين العائد على الإصدارات من الصكوك.
هـ – تكلفة الوكيل: ففي آليات التصكيك لا توجـد مشكلة الوكيل نظرا لعزل أصول المحفظة عن أصول المصرف ودور الإدارة سلبي يقتصر على متابعة المحفظة.
و – الإفصاح ونشر المعلومات: حيث تتيح آلية التصكيك مزيدا من المعلومات وتماثل كبير في الأدوات المصككة، كما أنها تتيح توفير المعلومات حول التدفقات النقدية، وهو ما يساعد على رفع المستوى الائتماني لآلية التصكيك بما يحسن مستوى الإيراد للصكوك.
وبالإضافة لما سبق نذكر كذلك: التنويع في مصادر الدخل والتطور التقني.
3. دور التصكيك في تفعيل الاستثمار طويل الأجل في المصارف الإسلامية:
يعد النشاط الاستثماري في المصارف الإسلامية بمثابة البديل الشرعي للتعامل الربوي في مجال التمويل في البنوك التقليدية. ويجد هذا النشاط اهتماما كبيرا من قبل الإدارة تخطيطا وتنفيذا ومتابعة بحيث يتماشى مع مقتضيات ومبادئ الشريعة الإسلامية ويجاري احتياجات العملاء ومتطلباتهم. إلا أن الاستثمار قصير الأجـل يمثل السمة الغالبة لاستثمارات هذه المصارف[12] على حساب الاستثمار طويل الأجل الذي لم يحظ بأي أهمية تذكر. فمدخلات المصارف الإسلامية تعامل في الغالب معاملة الحسابات الجارية في حق السحب، الأمر الذي أوقع تلك المصارف في أزمة، فبينما كانت مدخلاتها قصيرة الأجل كانت أهدافها الاستثمارية طويلة الأجل، فتحولت من الأسلوب الاستثماري طويل الأجل إلى الأسلوب التجاري قصير الأجل بحثا عن السيولة والربحية[13]. وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت المرابحة بديلاً للائتمان في جانب المخرجات، وفي المقابل أصبحت الودائع الجارية في جانب المدخلات، فتحولت المصارف الإسلامية إلى صورة شبيهة بالمصارف التقليدية، كما أن الوضع التطبيقي لهذه المصارف جاء متناقضا تماماً مع التصورات النظرية المسبقة، والتي أفرطت في إعطاء دور اقتصادي واجتماعي لهذه المصارف حال قيامها، والتي كان من أهمها قدرة هذه المصارف على الاعتماد بصورة أساسية على التمويل بالمشاركة، والقيام باستثمارات طويلة الأجل بصورة كبيرة.
ولمعالجة هذا الخلل وإعادة التوازن إلى نشاطات تلك المصارف كان لابد من إحداث تغيير في أساليب التمويل، فكانت عملية التصكيك الإسلامي كأحد أبرز هذه الأساليب، إذ أنه يمكن للصكوك الناتجة عن تلك الآلية (التصكيك) أن تقدم تمويلا طويل ومتوسط الأجل. ومن ثم يمكن للمصارف الإسلامية أن تعيد التوازن لاستثماراتها من خلال توظيف الأموال المودعة لديها في صكوك استثمارية طويلة الأجل مثل صكوك الاستثمار في مشروعات قطاعية[14] وهي صكوك ترتبط بالنشاط الاقتصادي الذي سيتم توظيفها فيه، إذ يقوم البنك الإسلامي بتقديم التـمويل للمشروعات الاقتصادية في الزراعة والصناعة والخدمات الإنتاجية ومن ثم إصدار صكوك تمويل واستثمار خاصة بهذه الأنشطة القطاعية.
4. دور التصكيك الإسلامي في توفير إطار ملائم للتعامل بين البنك المركزي والمصارف الإسلامية:
إن العلاقة بين البنوك المركزية والمصارف الإسلامية تنبع من أهمية إشراف المصارف المركزية على المصارف الإسلامية لضمان حسن سير أعمالها والاطمئنان على أوضاعها المالية وضمان حقوق أصحاب الحسابات لديها. إلا أن المصارف الإسلامية تعاني من خضوعها لنفس أدوات السياسة النقدية التي تطبق على المصارف التقليدية، وأن بعض هذه الأدوات ما هو قائم على الربا كسعر إعادة الخصم، والمقرض الأخير، والنسب الائتمانية التي لا تتناسب مع طبيعة العمل المصرفي الإسلامي، الأمر الذي يزيد مع تعقيد طبيعة العلاقة بين البنك المركزي والمصارف الإسلامية. وفيما يلي نتناول سياستين من سياسات البنك المركزي ودور عملية التصكيك الإسلامي في تقديم البدائل:
أ. سياسة الملجأ الأخير للسيولة:
تقوم البنوك المركزية بوظيفة المقرض الأخير للبنوك التجارية بحيث تقدم لها قروضا في أوقات تقل فيها السيولة. وبالرغم من أن معظم البنوك الإسلامية تعمل تحت إشراف البنك المركزي إلا أنها لا تستطيع شرعا الاستفادة من هذه التسهيلات لأن هذه الأموال تقدم على أساس الفائدة. وللتغلب على هذه المشكلة كان لابد من إيجاد بدائل، لذا اقترح مجلس الفكر الإسلامي بباكستان آلية لتقاسم الأرباح بحيث يمكن حساب الأرباح على أساس الناتج اليومي[15]، إلا أنه يؤخذ على هذا الأسلوب إضافته لأعباء جديدة تتمثل في دراسة المشروع المطلوب له السيولة وإدارة ومتابعة المشروع، أيضاً مما يؤخذ عليه ما يتعلق بعملية استرداد البنك المركزي لهذه السيولة، فمن المعروف أن البنك المركزي يمنح تلك السيولة لآجال قصيرة بينما يقتضي تمويل هذه المشروعات آجال طويلة أو متوسطة الأجل ومن ثم فسوف تكون هناك قيوداً تتعلق باسترداد البنك المركزي لأمواله.
وهناك اقتراح آخر بإنشاء صندوق مال مشترك من طرف البنوك الإسلامية تحت إشراف البنوك المركزية لتوفير العون المالي من بعضها البعض عند حدوث مشكلات في السيولة وذلك على أساس تعاوني، إلا أن هذا الأسلوب سيؤدي بتلك المصارف إلى الاحتفاظ بهذه الأموال بصورة موارد مجمدة لدى البنك المركزي مما يعمل على خلق مشكلة أخرى لهذه المصارف، وهي زيادة حجم الموارد المعطلة وهو ما يضيف عبئاً جديداً إلى التزامات هذه المصارف، إضافة إلى ما يترتب على ذلك الأمر من حرمان المصارف الإسلامية والمجتمع من فرص استثمار هذه الموارد.
وفي هذا الصدد يمكن للصكوك الاستثمارية القابلة للتداول أن تشكل البديل الملائم، فالمصارف الإسلامية تستطيع أن تبيع الصكوك التي بحوزتها للبنك المركزي عند حاجتها للسيولة بدلاً من عرضها مباشرة في الأسواق الثانوية وذلك لئلا تحدث انخفاضاً في أسعار هذه الأوراق نتيجة زيادة المعروض منها فيشتريها البنك المركزي، ومن ثم يمكن إعادة بيعها في الأسواق المالية مباشرة أو فيما بعد.[16]
ب. عمليات السوق المفتوحة:
من المعلوم أن تأثير هذه الأداة ينعدم على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية وذلك لكون الأصول التي تمتلكها لا تتضمن السندات التي يتعامل بها البنك المركزي. لذا قام عدد من الباحثين والمؤسسات المصرفية في السنوات القليلة الماضية باستحداث عدد من الصكوك كان من ضمن أغراضها الاستخدام كبدائل للسندات الحكومية الربوية المتعامل بها في الأسواق النقدية كأدوات للتحكم في حجم المعروض النقدي. ومن أمثلة هذه الصكوك: صكوك المضاربة وأسهم المشاركة في شركات استثمارية وصكوك للمشاركة في عمليات إجارة على أصول عينية متنوعة.[17]
فإذا أراد البنك المركزي أن يزيد العرض النقدي فإنه سيتجه إلى شراء الأسهم والصكوك المملوكة للبنـوك والمؤسسات المالية والأفراد، وذلك بالقيمة السوقية لهذه الصكوك أو بأعلى منها ويدفع قيمة هذه الصكوك نقداً، ويقوم مستلمو هذه المبالغ بإيداعها في البنوك، وتتم عملية توليد الائتمان عندما تتسلّم البنوك التجارية هذه الودائع. فإذا ما قابل ذلك العرض طلب على الائتمان فإن ذلك سيعمل على إجراء توسع في كمية النقود. وتتحقق النتيجة ذاتها إذا قام البنك المركزي بشراء هذه الصكوك من الحكومة مباشرة، لأن الحكومة ستستخدم هذه المبالغ في الإنفاق العام فيترتب على هذا الإنفاق زيادة الدخول في شكل أجور ومرتبات أو إيجارات تودع مرة أخرى في البنوك. بينما يحدث العكس إذا أراد للبنك المركزي تقليص حجم المعروض النقدي.
5- دور التصكيك الإسلامي في تطوير السوق المالية الإسلامية:
إن النجاح في إنشاء السوق المالية الإسلامية ثم بقاؤها ونموها على المدى الطويل لن يعتمد على وجود تشريعات تحميها أو هيكل تنظيمي جيد لإدارة شؤونها بقدر ما يعتمد على اختصاصها بمزايا غير متوافرة في السوق المالية التقليدية، وعلى ذلك فإن قيام السوق المالية الإسلامية ونمو نشاطها في البلدان الإسلامية وفي الخارج أيضا يعتمد على تقديمها لخدمات جديدة واختصاصها لمزايا فريدة يتيحها لها جوهر المفهوم الإسلامي وهو الدور الذي يمكن أن تحققه آلية التصكيك الإسلامي، حيث أن استخدام الصكوك والتوسع في التعامل بها من قبل المدخرين والمستثمرين والمصارف والحكومة يؤدي إلى تدعيم دور السوق المالية، وذلك من خلال:[18]
أ. توسيع تشكيلة الأدوات المالية الإسلامية في السوق التي تشمل صكوك الشركات، صكوك البنوك الإسلامية والصكوك الحكومية.
ب. توسيـع قاعدة المؤسسـات المشتركة في السوق المالي والتي تتعامل في الصكـوك الإسلامية إصدارا وتداولا وتشمل المصارف الإسلامية بل والتقليدية أيضا (كما هو الحال في ماليزيا) وشركات الاستثمار المؤسسي والحكومة وكذا القطاع الخاص والمؤسسات المالية الوسيطية، وذلك إذا تمتعت الصكوك بالتداول في السوق المالية.
ج. كما ترتفع كفاءة السوق المالية الإسلامية بازدياد كمية ونوعية الصكوك الإسلامية لما يترتب عليها من تعميق للسوق واتساعه.
د. إضافة مؤسسات مالية جديدة، إذ إن هيكل عملية التصكيك يتم من خلال كل من موجد العملية (المصدر الأصلي)، والمنشأة ذات الغرض الخاص، ومتعهد تغطية الاكتتاب، ومتعهد إعادة الشراء، ووكيل الدفع، وكذا الأمين.
ثالثاً: واقع التصكيك الإسلامي ودوره في الوقاية وعلاج الأزمة العالمية والوقاية منها:
صدق من قال “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فالأزمة العالمية الراهنة خلقت فرصا استثمارية ضخمة في الغرب. ونظرا لحاجة تلك الدول للسيولة وحاجة الدول الإسلامية لاستثمار ثرواتها فإنه يمكن القول أن الصيرفة الإسلامية ستحظى بترحيب أكبر في الدول الغربية. وتعتبر سوق الصكوك الإسلامية المتنامية إحدى أهم المجالات التي ستعطي دعما قويا للعمل المصرفي الإسلامي في ظل هذه الأزمة، وذلك من خلال جذب المستثمرين الدوليين الأكثر حرصا في الدخول في استثمارات أقل مخاطرة.
فبعد مضي أكثر من عامين على الأزمة المالية لا يزال العالم غير مطمئن إلى ما ستؤول إليه الأمور، إذ لا تزال العديد من الشركات والبنوك تعلن إفلاسها لأسباب عدة، أبرزها ما يعرف بفلسفة التوسع بالدين[19] أو ما يعرف بالتوريق (التصكيك التقليدي) الذي يعتبر أحد الآليات المرتبطة بأسواق الأوراق المالية الثانوية. حيث ساعد التوسع بالديون من خلال توريقها[20] وتسييلها بالبيع على زيادة حجم الفقاعة في سوق الائتمان. فالسلع والخدمات لم تعد مقصودة لأن الناس تتبادل أوراق الدين وتتاجر بها مما مزق كل ارتباط بين سوق النقود وسوق السلع والخدمات، فانهارت بذلك الشركات والمؤسسات الإنتاجية لأن الطلب على سلعها لم يعد مباشرا، وإن قُصد فإن الاتجار به يكون ببيوع مستقبلية مما ساعد على مزيد من الخلخلة في الأسواق. هذا وقد أدى فصل الرهن[21] الذي يعتبر من لوازم توثيق الدين والتصرف به بيعا وشراء إلى مزيد من التوسع في الدين.
من ناحية أخرى، لقد أضفت الأزمة المالية العالمية على المصارف الإسلامية بمزيد من الاهتمام والقبول الواسع إقليميا وعالميا. ويتوقع أن يكون هناك إقبال أكبر خلال المرحلة المقبلة على المنتجات الإسلامية ومنها الصكوك، خاصة إذا ما توجهت الحكومات العربية والإسلامية لهيكلة تمويل المشاريع الضخمة في بلدانها من خلال إصدار الصكوك ليتم تغطيتها من خلال البنوك الإسلامية، الأمر الذي سيسهم في توفير السيولة لمشاريع التنمية بما يسهم في التخفيف من آثار الأزمة في دول المنطقة. هذا ويتوقع أيضا أن تلاقي المصارف الإسلامية إقبالا كبيرا من المجتمعات غير المسلمة من أنحاء مختلفة، نظرا لشفافية معاملاتها وقيمها ومستوى خدماتها.
وعليه، لقد تجدّد اهتمام العالم بآليات التصكيك الإسلامي بعد تعمق الأزمة المالية العالمية في محاولة لتوفير السيولة والحد من تداعيات الانهيارات المالية. وتحاول الدول الغربية الاستفادة من الطلب على المنتجات المالية الإسلامية في منطقة الخليج لإطلاق صكوك إسلامية للحصول على سيولة لتمويل المؤسسات العالمية التي تضررت من أزمة الرهن العقاري. ونظرا للاستثمارات الضخمة التي تعتزم دول الخليج إقامتها فإنه من المرتقب أن تشهد آلية التصكيك الإسلامي تطورات متزايدة.
ورغم ما يشهده الاقتصاد العالمي في الآونة الأخيرة من انتكاسات في أسواقه المالية، فإننا نجد أن الصكوك الإسلامية تحقق معدلات مرتفعة في حجم إصدارها وانتشارها، ليس فقط في السوق الإقليمية أو في البلدان الإسلامية، بل حتى في دول غير إسلامية، ولعل من أهم المؤشرات التي تؤكد ذلك ما يلي:
1. تنامي حجم سوق التصكيك الإسلامي:
لقد باتت الصكوك الإسلامية أكثر أدوات التمويل الإسلامي توسعا، حيث يشهد سوق التداول الخاص بها نموا سريعا بمتوسط 35 % سنويا لا سيما في منطقة الخليج العربي، حيث قفز حجم الإصدارات في سوق التصكيك الإسلامي في غضون أقل من عشر سنوات من 997 مليون دولار إلى أكثر من 26 مليار دولار، وهو ما يبرز الدور الريادي لهذه الأداة في ترسيخ قواعد الصناعة المصرفية الإسلامية على المستوى العالمي.
وقد سجل سوق الصكوك معدلات نمو سنوية مرتفعة خصوصا خلال سنتي 2003م و 2006م حيث تجاوز معدل النمو 819 % و 136 % على التوالي مما يبرز أن هناك إقبالا كبيرا للتعامل في الصكوك الإسلامية. ولقد تم تسجيل أكبر حجم إصدار سنة 2007م بقيمة تجاوزت 48 مليار دولار، وقد تزامن هذا كله مع الطفرة النفطية، حيث سعت المؤسسات المالية الإسلامية في هذه الدول سعيا متزايدا إلى العثور على فرص لتوظيف أموالها في استثمارات شرعية، وهو ما وفرته الصكوك الإسلامية. والملاحظ أيضا أن إصدار هذه الصكوك بعد أن بلغ ذروته في عام 2007م سجّل بعد ذلك تراجعا في حجم الإصدار بنسبة فاقت 60% عام 2008م. وقد يتبادر إلى الذهن إلى أن الأزمة العالمية هي السبب الرئيس في ذلك، ولكن المتتبع للأحداث سيجد أن الأزمة لم تك إلا سببا جانبيا، وأن الأسباب الحقيقية وراء هذا التراجع تعود إلى بعض المخالفات الشرعية، وغياب الإطار التشريعي أو عدم استكماله في بعض الدول الإسلامية، إضافة إلى محدودية الأسواق المالية، وافتقارها إلى المؤسسات البنية التحتية المساندة لها، وقلة الموارد البشرية المؤهلة للعمل في هذه الصناعة وغير ذلك.
ومن دلائل تنامي أهمية الصكوك على المستوى العالمي تأسيس مؤشر “داو جونز سيتي غروب” للصكوك والذي أطلق في ذروة نمو هذه السوق، والذي يقيس أداء الصكوك العالمية المتوافقة مع الشريعة. ويتكون المؤشر من سندات إسلامية مقيمة بالدولار الأمريكي. وقد تم إيجاد هذا المؤشر ليكون مرجعية للمستثمرين الباحثين عن استثمارات ذات دخل ثابت متوافقة مع الشريعة، كما أنه يعمل على زيادة التداول في السوق الثانوية.
2. الحاجة إلى مصدر لتمويل مشاريع البنية التحتية:
إن من المؤشرات الدّاعمة لنمو الطلب على الصكوك الإسلامية ارتفاع الطلب العالمي على أدوات الاستثمار ووجود إقبال متنامي من قبل الحكومات على إصدار صكوك لتمويل مشاريع البنية التحتية خصوصا في منطقة الخليج العربي التي تعتزم القيام بمشروعات بقيمة 800 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، حيث ترسخت القناعة بأهمية الصكوك كأداة تمويلية تتميز بأنها مدعومة بأصول حقيقية وذات مخاطر منخفضة وبالتالي فهي مصدر مهم لضخ الأموال في المشاريع والتوسعات الكبرى، ومن الأمثلة التي تشير إلى لجوء الحكومات إلى إصدار صكوك لتمويل مشاريع البنية التحتية نذكر:
أصدرت شركة “باوستهد” القابضة في ماليزيا صكوكا بمبلغ 1.3 مليار دولار لإنشاء محطة طاقة. كما أصدرت قطر صكوكا بقيمة 137 مليون دولار لإنشاء مدينة حمد الطبية بالدوحة. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة عدة إصدارات إسلامية من أهمها إصدار لصالح شركة طيران الإمارات بمبلغ 500 مليون دولار. كما قام بنك دبي الإسلامي بإصدار صكوك إجارة لصالح هيئة الطيران المدني بدبي لتطوير وتوسيع مطارها وبلغ حجم الإصدار 750 مليون دولار. ومن المشاريع الضخمة في أبو ضبي والتي ينتظر أن يتم تمويلها عبر إصدارات الصكوك مشروع ميناء الخليفة والمنطقة الحرة بحوالي 10 مليار دولار. وقد أصدرت البحرين صكوك إجارة بقيمة 750 مليون دولار لتوفير الموارد اللازمة للحكومة لإنشاء بعض المشاريع خاصة مشاريع المرافق الأساسية. وفي تركيا أصدرت صكوك مشاركة بمبلغ 200 مليون دولار لتمويل بناء جسر معلق على مضيق البوسفور. هذا وتعتزم دولة قطر اللجوء إلى سوق الصكوك الإسلامية لتمويل ما يصل إلى 60 مليار دولار من مشروعات الطاقة، بينما أعلنت دولة الكويت أنها تحتاج إلى استثمار 64 مليار دولار على الأقل في السنوات المقبلة لتطوير صناعة الطاقة.
3. الطفرة النفطية لدول الخليج:
تشهد سوق الأدوات المالية الإسلامية رواجا واسعا في وقتنا الراهن. ونظرا لفيض السيولة التي أغرقت به المؤسسات المالية الإسلامية بفضل الطفرة النفطية الجارية، تسعى هذه المؤسسات سعيا متزايدا إلى العثور على فرص لتوظيف رأسمالها الفائض في استثمارات تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. وبالمثل، هناك إقبال متزايد من صناديق التحوط ومؤسسات الاستثمار التقليدي على الأوراق المالية الإسلامية سعيا لزيادة العائد وتنويع الاستثمارات، وهو ما أدى إلى طفرة في معاملات التصكيك الإسلامي تمخضت عن زيادة إصدارات الصكوك الإسلامية بمقدار أربعة أضعاف من 7.8 مليار دولار عام 2004م إلى 28.5 مليار دولار عام 2007م.[22]
4. نمو المصرفية الإسلامية:
إن من المؤشرات الداعمة لزيادة الطلب على الصكوك حتى في ظل هذه الأزمة هو الاهتمام الكبير التي تحظى به أدوات المصرفية الإسلامية، حيث تشهد نموا متسارعا في الوقت الحاضر ليس بسبب تنامي السيولة المالية في دول المنطقة فحسب، بل بسبب توسع رقعة الحلول والمنتجات المالية الإسلامية التي تواكب احتياجات قطاعات واسعة من المستثمرين سواء الحكومات أو الشركات أو المؤسسات المالية الإسلامية نفسها.
رابعاً: دور التصكيك الإسلامي في معالجة آثار الأزمة والوقاية منها
1. دور التصكيك في توفير السيولة لتمويل المؤسسات المتضررة من الأزمة:
أفرزت الأزمة المالية العالمية أزمة سيولة خانقة تضررت جرّاءها العديد من الشركات الغربية، وهنا توجهت الأنظار إلى أساليب التمويل الإسلامي التي باتت تحظى بقبول واسع من قبل الغربيين خصوصا ما يعرف بالصكوك الإسلامية التي تعد واحدة من أهم الأدوات التي باتت تعطي دعما قويا للصناعة المصرفية الإسلامية، في وقت قيدت فيه الأزمة العالمية وسائل التمويل التقليدية لتلك الشركات. هذا وترى وكالة ستاندرد آند بورز أن الدول الغربية تحاول الاستفادة من الطلب على المنتجات المالية الإسلامية في منطقة الخليج لإطلاق صكوك إسلامية بغية الحصول على السيولة لتمويل المؤسسات العالمية التي تضررت من أزمة الرهن العقاري، حيث أصدرت شركة التجزئة البريطانية “تيسكو” أول صكوك لها في عام 2007م لصالح وحدتها الماليزية وباعت أيضا أوراقا مالية تقليدية.
2. تمويل عجز الموازنة العامة:
لقد بات عجز الموازنة واحدا من أهم المشاكل الاقتصادية التي أرّقت وأثقلت كاهل الحكومات، حيث تواجه العديد من الدول صعوبات كبيرة في الحصول على موارد لتمويل عجزها خصوصا في ظل الأزمة الحالية* [23] التي أفرزت شحا كبيرا في موارد التمويل، وهنا توجهت الأنظار إلى الصكوك الإسلامية كإحدى الفرص الهامة التي يمكن أن تستفيد منها تلك الحكومات لتوفير ما تحتاجه من موارد بغرض تمويل العجز. إذ تعتزم الحكومة الأردنية إصدار صكوك إسلامية بقيمة 1.5 مليار دولار لتمويل العجز الموازني المقدر بـ 1.7 مليار دولار، حيث أن بيع هذه الصكوك سيتيح للحكومة الأردنية الحصول على أموال من المؤسسات المالية الإسلامية وكذا اجتذاب المزيد من المستثمرين من الشرق الأوسط والعالم الإسلامي للاستثمار في مشروعات الدولة بوسائل تتوافق مع الشريعة. ومن التجارب السباقة في هذا المجال تجربة السودان حيث بلغ حجم الصكوك[24] التي أصدرتها الحكومة ما نسبته 5.8% من الناتج المحلي لمدة تتراوح بين 6 أشهر و6 سنوات. هذا ولقد اتجهت الحكومة البريطانية إلى إصدار صكوك إسلامية للحصول على تمويل للخزينة البريطانية من السوق المالية الإسلامية، وكذلك حذت فرنسا الخطى من أجل اللحاق ببريطانيا، بل من أجل أن تكون السباقة في الحصول على الحصة الأكبر من التمويل الإسلامي في أوروبا.
3. دور التصكيك في تمتين أخلاقيات الرقابة:
مما لا شك فيه أن من أبرز أسباب الانهيارات التي حدثت في أسواق المال العالمية والإفلاسات التي لحقت بالعديد من البنوك والشركات الكبرى في العالم، ضعف الضوابط التشريعية التي تحكم عمل هذه المؤسسات، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن صناديق الاستثمار وصناديق التحوط وشركات السمسرة لم تك تخضع للبنك المركزي، كما أن العديد من البنوك الكبرى لم تك تخضع أيضا لمعايير بازل 1 وبازل 2 وبعد أن انكشفت الحقائق والتجاوزات، نادى كثيرون بالاستفادة من ضوابط التصكيك الإسلامي المنبثقة من الأصول المصرفية الإسلامية[25]، حيث أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي، كما أصدرت الهيئة نفسها قرارا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام التصكيك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية.[26]
4. دور التصكيك في إعادة التوازن بين الاقتصادي الحقيقي والاقتصاد المالي:
لقد شهدت الدول الغربية تطورات هائلة في عملية التصكيك كانت في معظمها في مجال تصكيك الديون[27] ، وقد رافق ذلك موجة حادة من المضاربات أدت إلى اتساع الفجوة بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي[28] باعتبار أن عقود الربا تفصل الربح عن النشاط الاقتصادي الحقيقي. وعلى عكس التجربة الغربية فإن التصكيك الإسلامي يشترط وجود الأصول قبل تصكيكها الأمر الذي يحفظ لهذه الأصول قيمتها، وبالتالي فهو يربط الاقتصاد الحقيقي بالاقتصاد المالي مما يخلق توازنا كبيرا بينهما، ومن ثم فالتصكيك الإسلامي يشكل فرصة هامة لتصحيح المسار.
5. دور التصكيك في الرفع من كفاءة الأسواق المالية:
إذ يمكن لآلية التصكيك الإسلامي الرفع من مستوى كفاءة الأسواق المالية وذلك لانتفاء الغش والغرر والغبن والمضاربات الهدامة التي تعصف بتلك الأسواق مما يؤثر سلبا على تخصيص الموارد، ذلك أن المضارب يهتم بالقيمة السوقية للأسهم والسندات في الأجل القصير والتي تدخل في تقديرها عوامل ليس لها علاقة بالمردود المتوقع، مما يؤدي إلى توجيه الموارد باتجاه أنشطة يتوقع لها الربح السريع، مما يؤثر على عملية تحديد الأسعار العادلة ويخل بالتوازن الحقيقي لمستويات الأسعار وزعزعة استقرار النشاط الاقتصادي، الأمر الذي يؤثر سلبا على كفاءة الأسواق المالية ويحجبها عن أداء دورها التنموي.
ومن ثم فآلية التصكيك الإسلامي تعمل على تحريك الموارد المالية وتوجيهها إلى أنشطة استثمارية حقيقية. وفي نفس الوقت تعمل على تقليل المضاربات وتهتم بالسوقين الأولية والثانوية بشكل متكافئ.[29]
الخاتمة:
بعد هذا الاستعراض البسيط والسريع لخصائص آلية التصكيك الإسلامي وكذا دورها في دعم مسيرة تطور الصناعة المصرفية الإسلامية، تبين لنا ما يلي:
– تفتح عمليات التصكيك الإسلامي أمام المصارف الإسلامية آفاقا إستراتيجية واسعة من شأنها تذليل العديد من العقبات التي تعترض تطور الصناعة المصرفية الإسلامية، فهي تعمل على حل مشكلة السيولة من خلال تقديمها أصولا قابلة للتسييل بسرعة وبتكلفة قليلة، وفي نفس الوقت تشكل هذه الصكوك فرصا استثمارية ملائمة لتوظيف الفائض في هذه المصارف. هذا وتوفر آلية التصكيك الإسلامي حلولا متنوعة لإدارة مختلف المخاطر التي تواجه أعمال المصرفية الإسلامية، كما تتيح هذه التقانة فرصا استثمارية طويلة الأجل للمصارف الإسلامية، مما يسمح بتفعيل الدور التنموي المنوط بها، وأقصد بذلك الدور الاجتماعي بدرجة أساسية.
– للتصكيك الإسلامي دور مهم للغاية في تطوير السوق المالية الإسلامية، حيث تساعد هذه الآلية في توسيع وتعميق السوق المالية من خلال طرح أدوات مالية جديدة للتعامل بها في تلك السوق، هذا إضافة إلى خلق مؤسسات مالية جديدة تؤدي دورا مهما في هيكل هذه العملية.
– استفادت صناعة التمويل الإسلامي من الازدهار الاقتصادي الذي عاشته ولازالت تعيشه دول الشرق الأوسط، حيث شكلت الفوائض والسيولة الهائلة الناجمة عن الطفرة النفطية مصدرا مهما لنمو سوق التصكيك الإسلامي. حيث أن نمو هذه السوق يعتبر مؤشرا هاما جدا على تنامي حجم الصناعة المصرفية الإسلامية وذلك نظرا لكونها الأداة الأكثر إقبالا مقارنة بالأدوات التمويلية الأخرى.
– يوجد اعتراف دولي بأهمية الصكوك الإسلامية كمنتج مالي قابل للتطور والاستمرار لتلبية الاحتياجات المالية المختلفة بدليل وجود إصدارات من الصكوك لمؤسسات غير إسلامية، وأن هذه الصكوك تمثل لهم فرصة هامة للاستثمار في المستقبل القريب.
– خلقت الأزمة المالية العالمية فرصا واعدة لأدوات الصيرفة الإسلامية خصوصا منتج الصكوك الإسلامية الذي بات يشهد إقبالا واسعا بدليل أن 60% من إصدارات الصكوك اشترتها مؤسسات غربية رغم أزمة الائتمان العالمية.
– إن تنامي الطلب على الصكوك الإسلامية يعود إلى وجود مؤشرات كتوسع سوق التصكيك الإسلامي وكذا الافتقار إلى مصادر لتمويل مشاريع البنية التحتية وعجز الموازنة، أضف إلى ذلك الطفرة النفطية لدول الخليج ونمو المصرفية الإسلامية.
– تعتبر آلية التصكيك الإسلامي إحدى الخيارات المتاحة والفاعلة في ظل الأزمة الحالية. إذ تشكل ملاذا للمستثمرين الذين تضرروا من الأزمة المالية، ويظهر ذلك من خلال قدرتها على توفير السيولة سواء لتمويل المؤسسات المتضررة أو لتمويل العجز الموازني للحكومات، كما يظهر ذلك من خلال قدرتها على تمتين أخلاقيات الرقابة وإعادة التوازن بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي، هذا إلى جانب مساهمتها الفاعلة في الرفع من كفاءة الأسواق المالية.
واستنادا إلى النتائج المتوصل إليها فإن التوصيات الناجمة عنها عامة في طبيعتها ويمكن أخذها بعين الاعتبار من قبل المهتمين، تتلخص فيما يلي:
– على المصارف الإسلامية اغتنام الفرص التي أتاحتها هذه الأزمة من خلال إنشاء بنوك استثمارية دولية تقدم للعالم رؤية جديدة، وكذا مواصلة التطوير والتحديث في أنشطتها الإسلامية والخدمية ومنتجاتها المالية لتقديم منهج مبتكر في إدارة الأصول واستثمار الأموال بأسلوب يحقق رسالة الاقتصاد الإسلامي.
– الاستمرار في نشر ثقافة التصكيك الإسلامي في أوساط مجتمعات الأعمال بوصفها أدوات مالية تقدم حلولا مبتكرة لهم في مجال حشد وتوظيف الموارد.
– ضرورة الاستفادة من الاعتراف الدولي للصكوك الإسلامية كمخرج لتمويل المؤسسات المتضررة من أزمة الرهن العقاري.
– ضرورة الاستفادة من عملية التصكيك الإسلامي في تطوير السوق المالية الإسلامية وإرساء قواعدها.
الهوامش:
[1] فتح الرحمن علي، محمد صالح. “دور الصكوك الإسلامية في تمويل المشروعات التنموية”، منتدى الصيرفة الإسلامية، بيروت، 2008م، ص05.
[2] الأمين حامد، أحمد إسحاق. “الصكوك الإستثمارية الإسلامية وعلاج مخاطرها”، (رسالة ماجستير، جامعة الأردن، 2005م)، ص24.
[3] مجلس الخدمات المالية الإسلامية. “مسودة مشروع متطلبات كفاية رأس المال لتصكيك الصكوك والإستثمارات العقارية”، 2007م، ص03.
[4] علي محمد بني عامر، زاهرة. “التصكيك ودوره في تطوير سوق مالية إسلامية”، (رسالة ماجستير، جامعة الأردن، 2008م)، ص83.
[5] هناك شروط ينبغي توفرها والالتزام بها عند إصدار الصكوك، للاطلاع على هذه الشروط انظر كل من:
– المجلس الشرعي بهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، تقرير 2008م، البحرين.
– مصطفى سانو، قطب. “في إصدار الصكوك والشروط الواجب توفرها في مصدريها”، المؤتمر العلمي السنوي الخامس عشر عن الأسواق المالية والبورصات، الإمارات العربية المتحدة، 2007م.
[6] للتفصيل في موضوع طرح الصكوك أنظر: جريدة الإقتصادي، 5 خطوات لطرح الصكوك وإدارتها، العدد 12629، 1429ه.
[7] للاطلاع على ذلك أنظر: أبو غدة، عبد الستار. “صناديق الإستثمار الإسلامية دراسة فقهية تأصيلية موسعة”، المؤتمر العلمي السنوي الرابع عشر عن المؤسسات المالية الإسلامية معالم الواقع وآفاق المستقبل، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2005م، ص693.
[8] أختر زيتي، عبد العزيز. “الصكوك الإسلامية (التوريق) وتطبيقاتها المعاصرة وتداولها”، الدورة التاسعة عشر لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الإمارات العربية المتحدة، 2009م، ص9-10.
[9] للتوسع أكثر أنظر: علي محمد بني عامر، التصكيك ودوره في تطوير سوق مالية إسلامية، مرجع سابق، ص125-150.
[10] أحمد محيسن، فؤاد محمد. “الصكوك الإسلامية (التوريق) وتطبيقاتها المعاصرة وتداولها”، الدورة التاسعة عشر لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الإمارات العربية المتحدة، 2009م، ص51، بتصرف.
[11] للتوسع أكثر في موضوع معالجة التعزيز الإئتماني في عملية التصكيك أنظر: مجلس الخدمات المالية الإسلامية، مسودة مشروع متطلبات كفاية رأس المال لتصكيك الصكوك والإستثمارات العقارية، مرجع سابق، ص20.
[12] لقد تبين في إحدى الدراسات والتي قام بها الدكتور عبد الحميد الغزالي بأن الإستثمارات القصيرة والمتوسطة الأجل والتي لا تتعدى آجالها نحو سنتين، قد شكلت ما يزيد عن 59% من إجمالي إستثمارات المصارف الإسلامية، في حين بلغت الإستثمارات قصيرة الطويلة الأجل أقل من 5% من إجمالي الإستثمارات في معظم المصارف الإسلامية القائمة، وللتوسع أكثر أنظر: أبو الهيجاء، إلياس عبد الله. “تطوير آليات التمويل بالمشاركة في المصارف الإسلامية حالة الأردن”، (أطروحة دكتوراه، الجامعة الأردنية، 1428ه)، ص126.
[13] دوابة، أشرف محمد، دور الأسواق المالية في تدعيم الاستثمار طويل الأجل في المصارف الإسلامية، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 1427هـ، ص11.
[14] أمين محمد علي، نادية. “صكوك الاستثمار الشرعية خصائصها وأنواعها”، المؤتمر السنوي الرابع عشر عن المؤسسات المالية الإسلامية معالم الواقع وآفاق المستقبل، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2005م، ص986.
[15] إقبال، منور وآخرون، “التحديات التي تواجه العمل المصرفي الإسلامي”، المملكة العربية السعودية: المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، د.ت ص40.
[16] علي محمد بني عامر، التصكيك ودوره في تطوير سوق مالية إسلامية، مرجع سابق، ص172.
[17] كامل فهمي، حسين. “أدوات السياسة النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية في إقتصاد إسلامي”، المملكة العربية السعودية: المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1427ه، ص43، بتصرف.
[18] منصور، عبد الملك. “العمل بالصكوك الإستثمارية الإسلامية على المستوى الرسمي والحاجة إلى تشريعات جديدة”، مؤتمر المصارف الإسلامية بين الواقع والمأمول، الإمارات العربية المتحدة، 2009م، ص36-37.
[19] مظهر قنطقجي، سامر. “ظوابط الإقتصاد الإسلامي في معالجة الأزمات المالية العالمية”، سوريا: دار النهضة، 2008م، ص32، بتصرف.
[20] عندما يتجمع لدى البنك محفظة كبيرة من الرهونات العقارية، يلجأ إلى إستخدامها لإصدار أوراق مالية جديدة يقترض بها من المؤسسات المالية الأخرى بضمان هذه المحفظة.
[21] تعد صكوك (سندات) الرهن العقاري من الأسباب الرئيسية التي أشعلت فتيل الأزمة المالية العالمية التي تحولت لأزمة إقتصادية عالمية، وقد ساعد على ذلك عدة عوامل منها:
– التوسع الكبير في إصدار سندات المنازل المضمونة بعقارات (RMBS) من طرف شركتي فاني ماي وفريدي ماك لدرجة وصلت قيمتها 4500 مليار دولار في مارس 2008، هذا خلافا للسندات الأخرى التي أصدرتها شركات وبنوك إستثمار أخرى وذلك دون وجود ضوابط وأسس رقابية تساعد على التأكد من عدم تعثر عملاء الرهن العقاري عن سداد استحقاقاتهم، وبالتالي أصبح لدى حاملي الأسهم من الأفراد الشركات والبنوك العالمية والصناديق السيادية لكل دول العالم تقريبا صكوك للديون المشكوك في تحصيلها.
– إعتماد مجلس النواب الأمريكي سياسة التحرير عام 2000م، حيث تم استثناء عقود مبادلة الديون المتعثرة من قيود قانون سنة 2000م الخاص بالمشتقات المالية، وهو ما شجع شركات التأمين وعلى رأسها عملاق التأمين الأمريكي شركة (AIG) للتأمين على صكوك الرهن العقاري على اعتبار أنها مضمونة السداد ومغطاة برهونات عقارية، وعند انفجار الأزمة وجدت نفسها مجبرة على تعويض حاملي بواليص التأمين مما أدى إلى إفلاسها فورا.
– قيام شركات التصنيف الائتماني بناء على تأمين (AIG) لصكوك الرهن العقاري بمنحها تصنيف (AAA) مما أدى إلى إقبال كل دول العالم لشرائها.
[22] – جوبست، آندي وآخرون. “التمويل الإسلامي يشهد توسعا سريعا”، صندوق النقد الدولي، 2007م، ص02.
[23] وصل معدل العجز في الموازنات الأوروبية في سنة 2010م إلى 7% من الناتج الإجمالي لمنطقة اليورو بعدما بلغ في سنة 2009م 6.4 %.
[24] بلغ أجمالي إصدارات الصكوك في السودان حتى الآن أكثر من 12 مليار دولار حسب إحصائيات السوق المالية الإسلامية الدولية.
[25] توفيق حطاب، كمال.”الصكوك الإستثمارية الإسلامية والتحديات المعاصرة”، مؤتمر المصارف الإسلامية بين الواقع والمأمول، دبي، 2009م ص24-25.
[26] جريدة القبس، دعوات لتطبيق الشريعة الإسلامية كحل للأزمة العالمية، العدد 12710، 1429ه.
[27]تجاوز حجم صكوك الرهن العقاري 24 تريليون دولار وهو ما يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي تقريبا.
[28] أوردت مؤسسة ماكنيزي العالمية في أحد تقاريرها في العام 2008م أن حجم الأصول الحقيقية لعام 2007م لم يتجاوز 48 تريليون دولار في حين تجاوز حجم الأصول المالية المتداولة 144 تريليون دولار لنفس السنة.
[29] يقصد بالجدارة الاقتصادية للمشروع: الكفاءة في استغلال الموارد المالية وتوليد قيمة مضافة مالية ويتوقف ذلك على إعداد دراسات الجدوى وتقييم المشروع. علي محمد بني عامر، التصكيك ودوره في تطوير سوق مالية إسلامية، مرجع سابق، ص196.
1 person likes this.
بحث قانوني عن تطبيق الأحكام الشرعية على مواقعها .
أ.د. عبد الرحمن الكيلاني / كلية الشريعة – الجامعة الأردنية
ملخص
يتناول هذا البحث دراسة موضوع تطبيق الأحكام الشرعية على مواقعها ومحالها بما يتوافق مع مقاصد التشريع وحِكمه ومصالحه.
ويظهر الباحث أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج اجتهادي أصيل قررته آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزمه علماء الأمة رضوان الله عنهم في فتاواهم واجتهاداتهم.
ويكشف البحث عن المرتكزات العامة التي يجدر بالفقيه اعتمادها حتى يكون تطبيقه للأحكام تطبيقا مقاصدياً محققاً لمصالح العباد في العاجل والآجل، وينبه على أهمية مراعاة هذه المرتكزات في الاجتهاد الفقهي المعاصر من خلال فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة، والنظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
وينتهي الباحث إلى أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ضرب من ضروب الاجتهاد، ينبغي أن تتحقق فيه جميع شروط الاجتهاد وضوابطه ومعاييره.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لم تنفك آيات الكتاب العزيز عن التأكيد على ارتباط أحكام الشريعة الإسلامية بالحِكَم والمقاصد والمصالح التي تغياها الشارع في التشريع، حيث يجد الناظر في كتاب الله الكريم الارتباط الوثيق بين الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال المكلفين من جهة، وبين المصالح الحيوية التي ستتمخض عن امتثال هذه الأحكام من جهة أخرى.
وهذا ظاهر في العديد من الآيات الكريمة التي عبّرت عن هذا المعنى من مثل قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ) [179: البقرة]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [183: البقرة]، وقوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) [60: الأنفال]، وقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) [103: التوبة] إلى غيرها من الآيات الكثيرة الأخرى التي أرشدت إلى أن التكليف ليس مجرد أوامر ونواه فقط، وإنما هو قبل ذلك وبعده حِكم ومصالح وغايات ومقاصد تتحقق بها سعادة الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء.
ومثل هذا نجده أيضاً في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي عزّزت الاقتران بين الأحكام الشرعية وبين مصالحها المتوخاة منها، وأن الأحكام لم تشرع عبثاً وإنما شرعت لمصالح حيوية تكفل تحقيق أمن الإنسان واستقراره وسعادته.
وبناءً على هذا المنهج التشريعي الثابت في كتاب الله الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قرر العلماء “أن التكاليف كلَّها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم”([1]).
و”أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجيح خير الخيرين وشرّ الشّرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”([2]).
و”أن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة”([3]).
ولقد أفرز هذا الوعي بأهمية المصالح وارتباطها بالتشريع الإسلامي ارتباطاً مطرداً، اشتراط العلماء في المجتهد الذي يريد التصدي للنوازل والقضايا المختلفة أن يكون محيطاً بمقاصد التشريع. وهذا ما نبّه إليه الإمام تقي الدين السبكي في مؤهلات العالم حتى يصل إلى كمال رتبة الاجتهاد بقوله: “أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكماً لها في ذلك المحل، وإن لم يصرح به”([4]).
ومثله أيضاً قول الشاطبي: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكّن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها”([5]).
ولهذا فإن العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية شرط ضروري في سبيل سلامة عمل المجتهد، سواء أكان مجال الاجتهاد هو في فهم النّص واستنباط مدلوله منه، أم كان مجاله في تطبيق الأحكام الشرعية على الأفراد والأفعال والمواقع المناسبة، ذلك أن النظر الاجتهادي كما يكون في فهم النص واستنباط معانيه، فكذلك يكون في تطبيقه على أفراده وجزئياته المناسبة.
وقد وجدتُ أثناء دراستي لموضوع تطبيق الأحكام الشرعية أنها عملية منهجية دقيقة تخضع لجملة من الشروط والمعايير والضوابط التي ينبغي على المجتهد أن يستحضرها ويحيط بها، وأن العلماء قد تنبهوا إلى أهمية عملية تطبيق الأحكام الشرعية، وأشاروا إلى جملة من شروطها ومعاييرها عند تناولهم لموضوع تحقيق المناط الذي يعتبر العمود الفقري لعملية تطبيق الأحكام الشرعية.
والناظر في الضوابط التي يحتكم إليها في عملية تطبيق الأحكام الشرعية يجد أن من أبرزها وأظهرها، النظر العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية، والإدراك الواعي للغايات والمصالح التي شرعت الأحكام من أجلها، ووجه اشتراط هذا الضابط: أن الحكم قد شرع ابتداءً لتحقيق مقصد شرعي، فكان لا بد أثناء التطبيق أن يحقق الحكم هذا المقصد الذي شرع من أجله حتى يكون التطبيق على الوجه الذي أراده الشارع وتغيّاه، وإلا وقع التفاوت والاختلاف بين التشريع الذي يهدف إلى تحقيق مصالح معينة، وبين التطبيق الذي لا يعير هذه المصالح أي أهمية وينزِّل الحكم الشرعي على الأفراد بطريقة آلية مجردة، دون أيِّ اعتبار للنظر المقاصدي الكلي العميق.
وعلى الرغم من حداثة مصطلح “التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية” وعدم وروده في أمهات الكتب والمصنفات الأصولية، فلقد عرف علماء الأمة السابقون أهمية مراعاة المقاصد أثناء تطبيق الأحكام الشرعية، وتجلّت هذه المعرفة من خلال العديد من الأصول والقواعد التي أرسوها وصاغوها من مثل: الاستحسان، وسدَ الذرائع، والعرف، وقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، وغيرها كثير من المفردات التي تعتبر من تجليات الاجتهاد المقاصدي في تطبيق الأحكام الشرعية، وتعبِّر في مجموعها عن أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ليس منهجاً جديداً حادثاً، وإنما هو منهج أصيل له شواهده وتجلياته وتطبيقاته في كثير من المواطن التي يزخر بها العطاء الأصولي والفقهي الذي تركه لنا علماء الأمة جزاهم الله خير الجزاء.
ومن هنا جاء العديد من الدراسات المعاصرة التي نبّهت إلى أهمية مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية عند تنزيل الأحكام الشرعية على مواقعها ومحالها المختلفة من مثل كتاب: “فقه التدين فهماً وتنزيلاً” للدكتور عبد المجيد النجار، و”نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” للدكتور أحمد الريسوني، و”في الاجتهاد التنزيلي” للدكتور بشير بن مولود جحيش، وغيرها من الدراسات والأبحاث القيمة التي أشارت إلى البعد المقاصدي عند تطبيق الأحكام الشرعية.
وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسات والجهود المبذولة فيها، فإنني وجدت أن موضوع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ما زال يحتاج إلى المزيد من البحث والتحرير والضبط، لا سيما في مجال تحرير المصطلح، وإظهار الحجية، وقبل هذا وذاك، تحديد المرتكزات وإبراز الأسس التي ينبغي على المجتهد تمثلُّها، حتى يكون تطبيقه للأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً محققاً لمصالح العباد في الآجل والعاجل معاً.
ومن أجل ذلك كله، كان هذا البحث الذي آمل أن يساهم في تكميل بعض الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى بحث ودراسة في هذا الموضوع، وفي سبيل ذلك فسأمضي على وفق الخطة الآتية:
المبحث الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وحجيته، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.
المطلب الثاني: حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.
المبحث الثاني: مرتكزات التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي.
المطلب الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.
المطلب الثالث: التحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة.
المطلب الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
والله أسأل أن يوفقني فيما أنا بصدد بحثه ودراسته إنه نعم المولى ونعم النصير.
المبحث الأول حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وحجيته
أتناول في هذا المبحث دراسة المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.
أولا: التعريف بـ(التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية) بوصفه مصطلحاً مركباً:
يلزم الباحث في التعريف بـ(التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية) أن يوضح أولاً مدلول هذا المصطلح بوصفه مركباً من مصطلحين هما:
أولاً: تطبيق الأحكام الشرعية.
ثانياً: مقاصد الشريعة الإسلامية.
1- التعريف بـ(تطبيق الأحكام الشرعية):
تطبيق الأحكام الشرعية من المصطلحات المعاصرة التي لم تحظ بتعريف خاصّ محدد، وقد وجدت بعد البحث والدراسة أنه يمكن تعريفه بأنه: تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع والأفراد والجزئيات المناسبة.
وبيان ذلك: أن الحكم الشرعي بعد أن يستنبط وفق قواعد الاستنباط المعتبرة تأتي مرحلة تطبيقه على الوقائع والأفراد التي تصلح أن تكون جزئيات مناسبة لتطبيق الحكم عليها، لأن طبيعة الحكم الشرعي تتسم بالتجريد والعموم، ومن هنا فلا بدّ من تعيين المحال والوقائع والأفراد التي ينزّل عليها هذا الحكم، وإلا بقي الحكم محلقا في سماء التجريد والتنظير.
مثال ذلك: قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [60: التوبة]، فالآية ظاهرة المعنى على إعطاء الفقراء نصيباً من الزكاة، واعتبارهم المصرف الأول من مصارفها، وهذا المعنى الكلي الذي يرشد إليه ظاهر الآية الكريمة بحاجة إلى تطبيق من خلال تعيين الأفراد الذين تحقق فيهم وصف الفقر فعلا لإعطائهم حقهم من الزكاة المفروضة، وتمييزهم عن غيرهم ممن لم يتحقق فيه هذا الوصف ولا يستحقون شيئا من الزكاة. وهذا التعيين للأفراد والجزئيات التي تصلح أن تكون محلا للحكم الشرعي، هو ما نقصده بتطبيق الحكم الشرعي.
ومثاله أيضاً قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ) [38: المائدة]، حيث تدل الآية بظاهرها على وجوب قطع يد السارق بناء على القاعدة المقررة “الأمر المطلق يدل على الوجوب “والنظر في تعيين الأفراد الذين تحقق فيهم وصف السرقة لإقامة الحد عليهم، وتبين الوقائع التي يصدق عليها معنى السرقة، هو من قبيل تطبيق الحكم الشرعي عن طريق النظر في تعيين محاله التي تصلح لتنزيل الحكم الشرعي عليها.
والأصوليون وإن لم يتناولوا مصطلح (تطبيق الأحكام الشرعية) بوصفه مصطلحاً خاصاً يدل على معنى مخصوص، فإنهم قد أرشدوا إلى جوهر معنى التطبيق من خلال مبحث تحقيق المناط والذي يعني: “أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله”([6]).
ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت: إن تحقيق المناط هو العمود الفقري الذي ترتكز عليه عملية تطبيق الأحكام الشرعية بأسرها، وأن تنزيل الأحكام على جزئياتها من حيز التنظير إلى حيز التطبيق لا يتمُّ إلا من خلال تحقيق المناط، من جهة كونه نظراً في انطباق المعنى العام على جزئياته، سواء أكان هذا المعنى العام علة شرعية ينظر الفقيه في مدى تحققها في الفرع المسكوت عنه تحققها في الأصل المنطوق به، أم كان هذا المعنى العام قاعدة كلية يتحقق الفقيه من الجزئيات التي تصلح لتطبيق القاعدة العامة عليها([7]).
وعليه، فإنَّ مصطلح تطبيق الأحكام الشرعية مصطلح جديد باعتبار “لفظه” فقط، ولكنه قديم باعتبار مضمونه ومفهومه، لأن كل ما ساقه العلماء في “تحقيق المناط” هو في حقيقته بحث في صميم عملية تطبيق الأحكام الشرعية على الجزئيات والوقائع المناسبة.
2- التعريف بـ(مقاصد الشريعة الإسلامية):
المقاصد لغة:
أصلها من الفعل الثلاثي قصد يقصد قصداً، والناظر في معاجم اللغة العربية يجد أن المعنى الأصلي لهذا اللفظ يدور حول معنى الاعتزام والاعتماد والأم وطلب الشيء وإتيانه، وهذا ما أشار إليه ابن جني من أن أصل مدلول قصد في كلام العرب: “هو الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة وإن كان يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أخرى، فالاعتزام والتوجه شامل لهما جميعا”([8]).
المقاصد اصطلاحاً:
على الرغم من اهتمام العلماء المتقدمين بمقاصد الشريعة الإسلامية، واستعمالهم لهذا المصطلح في العديد من المباحث والمسائل الأصولية، فإنهم لم يعتنوا بوضع تعريف محدد له، و كانت عباراتهم في الغالب متجهة نحو بيان هذه المقاصد وعدّها دون الخوض والإطالة في وضع حدٍّ جامع مانع لها، ومن هذا على سبيل المثال قول الغزالي: “ولكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم”([9]).
ومنه قول الآمدي: “المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين”([10]).
وقول الشاطبي: “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية”([11]).
وظاهر من هذه العبارات جميعها أنها قد تضمنت التعريف بالمقاصد من خلال بيان أنواع المقاصد ومراتبها وأشكالها بعيداً عن الضبط الاصطلاحي المحدد، ولعلَّ السبب في ذلك هو ما لمسه هؤلاء العلماء من وضوح مدلول هذا المصطلح، وعدم الحاجة إلى الخوض في التعريفات الجامعة المانعة.
على أن العلماء والباحثين المعاصرين قد عملوا على ضبط مدلول مصطلح “مقاصد الشريعة الإسلامية” من خلال صياغة تعريف محدّد يستوعب جميع المعاني التي يمكن اعتبارها مقاصد شرعية، وعلى الرغم من تنوع عباراتهم وألفاظهم، فإنها في الجملة متقاربة متشابهة في العديد من الوجوه([12])، ومن هنا فإنني لن أستغرق في إيراد هذا التعريفات -خشية الإطالة والخروج عن مقصود البحث وغايته- وسأكتفي باختيار واحد من هذه التعريفات وهو أنها: المعاني التي توجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه([13]).
والمراد بالمعاني: جميع الغايات والأهداف والمصالح التي تغيّاها الشارع من تشريعه، سواء أكانت هذه الغايات غايات عامة أراد الشارع تحقيقها من خلال التشريع كله مثل: إقامة المصلحة ودرء المفسدة، ورفع الحرج عن المكلفين، والحفاظ على نظام الأمة، أم كانت هذه المعاني مقاصد خاصة أراد الشارع تحقيقها في باب معيّن من أبواب الشريعة، مثل مقاصد أحكام العائلة ومقاصد القضاء والشهادة، ومقاصد العقوبات، أم كانت هذه المعاني مقاصد جزئية أراد الشارع تحقيقها من حكم جزئي تفصيلي كالحكمة من النهي عن بيع الحاضر للباد، وعن تلقي الركبان، والحكمة من الأمر بصدقة الفطر والندب إلى نسك الأضحية، فجميع هذه المعاني: الكلية منها، والخاصة، والجزئية، هي من مشمولات مصطلح المقاصد([14]).
ووصف المقاصد بأنها قد اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها هو ما يرشد إليه المعنى اللغوي للفظ (مقصد) الذي يعني الأَمَّ والاعتماد والتوجه نحو الشيء.
واعتبار الأحكام وسيلة لتحقيق المقاصد هو ما يفهم من قول الإمام الشاطبي: “إن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت من أجلها”([15]).
ثانياً: التعريف بـ(التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية) بوصفه علماً على معنى مخصوص:
فإذا تبينت حقيقة مدلول كل من مصطلحي “تطبيق الأحكام الشرعية” و”مقاصد الشريعة الإسلامية” فإنه يمكن تعريف مصطلح التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية بوصفه علماً على معنى مخصوص بأنه: تنزيل الحكم الشرعي على وفق المصالح التي توجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها.
أي إنّ التطبيق المقاصدي يعتمد النظر إلى مقاصد الشارع أثناء عملية التطبيق، بمراعاة الفقيه في تطبيقه للأحكام الشرعية للمعاني والحكم والمصالح الكلية والخاصة والجزئية عندما يريد تعييِّن الوقائع الصالحة لتنزيل الحكم الشرعي عليه، فيتحقق من أن تطبيقه للحكم على هذه الواقعة لن يكون مجافياً أو بعيداً عن غاية الشارع وقصده من أصل التشريع.
ويمكن أن أمثل على ذلك بفتوى ابن عباس رضي الله عنه في مسألة قبول توبة القاتل؛ فعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: “لمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا، إلا النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: إني أحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، قال فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك([16]).
لقد راعى ابن عباس في هذه المسألة مقاصد الشريعة الإسلامية عند تنزيله للحكم الشرعي على وقائعه وأفراده، حيث لاحظ أن الحكم بقبول توبة القاتل لا ينطبق على الفرد الذي يسأل عن الحكم ليقترف جريمة القتل، لأن إعلامه بقبول توبته سيتناقض مع المعنى المصلحي الذي لأجله شرعت التوبة أصلاً، والمتمثل بإغلاق باب القتل وسفك الدماء والتجاوز على أنفس الناس وأموالهم وأعراضهم، فلو أفتاه بقبول توبته -وحاله كذلك- لأدّى إلى فتح باب القتل بدلاً من إغلاقه، ولأفضى إلى النقيض من المقصود الشرعي الذي أراده الله سبحانه بقوله: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [70: الفرقان]، فالتوبة وسيلة للأمن والمحافظة على الأنفس والأموال والأعراض، لا وسيلة للخوف والتشجيع على تضييع الحرمات والاعتداء على الأبرياء والآمنين.
وهكذا جسَّد ابن عباس مفهوم التطبيق المقاصدي للحكم الشرعي تجسيداً عملياً، عندما راعى في تنزيله للحكم الشرعي على أفراده ووقائعه، المعاني المصلحية التي لأجلها شرع الحكم، وتحقق أثناء تطبيقه للحكم من عدم انحرافه عن غايته وحكمة مشروعيته.
هذا، وإن الأصل في كل تطبيق للأحكام الشرعية أن يكون تطبيقاً مقاصدياً، لأن الغاية من عملية التطبيق تحقيق إرادة الشارع على أرض الواقع من خلال تفريغ معنى الحكم العام في الوقائع التي تصلح أن تكون جزئيات مناسبة له، غير أن هذا الأصل قد يغيب أحياناً عن أذهان بعض المفتين أو المشتغلين ببيان الحكم الشرعي، فيطبقون الحكم على غير جزئياته المناسبة، نتيجة لقيامهم بعملية التطبيق دون مراعاة للمقاصد الشرعية والمعاني المصلحية التي توخاها الشارع من تشريعه، وهنا يقع المفتي بالخطأ عندما يعمِّم الحكم على أفراد أو وقائع لم تتوجه إليهم إرادة الشارع بالتناول والقصد ابتداءً، أو يستثني من عموم الحكم بعض الأفراد والوقائع التي لا يصحُّ استثناؤها أصلاً لأنها من صميم مشمولات القصد الشرعي، وغالباً ما يؤدي هذا التطبيق غير المقاصدي للأحكام إلى تضييع مصالح الخلق وإلحاق الحرج والمشقة بالناس، أي إنَّ نتائج التطبيق ستكون على الضدّ من وضع الأحكام الشرعية. ولعلَّ ما سآتي إلى بيانه في موضوع مرتكزات التطبيق المقاصدي سيوضح هذه الحقيقة ويجليّها.
ولكن ما مدى حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية؟ هذا ما جعلته محلا للدراسة في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية:
يستمدُّ التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية حجيته ومشروعيته، من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد العديد من النصوص الشرعية الكريمة التي تدعو إلى أن يكون تطبيق الأحكام على نحو متبصر راشد، محقق لغايات المشرع ومتوافق مع مقاصد التشريع. سأعرض بعض هذه النصوص التي يستفاد منها هذا المعنى:
أولاً: قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [108: الأنعام].
وجه الدلالة: أن الأصل في سب آلهة المشركين هو المشروعية والجواز، وذلك لما فيه من توهين أمر المشركين وكشف زيف آلهتهم المزعومة، وإظهار عزة المؤمنين وقوتهم، غير أن هذا الأصل المشروع لم يأذن الشارع بتطبيقه وإنفاذه على أرض الواقع نظراً لما فيه من نتائج وخيمة تتعارض مع مقصد الشارع من أصل مشروعية هذا الحكم، وذلك من جهة ما سيفضي إليه من حمل المشركين على سبِّ الله سبحانه وتعالى، جهلاً وعدواناً، وهي مفسدة تربو بكثير على المصلحة التي يرجى تحقيقها من وراء مباشرة هذا الفعل.
فكان في هذه الآية إرشاد قرآني إلى ضرورة الوعي بنتائج التطبيق والتحقق من مدى توافق الحكم عند تطبيقه، مع المصلحة التي شرع من أجلها. وهذا ما وعاه الإمام القرطبي عندما قرر أن هذه الآية دليل على “أن المحقَّ قد يكف عن حقٍّ له إذا أدّى إلى ضرر يكون في الدين”([17]) أي أن صاحب الحقّ قد لا يباشره على أرض الواقع عندما يجده مفوِّتاً لمقصد حفظ الدين، وفي هذا تأكيد على أهمية النظر المقاصدي عند تطبيق الأحكام.
ثانياً: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا) [104: البقرة].
وجه الدلالة في هذه الكريمة أن معنى “راعنا” في اللغة هو ذات معنى “انظرنا”، ولكن هذا المعنى اللغوي المجرد للفظ “راعنا” يختلف عن معناه عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن اليهود كانوا يخاطبون النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويقصدون السبّ، فنهي المسلمون عن ذلك لئلا يكون قولهم تشبهاً باليهود، وسبباً في إيذاء النبي من حيث لا يشعرون([18]).
وبهذا فإن القرآن قد نبّه على أن مدلول اللفظ في حال تجريده قد يختلف عن مدلوله عند تطبيقه، فعند التطبيق قد يحمل اللفظ بعض المحاذير الخاصة التي تتنافى مع مقصد الشارع، فيمنع ويحظر نظراً لهذا الاعتبار.
ثالثا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن قتل المنافقين وعلّل هذا بقوله: “لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه”([19]).
وجه الدلالة في هذا الحديث: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن قتل عبد الله ابن أبي رغم أنه قد فعل ما يستوجب القتل، إذ قال بحق الرسول وصحابته: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”([20]) فقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ما سيفضي إليه قتل هذا المنافق وزمرته، من آثار ضررية داخلياً وخارجياً، أما داخلياً فبإثارة الفتنة داخل الصف المسلم، وفتح الباب للانقسام الداخلي وتوهين وحدة الجماعة المؤمنة، وأما خارجياً فبتشويه صورة الإسلام خارج المدينة المنورة عن طريق ترهيب الناس من الدخول في الإسلام، وتخويفهم من المصير الذي أصاب بعض الأفراد الذين اعتنقوا الإسلام (في الظاهر) فكان مصيرهم القتل بحجة أن قلوبهم ليست مؤمنة!
وفي امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، إرشاد إلى ضرورة التبصر السابق بنتائج تطبيق الأفعال قبل الإقدام عليها، للتحقق من مدى توافقها مع مقاصد التشريع.
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم”([21]).
وجه الدلالة في هذا الحديث: أن إعادة البيت على الهيئة الكاملة التي بناها إبراهيم عليه السلام هو عمل مشروع، بل عمل فاضل في أصله، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من إنفاذ وتطبيق هذا العمل المشروع، وأبقى البيت على ما هو عليه من الهيئة الناقصة، حفاظاً على مقصد الشارع المتمثل في الحفاظ على وحدة صف الأمة، وتجنب إثارة النزاع والخصام بينهم، والحرص على تأليف قلوب حديثي العهد بالجاهلية، وهو ما أرشدت إليه بعض الروايات الأخرى للحديث: “ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض. . “([22]).
وبهذه الأدلة التي سقتها على سبيل المثال لا الحصر يتبين أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج شرعي مقرر نهضت بحجيته آيات الكتاب العزيز وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
هذا، ولا يغض من سلامة الاستدلال بهذه الأدلة أن العلماء يسوقونها للدلالة على حجية سد الذرائع، أو الاستحسان، أو قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة؛ ذلك أن جميع هذه المناهج هي من فروع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وتجلياته، وفق ما سأبينه في المبحث الثاني.
المبحث الثاني مرتكزات التطبيق المقاصدي
إن تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً يرتكز على مجموعة من المقومات والأسس التي يعتمدها المجتهد في سبيل تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً سليماًً مفضياً إلى مصالح التشريع وغاياته، وعلى الرغم من عدم بحث الأصوليين لهذا الموضوع في مبحث خاص ذي عنوان محدد، فإنه يمكن استخلاص هذه الأسس والمرتكزات من عبارات العلماء المبثوثة في ثنايا المباحث الأصولية والفقهية، والتي تعكس خضوع عملية التطبيق لأصول منهجية محددة، وقد تمكنت بعد البحث من الوقوف على الأسس الآتية:
الأساس الأول: فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي.
الأساس الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.
الأساس الثالث: التحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة.
الأساس الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
وسأقوم بدراسة هذه الأسس الأربعة، مبيناً تطبيقاتها وعلاقتها بالتطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، وأنبِّه قبل البدء بعرض هذه المرتكزات بأن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية هو عملية اجتهادية ينبغي أن يتحقق فيها جميع شروط الاجتهاد وضوابطه، ومن هنا فإن ما سأعرضه من مرتكزات محكوم ومضبوط بشروط الاجتهاد التي فصَّلها العلماء في أمهات الكتب الأصولية، والتي لا يتسع البحث لعرضها وبيانها في هذا المقام.
وسأعرض مرتكزات التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية على وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: فهم الواقع الذي ينزل عليه الحكم الشرعي:
يقصد بفقه الواقع: العلم بما تجري عليه حياة الناس في مجالاتها المختلفة، وما استقر عليه الناس من عادات وتقاليد وأعراف، وما استجد من حوادث ونوازل([23]).
أي إنّ الفقيه مطالب باستيعاب حقيقة الواقع الذي يريد أن يطبق عليه الأحكام الشرعية المختلفة، وأن يكون هذا الاستيعاب شاملاً لجميع جوانب الحياة أُسرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وأن ينأى الفقيه بنفسه عن داء العزلة عن المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معه حتى يستطيع أن ينزِّل الأحكام على مواقعها تنزيلاً صحيحاً موافقا لمقصود الشارع وإرادته.
واستيعاب الفقيه لطبيعة الواقع الذي يعيش فيه قد يستدعي منه الاستعانة بالبيانات والإحصاءات والدراسات التي تعطي تصوراً دقيقاً عن حقيقة هذا الواقع وتفصيلاته ودقائقه، والوقوف على أمراضه ومشاكله وقضاياه المختلفة.
هذا، ولقد أدرك العلماء الأعلام من سلف الأمة أهمية فقه الواقع عند تنزيل الأحكام الشرعية حتى يكون هذا التنزيل وهو ما نجده عند الإمام أحمد رضي الله عنه في بيانه للخصال التي ينبغي تحققها في المفتي بقوله: “لا ينبغي للرجل أن ينصِّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته، والرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس”([24]).
والذي يعنينا من هذه الخصال اشتراط الإمام أحمد في المفتي أن يكون على “معرفة بالناس” فإن هذا الشرط يختزل فقه الواقع بجميع تفصيلاته ومجالاته، وهذا ما فصله ابن القيم بقوله: “معرفة الناس: هذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم فإن لم يكن فقيهاً فيه، فقيهاً في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وتصور له الظالم بصور المظلوم وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله”([25]).
وتكمن أهمية الفقه بالواقع في عملية تنزيل الحكم الشرعي في أن التبصر بالواقع يتيح للفقيه أن يتبصر بحاجات الناس وأعرافهم وقضاياهم المختلفة، فيكون تنزيله للحكم الشرعي مراعيا لتلك الحاجات الطبيعية والأعراف الصحيحة المعتبرة، مما يؤدي إلى تحقيق مقصود الشارع في إقامة مصالح الناس ورفع الحرج والمشقة عنهم.
وإن الناظر في عصر خير القرون يجد العديد من الشواهد والتطبيقات التي تعبر عن حقيقة فقه الواقع وأهميته في تنزيل الأحكام الشرعية، فمن ذلك مثلا ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما علم بزواج حذيفة بن اليمان من كتابية وقد كان من قادة جيش المسلمين فكتب إليه عمر أن يطلقها([26]). وعندما استفسر حذيفة عن سبب ذلك وهل الزواج منهن حلال أو حرام؟ بيّن له الفاروق رضي الله عنه النظر المقاصدي في هذا الإجراء بقوله: “أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات”([27]).
لقد استند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الاجتهاد المقاصدي على فقهه بالواقع وذلك من خلال أمرين:
الأول: نظره رضي الله عنه إلى الخطر الذي يتهدد المجتمع الإسلامي عندما لا تجدُ النساء المسلمات الأزواج المسلمين الأكفاء فتبرز ظاهرة العنوسة التي تتهدد الفرد والمجتمع بالفساد الكبير، هو ما عبر عنه رضي الله عنه بقوله: “أخشى أن تدعوا المسلمات”.
ثانيا: علمه رضي الله عنه بواقع المجتمعات غير الإسلامية وما تعانيه من أمراض أخلاقية واجتماعية مثل انتشار الرذيلة والفاحشة، وامتهان بعض النساء للزنا، ويخشى أن يكون الزواج بواحدة من هؤلاء، مؤدياً إلى النقيض من مقاصد ومصالح الزواج الشرعي الذي حضّ الشارع عليه ورغب فيه، وهو الذي أرشد إليه رضي الله عنه بقوله: “وتنكحوا المومسات”.
وهكذا كان تطبيقه رضي الله عنه للأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً مراعيا لمصالح الأحكام وغاياتها.
كما نجد هذا التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، فيما فعله معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما أخذ قيمة زكاة الحبوب من الذرة والشعير وغيرها، بما يساويها من الثياب اليمنية بدلاً من أن يأخذ الزكاة من عين الحبوب نفسها، وذلك مراعاة منه لواقع أهل اليمن الذين قد يسهل عليهم أن يعطوا من الثياب اليمنية ما لا يسهل أن يعطوه من الحبوب، والتفاتا منه أيضا لواقع أهل المدينة الذي قد يحتاجون إلى الثياب أكثر من حاجتهم إلى الحبوب، فحقق بذلك منفعة الجهتين، بناء على فقهه بواقع المجتمعين وما يحتاج إليه الأفراد في كل مجتمع.
وهذا ما بيَّنه رضي الله عنه بقوله: “ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة”([28]).
ولا ينحصر نظر الفقيه في ميدان واقع المجتمعات الإسلامية التي ستطبق فيها الأحكام الشرعية فقط، وإنما يمتد نظره ويتسع وعيه ليحيط أيضا بواقع المجتمعات غير الإسلامية التي يعيش فيها أفراد مسلمون يطبقون فيها الأحكام والشعائر الإسلامية، فيراعي واقع تلك المجتمعات عند إجراء الأحكام فيها حفاظاً على مقاصد التشريع، وهذا النظر المقاصدي هو ما نجده على سبيل المثال عند الإمام ابن تيمية حين بين حكم من يعيشون في بلاد غير إسلامية ويكون تمسكهم بمظهر معين -مما هو من قبيل المندوبات أو المكملات- سبباً في جلب ضرر عليهم يفوق المصلحة التي ترجى من وراء هذا المظهر المندوب، حين ينظر إلى المسلم نظرات الريبة والشك أو يكون عرضة للاعتداء والأذى، ففي ضوء هذا الواقع الذي يعيشه المسلم يكون تركه لهذا المظهر أفضل ما دام أنه ليس من أركان الدين، ولا هو من الفروض والواجبات الثابتة قطعاً، وهذا ما كشف عنه الإمام ابن تيمية بقوله: “إن المخالفة لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا”([29]).
وإن هذا التمييز الذي قدمه شيخ الإسلام بين الإقامة في وسط أمة الإجابة، والإقامة في وسط أمة الدعوة، يكشف لنا عن ضرورة الوعي التام بظروف الواقع الذي يريد الفقيه تنزيل الأحكام الشرعية عليه، وضرورة الإحاطة بمكونات هذا الواقع من حيث زمانه وأشخاصه ومخاطره التي تحتف به، فتميُّز المسلم في هيئته ولباسه ومظهره أمر مرغوب فيه، وصفة مطلوبة ومستحبة، ولكن بشرط عدم الإضرار بالمسلم أو إيذائه، وهنا تبرز مهمة الفقيه المتبصر في تقدير هذا الأمر ومراعاته والتنبُّه له بناء على معايشته للواقع، واطَلاعه على تفصيلاته ودقائقه.
وهذا ما نبّه إليه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: “إن الغفلة عن روح العصر وثقافته وواقعه والعزلة عما يدور فيه ينتهي بالمجتهد في وقائع هذا العصر إلى الخطأ والزلل وهو ينتهي غالبا بالتشديد والتعسير على عباد الله حيث يسر الله عليهم”([30]).
أي إنَّ الغفلة عن فقه الواقع قد تؤدي إلى عكس مقصود الشارع فتصبح الأحكام سبباً لإلحاق الحرج بالأمة، بدلاً من أن تكون مظهراً من مظاهر الرحمة واليسر بالعباد.
ويندرج تحت فقه الواقع الالتفات إلى أعراف الناس المستقرة، وعاداتهم الجارية عند تنزيل الأحكام الشرعية التي يكون مبناها على أساس العرف والعادة، وهذا ما قرره الإمام القرافي بقوله: “إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد بين المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد”([31]). فتغييب الواقع عند تنزيل الأحكام الشرعية التي يكون مبناها وأساسها وفق أعراف الناس وعاداتهم يعتبر جهلاً في الدين، ومخالفة لإجماع علماء الأمة بما استقر عندهم من ضرورة مراعاة الأعراف الجديدة عند إجراء هذه الأحكام وتطبيقها.
مثال هذا: أن عرف التجار هو المرجع في اعتبار النقص في المبيع عيباً موجباً للخيار، وهذا ما بيَّنه ابن قدامة بقوله: “والمرجع في ذلك -أي معرفة العيوب- إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن وهم التجار”([32]).
وعليه فقد لا تعدَُ بعض أنواع النقص عيوباً في عصر أو زمان، بينما تعتبر عيوباً في زمان آخر، بناء على اختلاف أعراف الناس وعاداتهم، وهنا يأتي دور الفقيه المشرف على الواقع والمحيط بأعراف الناس وعاداتهم، لينزِّل الحكم على وفق هذه الأعراف والعادات، فيثبت الخيار أو لا يثبته بناء على فقهه ووعيه وإحاطته.
وإن من الخطأ الذي قد يقع فيه بعض المفتين أن ينظر إلى المسألة نظراً مجرداً عن الواقع والعرف والعادة، فيعمِّم الأحكام ويطلق الأقيسة دون أن يراعي طبيعة الأعراف التي قد تستدعي نوعاً من التخصيص والتقييد، ممَا يؤدي إلى وقوع الأفراد بالحرج والمشقة. ولقد نبه الإمام ابن القيم إلى خطورة هذا المنهج في التعامل مع الأحكام الشرعية بقوله: “قالوا وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى على طول الأيام فمهما تجد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجرِه على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجرِه عليه وأفته به، دون عرف بلدك المذكور في كتبك، قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً تستغني عن النية”([33]).
ثم عقّب على هذا بقوله: “وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم ممَّن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان”([34]).
وهنا نجد تنبه ابن القيم إلى الزلل الذي يقع فيه بعض المفتيين عندما يسقطون الأحكام على المسائل بطريقة آلية دون التنبه إلى العرف الجاري في كل واقعة مما يؤدي إلى مفسدة قد تربو على المصلحة التي أراد الشارع تحقيقها.
ومثل هذا أيضاً نجده عند ابن عابدين بقوله: “فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله ولحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ورفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام”([35]).
ولا بد من التنبيه في هذا السياق على أن تغير العرف واختلاف الأحوال والملابسات المحيطة بالواقعة التي سيطبق عليها الحكم، قد جعل لها طبيعة جديدة تختلف عنها فيما لو كانت ذات الواقعة عريَّة عن تلك الملابسات التي تبصر بها الفقيه نتيجة لفقهه بالواقع وإحاطته بدقائقه وتفصيلاته، وهذا التغير الذي طرأ على الواقعة هو الذي أوجب التغير في الحكم، فالواقعة الجديدة التي سينزّل عليها الحكم في ظل الظرف الجديد والملابسات الحادثة، لم تعد هي نفس الواقعة التي لا تقترن بها ذات الملابسات والخصائص، أي أن محلَّ الحكم قد تغير، مما أفضى إلى اختلاف الحكم بداهة، وعليه لا يصح القول إن الحكم قد تغير نظراً للظروف والأحوال، وأن الأحكام الشرعية تخضع للتغير تبعاً لعادات الناس وأعرافهم، لأن الذي تغير -عند التحقيق- هو الواقعة نفسها أي محل الحكم مما استدعى أن يناط بها الحكم المناسب لها، وهذا ما ألمع إليه الشيخ علي الخفيف بقوله: “الواقع أن مثل هذا لا يعد تغييراً ولا تبديلاً إذا ما روعي في كل حادثة ظروفها وملابساتها وما لتلك الملابسات من صلة بالحكم الذي جعل لها، إذ الواقع أن الفقيه أو المجتهد إذا ما عرضت عليه مسألة من المسائل، راعى ظروفها وملابساتها والوسط الذي حدثت فيه، ثم استنبط لها الحكم المتفق مع كل هذا.
فإذا تغير الوسط وتبدل العرف الذي حدثت فيه الواقعة تغيرت بذلك المسألة وتبدَّل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكماً آخر لها.
وهذا لا ينفي أن المسألة السابقة بظروفها لا زالت على حكمها، وأنها لو تجددت بظروفها ووسطها لم يتبدل حكمها، فأخذ الأجرة على تعليم القرآن في وسط يقوم أهله بتعليمه احتساباً لوجه الله وطاعة له غير جائز في كل مكان وفي كل زمان.
وأخذ الأجرة على تعليمه في وسط انصرف أهله عن تعليم القرآن والدين إلا بأجر، أمر جائز في كل زمان ومكان”([36]).
فالظروف والأعراف والملابسات الخاصة التي تحتف بالواقعة تستدعي أن يكون لها تكييف جديد ينزّل على وفقه الحكم الشرعي تنزيلاً صحيحاً محققاً لمقصود الشارع.
وهذا الفهم هو ما تمثلّه الإمام أبو زيد القيرواني: حين كان يسكن في أطراف المدينة فاتخذ كلباً للحراسة فقيل له: كيف تفعل ذلك ومالك يكرهه؟ فقال لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً”([37]).
فواقعة اتخاذ الكلب في زمان أبي زيد القيرواني وما حصل فيه من فقدان للأمن وخوف على الأنفس والأموال، هي في حقيقتها وطبيعتها ومكوناتها، غير واقعة اتخاذ الكلب في زمان الإمام مالك حيث لم يكن ما يوجب ذلك، وعليه فلا يصحُّ تطبيق حكم واحد على واقعتين مختلفتين طبيعة وأثراً، وإن كانتا متشابهتين في الصورة والظاهر.
وما أدق قول الشاطبي وهو يعبر عن هذا المعنى بقوله: “لا بدَّ للفقيه أن يأخذ بالدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة”([38]).
أخلص من ذلك كله إلى ضرورة فقه الواقع عند تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع والجزئيات وذلك حتى يكون الحكم محققاً لمقصوده الشرعي في التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم وتحقيق مصالحهم التي جعلها الله من أظهر خصائص الدين وأعظم مقاصد الشريعة بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) [78: الحج].
المطلب الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق:
إن من الأسس التي يرتكز عليها التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية النظر إلى نتائج تطبيق الحكم ومآلاته التي تترتب عليه، وعدم الاكتفاء بما عليه صورة الفعل في الأصل من المشروعية أو عدم المشروعية، فقد يكون الفعل في الأصل مشروعا ولكن تطبيقه على واقعة معينة مفض إلى مفسدة أكبر من المصلحة التي شرع من أجلها، فيمنع نظراً لتلك المفسدة وهو ما اصطلح الأصوليون عليه بـ(سد الذرائع).
وقد يكون الفعل في الأصل غير مشروع ولكن تطبيقه على واقعة خاصة مفض إلى تفويت مصلحة أكبر من المفسدة التي منع من أجلها فيشرع نظرا لهذا الاعتبار، وهذا المعنى هو ما جسّده العلماء من خلال أصل (الاستحسان).
ولعل من أحسن من حلَّل هذا الموضوع وكشف عن حقيقته وكنهه هو الإمام الشاطبي وذلك بقوله: “وقد يكون -أي الفعل- مشروعاً لمصلحة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب -أي العاقبة- جار على مقاصد الشريعة”([39]).
“فالعمل المشروع في الأصل قد ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة عند التطبيق، والعمل الممنوع قد يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة التي تترتب عليه عند التطبيق”([40]) وذلك كلُّه يرتكز على أساس الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، أو مفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.
وهذا الذي كشف عنه الإمام الشاطبي هو ما نجده متجسِّداً من خلال قاعدتي سد الذرائع والاستحسان، وبيان ذلك: أن سد الذرائع هو حسم الوسائل التي ظاهرها المشروعية وتؤدي إلى الوقوع في ممنوع منهي عنه غالباً أو كثيراً([41]).
ومعنى أن تفضي الوسيلة المشروعة إلى مآل ممنوع أنه قد انبنى على تطبيق تلك الوسيلة المشروعة في أصلها، مفاسد وأضرار هي أعظم حجماً وأثراً من المصلحة التي أراد الشارع تحقيقها من وراء تشريع الحكم ابتداء، وهنا يجب على المجتهد البصير بمقاصد الشريعة الحفاظ على الوسائل من أن تنحرف عن غايتها ومقصدها الذي شرعت من أجله عند تطبيقها على أرض الواقع، فيحكم بمنعها رغم أنها في أصلها مشروعة، التفاتاً منه إلى مآلها الذي تترتب عليه.
مثال هذا مسألة إقامة الحدود في الغزو، حيث ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: “نهى أن تقطع الأيدي في الغزو”([42])والسبب في ذلك هو الخشية من أن يترتب على تطبيق حدّ السرقة لحوق صاحبه بالمشركين، وهو أبغض عند الله من تأخير إقامة الحدّ([43]).
وتأسيساً على هذا المعنى المقاصدي الذي وجه إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الخوف من اللحاق بالمشركين والخشية من أن يترتب على تطبيق الحد نتائج تفوق المصلحة التي ترجى منه، قرر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جميع الحدود لا تقام في الغزو، وكتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار([44]).
وهذا ما ذهبت إليه طائفة من الفقهاء منهم الأوزاعي وإسحاق وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين([45])، وذلك اعتباراً منهم لنتائج التطبيق، والتبصر بمآلات الأفعال.
ومثلما أن سدَّ الذائع هو من القواعد التي يعوَل عليها في عملية التطبيق المقاصدي للنصوص الشرعية، فكذلك هو الأمر في قاعدة الاستحسان؛ ذلك أن الاستحسان مبتنى على أساس ترك مقتضى الدليل عن طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارضه في بعض مقتضياته([46]). وسبب العدول في بعض الوقائع والجزئيات عن موجب الدليل الكلي هو ما يجده المجتهد من نتائج ضررية ستلحق بالأفراد عند تطبيق موجبات الأدلة الكلية عليها، فيلجأ إلى الاستثناء والعدول حفاظاً على مقصود الشارع في تحقيق مصالح الناس ودفع الفساد والحرج عنهم.
وهذا المعنى هو ما أشار إليه الإمام ابن رشد في تعريفه للاستحسان بقوله: “هو أن يكون طرحاً لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه في بعض المواقع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع”([47]).
مثال ذلك: أن الأصل في كل شهادة يبني عليها القاضي حكمه أن تكون ناشئة عن معاينة للواقعة المشهود بها، بمشاهدة الأفعال وسماع الأقوال لقوله صلى الله عليه وسلم لرجل: ترى الشمس قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع([48]).
غير أن هذا الأصل العام المشروط في كل شهادة من أجل اعتبارها، قد عدل عنه في بعض الوقائع والحالات التي تعذر فيها الاستماع إلى الشهود الأصليين الذين عاينوا الواقعة وشهدوها، بسبب مرض أصابهم حال دون القدرة على الحضور إلى مجلس القضاء، أو لغيابهم في مكان لا يوصل إليه، أو لموتهم، أو غير ذلك من العوارض التي يتعذر معها أداء الشهادة من قبل الشهود الأصليين.
ففي مثل هذه الحالات يجوز تحميل الشهادة إلى الغير، ويؤدي الشاهد الفرع الشهادة التي حمَّله إياها الشاهد الأصل كما هي، رغم أن الفرع لم يعاين الواقعة المشهود بها، بشرط أن تكون الشهادة فيما لا يسقط بالشبهة كالحدود والقصاص([49]).
وسبب عدم تطبيق موجب الأصل الكلي، والعدول إلى الحكم الاستثنائي، هو الحفاظ على مصالح الناس؛ لأنه لو تعيَّن على أصحاب الحقوق إحضار الشهود الأصليين المعاينين للواقعة المشهود بها لأدَّى هذا إلى ضياع الحقوق وفوات المصالح ونزول الحرج؛ ذلك أن الشهود الأصليين قد تعذّر عليهم الحضور للغيبة أو السفر أو المرض أو الموت، فالتفاتاً إلى ذلك كله صحَّ العدول وجاز الاستثناء استحساناً.
وإن لهذا الأساس من أسس النظر المقاصدي شواهد معاصرة كثيرة منها مثلاً: قضية التبرع بالأعضاء من الأحياء إلى الأحياء، عن طريق نقل عضو سليم أو مجموعة من الأنسجة من متبرع إلى مستقبل، ليقوم مقام العضو أو النسيج التالف عند المستقبل، وغاية هذه العملية إيجاد عضو مفقود عند المتبرع له، أو إعادة شكله أو وظيفته المعهودة، أو إصلاح دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً([50]). فإذا نظرنا إلى هذه القضية المعاصرة وأردنا أن نتبيّن حكمها الشرعي في ضوء قواعد الشريعة العامة فإننا سنجد أن النظر الأوليّ إليها يوجب عدم مشروعية عملية نقل الأعضاء مطلقاً، بناء على القاعدة الكلية التي تقرر أن الإنسان لا يملك جسمه ولا أعضاءه، وعليه فليس له أن يتصرف بأيٍّ من أعضاء جسده لا على سبيل التبرع، ولا على سبيل المعاوضة.
وهذا ما عبّر عنه العلماء بقولهم: “فإذا أكمل الله على عبد حياته وجسمه وعقله التي بها يقيم التكاليف، لا يصح إسقاط شيء منها”([51]).
وقد طبّق بعض المعاصرين هذا الأصل الكلي على نازلة التبرع بالأعضاء من الأحياء إلى الأحياء، وقرروا حرمة نقل الأعضاء لأنه تصرف في حق الله الذي يخرج عن ملك الإنسان وصلاحيته([52]).
وفي مقابل هذا الاجتهاد، نجد أن ثمة اجتهاداً آخر عند جمهور الفقهاء المعاصرين يراعي عند تطبيقه للقواعد الكلية مقاصدَ التشريع من خلال الموازنة بين مصالح التبرع ومفاسده.
وبيان هذا: أن في إعادة وظيفة الأعضاء التالفة إلى ما كانت عليه عن طريق النقل والزرع، إقامة لحق الله عز وجل ورعاية له وحفاظاً عليه بشكل أكبر وأعظم من عدم التبرع، ذلك أن مفهوم حق الله هو: ما يتعلق به النفع العام دون أن يختص به شخص معين، ويقوم حق الله -أي النفع العام- من خلال ما يقوم به العبد من أفعال ترتد إلى إقامة المصالح العامة للأفراد المعبر عنها بحق الله، ذلك أن مصالح الجماعة لا تتحقق إلا بوساطة أنفس أفرادها بأرواحهم وأدمغتهم وأعينهم وقلوبهم، وكل عضو من أعضاء كل فرد من أفراد الجماعة يسهم بأقدار متفاوتة في تحقيق مصالح الجماعة وحمايتها([53]).
ومن هنا يعلم بأن حق الله سيقوم في المجتمع بشكل أكبر وآكد عندما تتم عملية التبرع، وفق شروطها وضوابطها المعتبرة، لأننا بهذا نكون قد حفظنا حق الله في جسد المتبرِع، وحفظنا أيضا حق الله في جسد المتبرَع له.
“فالتبرع بالعضو لا يكون مشروعا إلا إذا كان سبباً لدفع مفسدة عظمى عن المتبرع له إذا قيست بالمفسدة الواقعة على المتبرع بسبب أخذ عضو منه؛ لأن معنى هذا دفع مفسدة عظمى عن حق الله المتعلق بجسد الأول، بتحمل مفسدة أخف منها على حق الله المتعلق بجسد المتبرع”([54]).
ومن خلال هذا التأصيل والتطبيق نجد كيف لاحظ أصحاب هذا الفقه موجبات الاستثناء والعدول من الحكم العام، والمتمثل هنا بالحفاظ على حق الله تعالى، أي على المصلحة العامة للأفراد، وقدروا أن تطبيق القاعدة التي تمنع من التصرف بجسد الإنسان لأنه لا يملك هذا التصرف، التسبب بتفويت حق الله بشكل أكبر من المصلحة التي يرجى تحقيقها في حال التبرع. وكل ذلك مشروط بأن تتحقق في التبرع الضوابط الشرعية التي تكفل بقاء موجب الاستثناء والعدول مثل: أن يتحقق المختصون من الأطباء أن المصلحة المتحققة في حال التبرع وزرع الأعضاء أعظم مصلحة من الامتناع عن التبرع، ، وأن يتعين التبرع وسيلة وحيدة لتفادي المفسدة الواقعة على المريض، وأن لا يكون التبرع سبباً للإساءة إلى الكرامة الآدمية، إلى غير ذلك من الشروط والضوابط الأخرى([55]).
أخلص من ذلك كله إلى أن من أسس النظر المقاصدي عند تطبيق الأحكام على الجزئيات والوقائع، الالتفات إلى مآلات الأفعال ونتائجها عن طريق الموازنة بين آثارها المصلحية والمفسدية، وإعمال مبدأ الاستثناء عند قيام موجبه المقتضي لذلك، وذلك حتى يكون تطبيق الأحكام موافقا لقصد الشارع وإرادته فلا يخرج من العدل إلى الظلم، ولا من السعة إلى الحرج، ولا من الرحمة إلى ضدها.
المطلب الثالث: التحقق من انطباق علَّة الحكم في الواقعة الجديدة:
من المرتكزات التي تستند عليها عملية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، التحقق من انطباق علَّه الحكم التي يرتبط بها الحكم وجوداً وعدماً في الواقعة الجديدة، فالمجتهد الذي يبذل جهده لاستنباط الحكم الشرعي من موارده وأدلته، يبذل جهده أيضا لتعيين المعنى المؤثر أو العلة المقصودة التي يرتبط بها هذا الحكم وجوداً وعدماً، فيعدّي الحكم المستنبط إلى كل واقعة تحقق فيها ذاك المعنى المؤثر، و يوقف تطبيق الحكم إذا وجد أن علَته غير متحققة، وهذا كلُّه من باب التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، لأنه نظر في تعيين الوقائع والجزئيات التي يطبَّق عليها الحكم بناء على علته المعقولة المؤثرة.
وإن من أبرز التطبيقات لهذا الأساس اجتهاد عمر بن الخطاب في سهم المؤلفة قلوبهم، حيث أوقف عمر رضي الله عنه إعطاء هذا السهم لأفراد كانوا يأخذون من الزكاة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارهم من المؤلفة قلوبهم منهم: عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي([56]) وسبب ما فعله عمر رضي الله عنه هو أنه وجد أن العلة التي كانوا يستحقون لأجلها ذاك النصيب من الزكاة لم تعد قائمة فيهم، وهذه العلة هي حاجة الأمة إلى تأليف قلوبهم، فإذا قدَّر الإمام أنه لم تعد هناك حاجة إلى تأليف القلوب بالزكاة، فمعنى ذلك أنه لم يعد هناك من يتحقق فيهم وصف المؤلفة قلوبهم نظراً لعدم الحاجة، أي إنَّ محل الحكم “وهو كونهم من المؤلفة قلوبهم” لم يعد موجوداً في زمان عمر رضي الله عنه، لأن المعنى الذي من أجله شرع هذا السهم لم يعد قائماً.
وهذا ما نبه إليه الشيخ علاء الدين عبد العزيز البخاري([57]) بقوله: “انعدام الحكم لانعدام المعنى الداعي إليه، كانتهاء شرعية إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة بانتهاء سببه، وهو ضعف المسلمين وحصول إعزاز الدين به، فإن تأليفهم على الإسلام بإعطاء المال ودفع أذاهم عن المسلمين به كان إعزازا في ذلك الزمان، فلما قوي أمر الإسلام كان إعطاؤهم دنية في الدين لا إعزازاً له، فانتهى بانتهاء سببه”([58]).
وهو ما وضحه أيضاً وبسط البيان فيه الشيخ محمد المدني بقوله: “ولما كان التأليف ليس وصفاً طبيعياً يحدث للناس كما تحدث الأعراض الطبيعية، بل هو شيء يقصد إليه وليُّ الأمر، إن وجد الأمة في حاجة إليه، ويتركه إن وجدها غير محتاجة إليه، فإذا اقتضت المصلحة أن يؤلف إنساناً وألّفهم فعلا أصبح الصنف موجوداً، فيستحقّ، وإذا لم تقتض المصلحة ذلك فلم يتألف أحداً فإن الصنف حينئذ يكون معدوماً”([59]).
فعلة إعطاء المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة إذاً هي الحاجة إلى إعزاز الإسلام، والتحقق من مدى وجود هذه العلة أمر يعود تقديره إلى وليّ الأمر، فإذا وجدها متحققة فإنه يعطي من الزكاة، لأن مناط الحكم قد تحقق، وإذا وجدها غير متحققة فإنه لا يعطي لأن الأفراد لا ينطبق فيهم المعنى الذي يجعلهم صالحين للإعطاء. وبناء على هذا الفهم فإن عمر رضي الله عنه لم يعطَِل النص القرآني ويوقف العمل به، وإنما نظر في مدَى تحقق علّة الحكم في الأفراد الذين يريد تطبيق الحكم عليهم، فوجد أن هذه العلة غير قائمة فلم يطبق الحكم نظراً لانعدام محل الحكم، تماما كما لو كان هناك أفراد يعطون من الزكاة نظراً لفقرهم، ثم أصبحوا أغنياء بعد حين فإنهم لا يعطون من الزكاة نظراً لارتفاع الوصف الذي يناط به الحكم وهو الفقر. ولو أن ظرفا من الظروف على عهد عمر أو غيره من بعده قضى بأن يتألف الإمام قوما فتألفهم، لأصبح الصنف موجوداً فلا بد من إعطائه([60]).
ومن هذه المسائل أيضاً التي يظهر فيها هذا النظر المقاصدي القائم على أساس تعقل مناط الحكم وعلته، والتحقق من مدى وجود هذه العلة في الواقعة الجديدة، مسألة التسعير الجبري، ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعِّر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى هو المسعِّر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال”([61]).
لقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة تسعير السلع في الأحوال العادية، والظروف الطبيعية التي لا يظهر فيها تدخلٌ من التجار في غلاء الأسعار، ولا يبدو منهم أي ظلم لعامّةِ الناس وسواد الخلق([62]).
وهذا الفهم مستفاد من نص الحديث نفسه الذي يرشد ظاهره إلى امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير، ويعلِّل عليه الصلاة والسّلام إجراءه هذا، بأنه يخشى أن يفضيَ فعله إلى الظلم، وهذا ما يُفهم من قوله: “وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة”، وكل ما كان ظلماً أو سبباً للظلم فهو محرم قطعاً.
ووجه الظلم في هذا التسعير أن الناسَ مسلَّطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن، أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابلَ الأمران وجبَ تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم. كما أن في إلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به منافاة لقوله تعالى: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [29: النساء].
وبناءً على هذه العلة المعقولة من الحديث الشريف، وتأسيساً على هذا المقصد الكامن وراء الامتناع عن التسعير، ذهبت طائفة من العلماء منهم الليث بن سعد والإمام مالك وبعض الحنفية وابن تيمية وابن قيم الجوزية([63])، إلى أنه إذا غلا السعر بسبب ظلم التجار، وتعديهم على قيمة السِّلع، واستغلالهم لحاجات الناس، فإنّ التسعير يصبح حينئذٍ جائزاً بل واجباً. ووجه هذا الرأي أن التسعير إنما كان حراماً لأنه وسيلة لظلم التجار، وفي ظل الظرف الجديد الذي بات فيه التجار يظلمون الناس بتعديهم على قيم الأشياء وحاجات الخلق، صار الظلم متحققاً وقائماً في حالِ الامتناع عن التسعير لا في حال التسعير، فإذا كانت الخشية من الظلم هي السبب وراء عدم التسعير، فإن الخشية من الظلم في ظل الوضع الجديد تؤيد هذا التسعير، بل تحتمه، وهذا المعنى هو ما وضحَّه ابن تيمية بقوله: “إن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب”([64]).
ومثله أيضاً قول ابن القيم: “إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
وأما الثاني -أي التسعير العدل- فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به”([65]).
وفي هذا البيان الذي قدَّمه ابن تيمية وابن القيم يظهر لنا أن الحكم بمشروعية التسعير عند قيام موجبه، قد ارتكز على أمرين:
الأول هو حسن الفهم للنص من خلال إدراك العلة التي امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير من أجلها، والمتمثلة بإقامة العدل ومنع الظلم، وأن عدم التسعير لم يكن لذات التسعير، وإنما لكونه وسيلة لإلحاق الظلم بالتجار.
الثاني: حسن التطبيق للحكم من خلال ملاحظة أن مناط الامتناع عن التسعير -وهو الظلم- لم يعد متحققاً في ظل الظرف الجديد الذي بات فيه التجار يستغلون حاجات الناس ويتحكمون في قيم الأشياء، وصار منع الظلم يستدعي التسعير، حتى يقطع السبيل أمام استغلال الحاجات ويمنع من إدخال الظلم على العباد.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن العربي حيث وضح أن النهي عن التسعير لا يتناولُ الحالات التي يكون فيها تدخلٌ من قبل التجار في غلاء الأسعار، وإنما هو مقصور على الحالات العادية والطبيعية التي يتحدد فيها السعر على حسب قوة العرض والطلب، وأن الأحاديث الواردة في النهي يجب أن تكون مقصورة على الأوضاع التي يكون فيها المنع من التسعير مظنة لإقامة العدل، حتى إذا كان العدل مرجوّاً في التسعير وجب الصيرورة إليه، لأن مناط الحكم هو العدل، فيكون التسعير جائزاً حيث تحقق العدل، ويكون ممنوعاً حيث فوَّت العدل وألحق الظلم، وهذا ما أرشد إليه بقوله: “والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين. . وما قاله النبي حق، وما فعله حكم لكن على قوم صحّ ثباتهم واستسلموا إلى ربهم، وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم، فباب الله أوسع وحكمه أمضى”([66]).
وبهذا تتبين منهجية العلماء الراسخين في التعامل مع الأحكام الشرعية فهما وتطبيقا، حيث يقفون على علل الأحكام ومقاصدها في مرحلة الفهم لتبيُّن المعنى المقصود الذي أراده الشارع وتغيّاه من وراء تشريعه، وفي مرحلة التطبيق للتحقق من قيام المقصد الشرعي المدرك والمعلوم عند تنزيل الحكم على أفراده.
المطلب الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة:
من المرتكزات الأساسية التي يستند عليها التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ضرورة مراعاة المجتهد للظروف الخاصة التي تعترض بعض الوقائع والحالات، ما يجعل تطبيق الأحكام العامة عليها سبباً في إلحاق الحرج والمشقة بها، وحينئذ تجري عليهم أحكام خاصة تتناسب مع الظرف الخاص الذي يعترضهم. وهذا المعنى قد أرشدت إليه آيات الكتاب العزيز حين بيّنت أن الأحكام التي تطَّبق في أوقات السعة والاختيار تختلف عن الأحكام التي تطبق في أوقات الضيق والاضطرار، فمن هذا مثلا تقريره تعالى لحرمة أكل بعض أنواع المطعومات في الظروف العادية الطبيعية وذلك بقوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ…) [3: المائدة]، ثم استثناؤه للمضطر من هذا الحكم العام بقوله: (… فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [3: المائدة].
ومنه أيضاً مراعاة الشارع لواقع أصحاب الأعذار الطارئة كالمريض والمسافر في صيام شهر رمضان، واعتبار حالهما الطارئ موجباً للتخفيف والتيسير عليهم في قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [184: البقرة].
ومن هذا القبيل أيضاً رفعه سبحانه للإثم والمؤاخذة عمَّن أكره على النطق بكلمة الكفر بقوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [106: النحل].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الأخرى التي تكشف عن تأثير الظرف الذي يعترض المكلف على التكليف نفسه، فظرف المقيم مختلف عن ظرف المسافر، وحال السليم مغاير لحال المريض، ووضع المكره والمضطر غير وضع المتمكن المختار.
وهذه النصوص الشرعية توجِّه إلى ضرورة النظر إلى الظروف الضرورية والحاجية التي تكتنف بعض الأفراد عند تطبيق الأحكام عليها، وإفرادها بحكم خاص على سبيل الاستثناء والترخص.
وهذا المعنى هو ما عبَّر عنه الشاطبي بقوله: “إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر بإطلاق”([67]).
ومعنى هذا: أن الحكم في مرحلة التجريد قد يختلف عنه في مرحلة التطبيق، ففي مرحلة التجريد قد يتسم الحكم بالعموم والإطلاق نظراً لاطراده على جميع وقائعه وجزئياته، ولكن في مرحلة التطبيق قد توجد بعض الظروف الخاصة التي تعترض الفرد أو الجماعة ممّا يجعل تعميم الحكم عليها سبباً في الحرج والمشقة غير المعتادة، مما يستدعي عدم تعميم الحكم عليها، وإفرادها بحكم استثنائي خاص.
وهذا الأمر هو ما وعاه علماء الأمة جزاهم الله خيراً إذ قرروا العديد من القواعد الفقهية التي تتضمن هذا المعنى وتعبِّر عنه مثل قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” و”الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة” و”المشقة تجلب التيسير”.
وهو ما نجد شواهده وتطبيقاته في العديد من الصور والوقائع منها مثلاً: ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسألة طواف الإفاضة للحائض التي تخاف فوات الرفقة، حيث ذهبا إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: “اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت”([68]) إنما يتعلق بالمرأة في وقت السّعة والاختيار، وأنه لا يصح تطبيق هذا الحكم على الحائض التي إن لم تطف بالبيت فستفوتها الرفقة، وهذا ما وضحه ابن القيم بقوله: “فظنّ من ظنّ أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك، وتمسّك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته للصلاة والصيام”([69]) وقرر ابن القيم أن هذا الإطلاق الذي يفهم من منطوق قوله صلى الله عليه وسلم: “اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت” مقيد بحالة الضرورة، وهو ليس أول مطلق يقيد بالضرورة، وبناء عليه فإنها “تطوف بالبيت والحالة هذه (أي حائضاً) وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع العجز، ولا حرام مع الضرورة”([70]).
هذا، ويمكن أن يبنى على هذا الأساس من أسس النظر المقاصدي عند التطبيق بعض الوقائع والقضايا المعاصرة التي يلاحظ فيها بعض الظروف الخاصة التي يجب مراعاتها عند تطبيق الأحكام الشرعية، مثال ذلك: التشريح الجثماني للموتى لغايات علمية طبية، أو غايات جنائية أمنية، ففي واقعنا المعاصر اتخذ علم التشريح غايات وأهدافاً أوسع مما كان عند الأقدمين وصارت له حاجة ملحة لم تكن قائمة في العصور الأولى، ويتمثل الغرض من التشريح في أيامنا بأمرين: الأول: طبي علميّ، والآخر: جنائي أمني.
أما الغاية الطبية فإن للتشريح أثراً كبيراً في تطوير العلوم الطبية عن طريق التعرف على أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة، والوقوف على وظائفها المختلفة، وإقدار الأطباء على تعيين العلل والأمراض التي تؤثر على وظائف تلك الأعضاء، هذا علاوة على أهميتها للطلبة الدارسين للطب، ويقرر الأطباء أن علم الطب لا يمكن أن يتقدم بغير التشريح([71]).
أما الغاية الجنائية الأمنية: فإن التشريح ذو أهمية كبرى للوقوف على أسباب وفاة المجني عليه وتحديد الوسيلة التي تمَّت فيها الوفاة([72])، ولهذا تأثيره الكبير في اكتشاف الأفعال الجرمية، والمساعدة في اكتشاف القاتل، وهي في نهايتها منافع ومصالح ترتدُّ على الفرد والمجتمع.
إننا إذا نظرنا إلى الأصل العام المقرر في الشريعة الإسلامية نجد أنه يحرم المساس بجثة المتوفى، وأنه يجب تكريم جسد الإنسان حياً وميتاً والتعامل معه بأدب واحترام، وهذا ما أرشدت إليه النصوص الشرعية الكثيرة مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [70: الإسراء]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن كسر عظم الميت ككسره حيّا”([73]). وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تجلسوا على القبور فلأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر”([74]).
وإذا طبقنا هذا الأصل العام على واقعة التشريح الجثماني للموتى، دون النظر إلى الضرورة الطبية والأمنية التي تحتف بها، انتهينا إلى حرمة عملية التشريح وذلك جرياً مع اطّراد هذا الأصل على كل واقعة يكون فيها مساس بجسد الميت أو أعضائه.
غير أن النظر المقاصدي عند تطبيق الأحكام الكلية يرشد إلى أنه قد احتفت بواقعة التشريح مقتضيات خاصة توجب استثناءها من الأصل العام وهذه المقتضيات هي:
1- الضرورة الطبية التي ترجع إلى التعرف على أجزاء الإنسان في سبيل معرفة الأمراض والعلل التي تؤثر عليه، وبغير هذا التشريح فإن الكثير من الأمراض لن يهتدي إلى دواء لعلاجها فتكون أنفس الأفراد وأبدانهم عرضة للهلاك والفساد.
2- الضرورة الأمنية التي ترجع إلى الحفاظ على أنفس الأفراد، عن طريق تحديد سبب الوفاة لحماية المجتمع من المجرمين الذين يعتدون على الآمنين.
ولا يقوم مقام التشريح وسيلة أخرى لتحقق فوائدها ومصالحها، فتعينت وسيلة أساسية لتقدم علم الطب ومعرفة الدواء المناسب وللكشف عن المجرمين وتحديد هويتهم.
ومن هنا كان لا بد من اعتبار هذه الضرورة عند تنزيل الحكم الشرعي على واقعة التشريح الجثماني واعتبارها في سبيل وصف الفعل بالمشروعية أو عدمها، وهذا الفقه المقاصدي السّديد هو ما نجده في قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي جاء فيه: “بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى، والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت، قرر مجلس المجمع الفقهي: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض الآتية:
أ- التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة المرتكبة، عندما يشكل على القاضي معرفة الأسباب.
ب- التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح، ليتخذ في ضوئه الاحتياطات الواقية والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
ج- تعليم الطب كما هو الحال في كليات الطب”([75]).
وبعد، فهذه هي الأسس العامة التي يجب على الفقيه أن يراعيها أثناء عملية التطبيق حتى يكون تطبيقه للحكم الشرعي موافقاً لمقاصد الشارع ومحققاً لمصالح التشريع، وإن إغفال هذه الأسس سيفضي إلى الحرج الذي يريد الشارع دفعه، وسيوقع في الفساد الذي يريد الشارع رفعه، وسيؤدي إلى الضد من مقاصد الشريعة ومكارمها.
الخاتمة
بعد هذه الجولة من البحث في التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية حقيقته وحجيته ومرتكزاته فإنني أسجل في هذه الخاتمة أبرز النتائج والتوصيات التي توصلت إليها من بحثي هذا:
أولاً: إن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج أصيل من مناهج الاجتهاد، نهض بحجيته آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضافر فقهاء الأمة وعلماؤها على إعماله وتفعيله في فتاواهم واجتهاداتهم المختلفة.
ثانياً: أظهر البحث أن للتطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية جملة من المرتكزات والأسس التي على الفقيه أن يراعيها ويتثبت منها حتى يكون تطبيقه للحكم تطبيقاً محققاً لمراد الشارع ومقاصده، وقد تمثلت هذه المرتكزات بفقه الواقع الذي سيطبق عليه الحكم الشرعي، و الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق، والتحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة، و النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
ثالثاً: نوهت الدراسة إلى أن اختلاف الأحوال والملابسات المحيطة بالواقعة التي سيطبق عليها الحكم قد يجعل لها طبيعة جديدة توجب إفرادها بالحكم الذي يناسبها، وأن الواقعة بناء على هذه الملابسات لم تعد هي نفس الواقعة التي لا تقترن بها ذات الملابسات والخصائص، فمحلَّ الحكم قد يتغير، مما يستدعي تنزيل الحكم المناسب عليه. وبناء على هذا لا يصح القول إن الحكم قد تغير نظرا للظروف والأحوال، لأن الذي تغير عند التحقيق، هو الواقعة التي سينزل عليها الحكم، مما استدعى تطبيق الحكم المناسب عليها.
رابعاً: نبَّهت الدراسة إلى الآثار الوخيمة التي قد تنجم في حالة تطبيق الحكم الشرعي بطريقة آلية، دون اعتبار لمقاصد التشريع وحكمه وأسراره، حيث ينحرف الحكم عن غايته فيمسي سبباً للحرج والمشقة والضيق والفساد، بدلاً من أن يكون وسيلة للسعة والرحمة والعدل والخير.
خامساً: يؤكد الباحث أن عملية تطبيق الأحكام الشريعة على وفق مقاصد التشريع ومصالحه عملية اجتهادية تخضع لشروط الاجتهاد وضوابطه، وما يشترط في كل عملية اجتهادية يشترط في هذه العملية أيضاً، لأنها فرع من أصل الاجتهاد، وثمرة مباركة من ثمرات الشجرة الطيبة التي تتابع على رعايتها وتعهدها علماء الأمة في الماضي والحاضر.
وأخيراً: فإنني أوصي باستكمال الدراسات حول موضوع التطبيق المقاصدي، لاسيما في مجال المرتكزات والأسس التي يقوم عليها هذا الاجتهاد، ولعل ما قدمته يعدُّ خطوة، تتبعها خطوات بإذن الله تواصل الطريق نحو تكوين نظرية متكاملة في موضوع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
(*) بحث مقدم لملتقى: “الفتوى في الأردن – الواقع والتطلعات”، الذي أقامته دائرة الإفتاء العام في عمّان – الأردن، بتاريخ (6/ 2/ 1434هـ) الموافق (20/ 12/ 2012م).
الهوامش:
([1]) ابن عبد السلام: عز الدين عبد العزيز (ت 660ھ) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية، ط1، 1421ھ-2000م، دار القلم، بيروت، ج2، ص62.
([2]) ابن تيمية: تقي الدين أحمد، مجموع الفتاوى، مكتبة المعارف، الرباط، ج20، ص48.
([3]) القرافي: شهاب الدين أحمد بن إدريس (ت 684ھ) أنوار البروق في أنواء الفروق، وبهامشه تهذيب الفروق، عالم الكتب، بيروت، ج2، ص126.
([4]) تقي الدين علي بن عبد الكافي (ت 756ھ)، وولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي (ت 771ه)، الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق: الدكتور أحمد زمزمي، والدكتور نور الدين صغيري، دار البحوث للدراسات الإسلامية، حكومة دبي، ط1، 1424ھ-2004م، ج2، ص18.
([5]) الشاطبي: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي (ت790ھ)، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: الشيخ عبد الله دراز، ط2، دار المعرفة 1395ھ -1975م، ج4، ص104.
([6]) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج4، ص90.
([7]) انظر: الطوفي: نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي (ت 716ھ)، شرح مختصر الروضة، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي، ط1، مؤسسة الرسالة بيروت، 1409ھ، ج3، ص236، وللتوسع في موضوع تحقيق المناط انظر: الكيلاني: عبدالرحمن، تحقيق: المناط عند الأصوليين وأثره في اختلاف الفقهاء، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد الثامن والخمسون، السنة التاسعة عشرة، رجب 1425ھ-2004م، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، ص82-83.
([8]) الزبيدي: السيد محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، سنة 1391ھ/1971م، ج9، ص36.
([9]) الغزالي: محمد بن محمد (ت505ھ)، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: د. محمد الأشقر، ط1، 1417ھ-1997م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج1، ص417.
([10]) الآمدي سيف الدين أبي الحسين علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، ط1، مؤسسة النور، 1388ھ، ج3، ص271.
([11]) الموافقات، ج2، ص8.
([12]) انظر على سبيل المثال: ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، ص51. الفاسي، علال، مقاصد الشريعة ومكارمها، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء، ص3. والعالم، الدكتور يوسف، المقاصد العامة للتشريع، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1412ھ-1991م، ص79. والريسوني: الدكتور أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط4، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا، 1995م ص19.
([13]) انظر: الكيلاني: الدكتور عبد الرحمن ابراهيم، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1-1421ھ-2000م، ص47.
([14]) انظر تقسيم المقاصد إلى عامة وخاصة وجزئية: ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، ص143. والريسوني: أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص20.
([15]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص285.
([16]) أخرجه ابن أبي شيبة: عبدالله بن محمد، المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: مختار الندوي، الدار السلفية، ط1، الهند 1981م، كتاب الديات، في من قال للقاتل توبة، ج9، ص362. ورجاله ثقات.
([17]) القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت 671ھ) الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة مناهل العرفان، ج7، ص61.
([18]) انظر: الطبري، محمد بن جرير (ت 310ه) جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420ه-2000م، ج2، ص460. وابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر (ت 774ه)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي سلامة، ط2، 1420ه-1999م، ج1، ص104.
([19]) أخرجه البخاري: أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، الجامع الصحيح، ضبط وترقيم: مصطفى البغا، مطبعة الهدى، كتاب المناقب باب ما ينهى من دعوى الجاهلية حديث (3330).
([20]) انظر مناسبة الحديث في المصدر السابق.
([21]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، حديث (1506/1509). ومسلم كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 1076 (174).
([22]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها حديث (1507).
([23]) مستفاد من تعريف الأستاذ الدكتور عبد المجيد النجار، فقه التدين فهماً وتنزيلاً، ط1، رئاسة المحاكم الشرعية، قطر، ص111. وللتوسع في هذا الموضوع انظر: أحمد بوعود، فقه الواقع أصول وضوابط، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ص44-45.
([24]) شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر (ت 751ھ) إعلام الموقعين، مكتبة الكليات الأزهرية 1388ھ-1968م، ج4، ص199.
([25]) إعلام الموقعين، ج4، ص204.
([26]) عبد الرزاق: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، المكتب الإسلامي، بيروت، 1972م، ج7، ص178.
([27]) أخرجه البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر، السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414ھ، باب ما جاء في تحريم حرائر أهل الشرك دون أهل الكتاب وتحريم المؤمنات على الكفار، ج7، ص170. له طرق يتقوى بها، وعليه فإنه يستشهد به على وفق ما أفادني الأستاذ المحقق عادل مرشد.
([28]) أخرجه البيهقي، كتاب الزكاة، باب من أجاز أخذ القيم في الزكوات، ج4، ص113. والدارقطني علي ابن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، السنن، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386ھ -1966م، كتاب الزكاة باب ليس في الخضروات صدقة، ج2، ص100، فيه إرسال لأن طاووس لم يدرك معاذ بن جبل، على أن البخاري قد أورده معلقا بصيغة الجزم في الجامع الصحيح، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة. والخميس: وهو الثوب الذي طوله خمسة أذرع كأنه يعني الصغير من الثياب، واللبيس: هو الثوب إذا كثر لبسه، وقيل قد لبس فأخلق.
([29]) ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ص177.
([30]) القرضاوي: الدكتور يوسف، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ط3، الكويت، دار القلم، ص153.
([31]) القرافي: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس (ت684ھ)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، تحقيق: عبد الفتاح أو غدة، ط2، 1426ھ-1995م، ص228.
([32]) ابن قدامة: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد (ت620ھ) المغني، تحقيق: الدكتور عبدالله التركي، وعبد الفتاح الحلو، ط4، 1419ھ-1999م، عالم الكتب، الرياض، ج6، ص235.
([33]) ابن القيم، ج3، ص78.
([34]) ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص78.
([35]) ابن عابدين: محمد أمين، نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، 1321ھ، ج2، ص125.
([36]) علي الخفيف، أسباب اختلاف الفقهاء، ص257.
([37]) أبو الحسن المالكي، كفاية الطالب الرباني شرح رسالة أبي زيد القيرواني، دار الفكر، 1412ھ، ج2، ص648.
([38]) الشاطبي، ج3، ص83.
([39]) الموافقات، ج4، ص195.
([40]) انظر هذا المعنى في: الموافقات، ج4، ص198.
([41]) انظر: ابن رشد (الجد): محمد بن أحمد (ت520ھ) المقدمات، دار صادر، بيروت: ج2، ص542. والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص57-58. والزركشي: بدر الدين محمد بن بهادر، البحر المحيط، ط1، 1409هـ-1988م، ج6، ص82. والشاطبي، الموافقات، ج4، ص198.
([42]) أخرجه أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، تعليق: عزت دعاس وعادل السيد، ط1، 1973م، دار الحديث، حمص: كتاب الحدود باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟ حديث (4408). والترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى، السنن، تحقيق: ابراهيم عطوة عوض، ط1، 1962م، مطبعة مصطفى البابي، مصر، كتاب الحدود باب ما جاء في أن لا تقطع الأيدي في الغزو، حديث (1450). وله طرق يتقوى بها، وعليه فإنه يستشهد به على وفق ما أفادني به الأستاذ المحقق عادل مرشد.
([43]) إعلام الموقعين، ج3، ص5.
([44]) أخرجه سعيد بن منصور، السنن، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، الدار السلفية، 1403ھ-1982م، كتاب الجهاد، باب كراهية إقامة الحدود في أرض العدو، ج2، ص234، حديث (2500)، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211ھ)، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، 1390ھ-1970م، المكتب الإسلامي، بيروت: كتاب الجهاد، باب هل يقام الحد على المسلم في بلاد العدو، ج5، ص197. وابن أبي شيبة، كتاب الحدود، باب في إقامة الحد على الرجل في أرض العدو، ج10، ص103.
([45]) ابن قدامة، المغني، ج13، ص173.
([46]) الموافقات، ج4، ص208. والاعتصام، ج2، ص193.
([47]) نقله عنه الإمام الشاطبي دون تحديد لشخص ابن رشد الجد أو الحفيد، انظر: الاعتصام، تحقيق: محمد رشيد رضا، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ج2، ص139.
([48]) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج4، ص98-99 وقال: صحيح، وتعقبه الذهبي بقوله واه، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، انظر: الحاكم: أبو عبد الله النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب.
([49]) وفي المسألة تفصيل وخلاف بين الفقهاء، انظر: الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود (ت 587ھ) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ط دار الكتب العلمية بيروت، ج6، ص282، والموصلي: عبد الله ابن محمود بن مودود، الاختيار لتعليل المختار، تحقيق زهير عثمان الجعيد دار الأرقم، بيروت: ج2، ص417
([50]) البار: محمد علي، انتفاع الإنسان بأعضاء جسم آخر حيّاً أو ميتاً مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الرابعة 1408ھ-1988م العدد الرابع، ج1، ص97.
([51]) الموافقات، ج2، ص376.
([52]) انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الرابعة، العدد الرابع 1408ھ، 1989م، ج1، ص319 و467.
([53]) انظر: محمد نعيم ياسين، أبحاث فقهية في قضايا طبية معاصرة ط 1، 1419ھ، دار النفائس ص154.
([54]) الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين، أبحاث فقهية معاصرة، ص158.
([55]) انظر في ذلك: الكيلاني: عبد الرحمن، الاستحسان وتطبيقاته في بعض القضايا الطبية المعاصرة، مجلة مؤتة للبحوث والدراسات المجلد السادس عشر، العدد الأول 2001، ص165-166.
([56]) البيهقي، السنن الكبرى، ج7، ص20.
([57]) هو علاء الدين عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الفقيه الأصولي الحنفي، له عدد من التصانيف من أشهرها كشف الأسرار على أصول البزدوي، توفي سنة 730هـ. انظر: المراغي: عبدالله مصطفى، الفتح المبين في طبقات الأصوليين، ط1، 1394ھ-1974م، بيروت، ج2، ص136.
([58]) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي، ضبط وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1411ه-1991م، ج3، ص319.
([59]) نقلاً عن الدكتور: يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، ط1، 1421ھ-2000م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص161.
([60]) انظر المصدر السابق.
([61]) أخرجه أبو داود سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، السنن، كتاب البيوع والإجارات، باب في التسعير حديث (3450). والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التسعير حديث (1314) وابن حبان: محمد ابن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، صحيح ابن حبان تحقيق: شعيب الأرنؤوط الطبعة الثانية، 1414ھ-1993، مؤسسة الرسالة، بيروت، كتاب البيوع، باب التسعير والاحتكار، حديث (4935) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ج11، ص307.
([62]) انظر: انظر ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبدالله، الاستذكار، تحقيق: سالم عطا ومحمد علي معوض، ط1، 1412ھ-2000م، بيروت، ج6، ص412. وابن عابدين: محمد الأمين بن عبد الغني (ت1252هـ)، رد المحتار على الدر المختار، دار إحياء التراث العربي، ج5، ص256. وابن قدامة، المغني، ج6، ص311.
([63]) انظر: ابن عبد البر، الاستذكار، ج6، ص412. ابن نجيم: زين العابدين بن إبراهيم (ت 970ھ) الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، 1405ھ-1985م، ص109. وابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، ج5، ص256. وابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج28، ص77. وابن القيم: شمس الدين محمد بن أبي بكر، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد جميل غازي، مطبعة المدني، القاهرة، ص355.
([64]) مجموع الفتاوى، ج28، ص77.
([65]) الطرق الحكمية، ص356.
([66]) انظر: عارضة الأحوذي، ج6، ص53.
([67]) الموافقات، ج1، ص102 .
([68]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض حديث (290)، ومسلم كتاب الحج باب وجوه الإحرام حديث (1211) (119).
([69]) إعلام الموقعين، ج3، ص14.
([70]) إعلام الموقعين، ج3، ص20.
([71]) انظر: البار: د.محمد علي، علم التشريح عند المسلمين، الدار السعودية، جدة، 1987م، ص10.
([72]) الشواربي: د.عبد الحميد، الخبرة الجنائية في مسائل الطب الشرعي، الإسكندرية، 1993م، ص42.
([73]) أخرجه أبو داود كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ حديث (3207) وابن حبان كتاب الجنائز، فصل في القبور، حديث (3167) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرطهما انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ج7، ص438.
([74]) أخرجه مسلم كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر حديث (971)(96).
([75]) انظر: قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، لدورته العاشرة القرار الأول ص17. وقرارات دار الإفتاء المصرية، فتوى رقم (88)، وهيئة كبار العلماء، السعودية، فتوى رقم (47)، تاريخ 20/8/1396ھ.
2 people اعجبت بهذا
بحث هام حول استعمال الحق لقصد احداث ضرر .
د. إسماعيل كاظم العيساوي / جامعة الشارقة – دولة الإمارات العربية المتحدة
ملخص
يعالج هذا البحث قضية استعمال الإنسان لحقه، لا لمصلحة عائدة له، بل لقصد إضراره بالغير، وهو ما اتفقت الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية على منعه، وعدِّه تجاوزا غير مشروع على الآخرين.
وأبرز البحث كثيرا من التطبيقات في الشريعة الإسلامية، إضافة إلى تطبيقات قضائية في المحاكم العربية حكمت المحاكم فيها بعدم مشروعية تلك الأعمال، وإن كان ظاهرها يوهم تحقيق مصلحة.
كما أبرز البحث المعيار الذي يحدد مشروعية استعمال الحق أو عدم مشروعيته.
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه أَجمعين؛ وبعد:
فإن الله عز وجل خصَّ هذه الأمة عن سائر الأمم بخصائص عظيمة ومناقب جليلة، ومن هذه الخصائص، جعل هذا الدين كاملاً لا يحتاج إلى زيادة، وجعله شاملاً مستوعبا لما كان، ولما يستجد من أمور وقضايا ومسائل.
لقد اهتمت التشريعات المدنية في العالم الحديث بقضيتين مهمتين، وهما: استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، واستعمال الحق لتحقيق مصلحة غير مشروعة، واللتان تمثلان المظهر العام لنظرية يطلق عليها في التشريعات الوضعية نظرية التعسف([1])، في استعمال الحق، ومنها التشريعات التي قامت في البلاد العربيـة، وجعلت أَحكامها ونظريتها في الصدر من هذه التشريعات القانونية المدنية، وقرر واضعوها وشراحها أَنَّ موضوع التعسف هذا تنبسط أحكامه ومعاييره وقواعده على جميع أَنواع الحقوق التي تضمنتها التشريعات العامة والخاصة.
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية غيرها من التشريعات بالأَخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق؛ ذلك لأَنَّ الشريعة الإسلامية تقيم أحكامها على أساس العدالة والرفق بالناس ورفع الحرج عنهم، وتستهدف تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهي بذلك تختلف عن المذهب الفردي الذي يجعل حق الفرد أَساس وجود القانون، ويرى أَنَّ القانون ما وجد إلا لحماية حقوقه وكفالتها، وعن المذهب الاجتماعي الذي يرى أن الحق ليس مُكْنَة مطلقة لصاحبه، وإنما هو وظيفة اجتماعية، لا يكون استعماله إلا لتحقيق خير المجتمع وصالحه، ولا ينكر فقط السلطة المطلقة لصاحب الحق في استعمال حقه، بل ينكر أيضا أن يكون له سلطة على الإطلاق.
ومن هنا نوهت المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الإماراتي بنشأة هذه النظرية في الشريعة الإسلامية، وقررت عناية الشريعة الإسلامية بصياغتها صياغة تضارع- إن لم تَفُقْ في دقتها وأحكامها- أحدث ما أسفرت عنه مذاهب المحدثين من علماء الغرب، إزاء ذلك حرص المشرع الإماراتي على أن ينتفع في صياغة النص بالقواعد التي استقرت في الشريعة الإسلامية([2]).
وقد عنيت التشريعات المختلفة التي عرضت للتعسف في استعمال الحق، بتحديد معايير التعسف وضوابطه، غير أنها اختلفت في تحديدها، فبعض الشرائع تقتصر على وضع معيار عام للتعسف، تاركة إلى القضاء أمر تطبيقه على ما يعرض له من أحوال ووقائع تفصيلية في الحياة العملية، وبعضها الآخر يعدد الصور المختلفة التي يوجد فيها التعسف دون أن يعنى باستظهار المبدأ العام الذي يحكمها.
وقد اخترت أن أبحث في القضيتين السابقتين بوصفهما من أهم مكونات التعسف في استعمال الحق، وقد قسمت هذا البحث إلى تمهيد ومبحثين وخاتمة وفق ما يأتي:
التمهيد وتحدثت فيه عن: انتفاء المصلحة المشروعة.
أما المبحث الأول فهو في: استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير وتطبيقاته:
المطلب الأول: استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير.
المطلب الثاني: تطبيقات استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير.
ويتضمن هذا المطلب فرعين:
الفرع الأول: في الشريعة الإسلامية.
الفرع الثاني: في تطبيقات القوانين المدنية والقضاء.
والمبحث الثاني في: استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة وتطبيقاته:
المطلب الأول : استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة.
المطلب الثاني: تطبيقات استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة.
ويتضمن هذا المطلب فرعين:
الفرع الأول: في الشريعة الإسلامية.
الفرع الثاني: في تطبيقات القوانين المدنية والقضاء.
أما الخاتمة: فسأذكر فيها أبرز نتائج البحث والتوصيات.
أسأل الله العلي القدير أن يكون هذا البحث قد أصاب الحق فيما ذهب إليه، على أن هذا البحث يعد قاصراً لو قارناه بأهمية الموضوع، وختاماً أصلي وأسلم على رسولنا الكريم.
التمهيد
انتفاء المصلحة المشروعة
هذا المعيار يعول عليه في أغلب التشريعات الوضعية، كما أنه أوسع مجالاً في تطبيقاتها العملية، ومرد هذا المعيار أن الحقوق وسائل لتحقيق غايات مشروعة، بحيث لا يسوغ لصاحب الحق أن يستعمله في تحقيق أغراض تتنافى مع تلك الغاية، إعمالا لمبدأ أن للوسائل حكم غاياتها، وعلى ذلك فإنْ استعمل صاحب الحق حقه بغير وجه مشروع، أو كانت المصلحة ضئيلة بحيث لا تبرر الأَضرار الناجمة عن ذلك الاستعمال، أو كان الاستعمال لتحقيق مصلحة غير مشروعة، فإنَّ صاحب الحق يعد متعسفا في استعمال حقه.
فاستعمال الأَفراد لحقوقهم في الشريعة الإسلامية ليس مطلقا من كل قيد، بل هو مقيد بما يأتي:
1. ألا يؤدي استعمال الحق إلى إلحاق الضرر بالمصلحة العامة التي يعود نفعها على الناس كافة، أو بالمصلحة الخاصة التي يعود نفعها على بعض الأَفراد.
2. ألا يستعمل الحق في غير غاية أبداً ، بأن يستعمل لمجرد التلهي والتلذذ من غير أن يقصد به تحقيق نفع للفرد أو للجماعة.
3. ألا يستعمل في تحقيق غاية غير مشروعة، بأن يتخذ وسيلة للوصول إلى مآرب وغايات تتنافى مع مشروعية ذلك الحق.
4. أن يوازن بين المنافع والأضرار التي تنجم عن استعمال الحق، فإنْ غلب جانب المنفعة على جانب الضرر ساغ استعمال الحق، وإن غلب الضرر خرج عن دائرة المشروعية([3]).
وهذا المعيار على درجة كبيرة من الوضوح؛ لهذا فقد أشارت إليه الأحكام باطراد سواء في مجال استعمال حق الملكية، أو حق التعاقد، أو حق التقاضي أو في غيرها من الحقوق الأُخرى.
ويشمل هذا المعيار، فضلا عن انعدام المصلحة أو تفاهتها، استعمال الحق أيضا للإضرار بالغير، لأَنَّ استعمال الحق لمجرد الإضرار هو استعمال للحق بغير مصلحة معتبرة فيه لصاحبه.
وقد ذهب الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى إلى منع تصرف صاحب الحق إن هو قصد منه مجرد العبث، ولم يهدف إلى تحقيق أية مصلحة، وقد أَظهر أيضا أَنَّ تخير صاحب الحق في استعماله حقَّه وسيلةً أكثر إضرارا بالغير، يعني أنه قصد من هذا الاستعمال للحق على هذا النحو الإضرار بالغير.
وهو يقول في ذلك: “أما أن يكون إذا رفع ذلك العمل، وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة، أَو درء تلك المفسدة حصل له ما أَراد أَولا، فإنْ كان كذلك فلا إشكال في منعه منه؛ لأَنه لم يقصد ذلك الوجه إِلا لأَجل الإِضرار، فلينتقل عنه ولا ضرر عليه، كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار”([4]).
وعليه فإِنَّ انتفاء المصلحة من استعمال صاحب الحق لحقه يتخذ قرينة على توفر قصد الإضرار لديه؛ لذا وجب منعه من استعماله على هذا النحو، ومن باب أولى فإنه يجب منعه إذا استعمل حقه على وجه سلبي، بأن يمنع غيره من الانتفاع بأرضه مثلاً، إذا ما ترتب على ذلك نفع كليهما([5]).
ومن تطبيقات انتفاء المصلحة المشروعة من الفعل أو استعمال الحق في الشريعة الإسلامية. فقد جاء في المدونة: “أرأيت لو أني أعرت رجلاً يبني في أرضي أو يغرس فيها، وضربت له لذلك أجلاً، فبني وغرس، فلما مضى الأجل أردت إخراجه، قال: قال مالك: يخرجه ويدفع إليه قيمة نقضه منقوضا إن أحب رب الأرض، وإن أبى قيل للذي بنى وغرس اِقلع نقضَك وغِراسَك ولا شيء لك غير ذلك([6])، قلت: وما كان لا منفعة له فيه إذا أنقضه، فليس له أن ينقضه في قول مالك”([7]). لأنه ليس في بقائها مضرة تلحق مالك الأرض وليس في رفعها منفعة تلحقه، ولكن في رفعها مضرة تلحق المستعير، ومن هذا الباب وصف فعله بالتعسف.
ويمتاز هذا المعيار بأنه يمزج بين العنصر الشخصي، والعنصر الموضوعي، إذ إنه يجب أن يلتمس فيه وجه المصلحة، كما يجب تقدير مشروعية هذه المصلحة. وقد يمكن أن يدخل في هذا المعنى القول بانضمام المعيار الشخصي لنية الإضرار، إلى المعيار المادي لوجهة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية([8]).
ويندرج تحت التعسف في استعمال الحق عدة حالات منها:
1. استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير.
2. استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة([9]).
وهما ما جعلتهما عنوانا لهذا البحث، وسأقوم بدراستهما دون التطرق إلى الحالات الأخرى؛ حتى لا يطول البحث، وعلَّ دراسةً أخرى تسعفني لاستكمال بقية الحالات والله المستعان.
المبحث الأول استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير وتطبيقاته
المطلب الأول: استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير:
هذه الحالة هي أبرز حالات استعمال الحق في غير وجهه، وفيها يكون الشخص قد استغل الحق الممنوح له، لا لتحقيق مصلحته التي منح هذا الحق لأجلها، ولكن ليلحق الضرر بالغير ويسيء إليه. ولهذا كانت هذه الحالة من أبرز حالات استعمال الحق بغير وجهه وأكثرها شيوعاً في الشرائع المختلفة لكثرة استعمال الأفراد حقوقَهم للنكاية بالآخرين والإضرار بهم، وقد استقر هذا في الشريعة الإسلامية والقضاء على الأخذ به.
والقصد إلى الإضرار بالغير ممنوع في الشريعة، فيمنع الفعل الذي اتخذ وسيلة للتعبير عنه، أو لتحقيقه؛ لأنه يتنافى وأغراض الشارع من تشريعه للحقوق([10]).
وقد اتفق الفقهاء جميعا على تحريم قصد الإضرار بالغير، فقد ورد في القرآن الكريم النهي عن الإضرار في مواضع منها:
1. قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[البقرة: 231].
2. وقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)[البقرة: 233].
3. وقوله تعالى:(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ)[الطلاق: 6].
4. وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”([11]).
ويقول ابن رجب رحمه الله تعالى في هذا: “وبكل حالٍ فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضَّرر والضِّرار بغير حق. فأما إدخال الضَّرر على أحد بحقٍّ، إما لكونه تعدّى حدود الله، فيعاقب بقدر جريمته، وإما لكونه ظلمَ غيرَه، فيطلب المظلومُ مقابلتهُ بالعدل فهذا غير مراد قطعاً، وإنما المراد: إلحاق الضرر بغير حق، وهذا على نوعين: أحدهما: ألا يكون في استعمال الحق غرض سوى الضرر بالغير، فهذا لا ريب في تحريمه وقبحه…”([12]).
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى مؤيداً تحريم قصد الإضرار: “لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار، لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام”([13]).
ونصت التشريعات العربية أيضا على منع استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، فقد نص القانون المدني المصري مادة (5)، والعراقي مادة (7/ 2)، والمعاملات المدنية الإماراتي مادة (2/ 106)، على أن استعمال الحق يكون غير مشروع في أحوال أربع منها: (إذا توافر قصد التعدي).
واستعمال الحق بقصد الإضرار بالغير يُعَدُّ معياراً ذاتيا، أو شخصيا بحتا إذ إنه يتعلق بالقصد والنية، بمعنى أنه ينظر أساسا إلى نية صاحب الحق في استعماله، فإن كان لا يقصد بهذا الاستعمال إلا أن يضر بغيره دون أن تعود عليه هو من الاستعمال أي فائدة، كان متعسفا في هذا الاستعمال، كمن يقيم جداراً عاليا في أرضه أو يغرس أشجاراً لمجرد حجب الضوء أو الهواء عن جاره دون أن تكون لها فائدة، فانعدام المنفعة قرينة عن قصد الإضرار.
ويستخلص القضاء قصد الإضرار من انتفاء كل مصلحة في استعمال الحق استعمالاً يلحق الضرر بالغير متى كان صاحب الحق على بينة من ذلك([14])، “إن استعمال الحق دون منفعة، قرينة على أن-مستعمل الحق- لم يقصد سوى الإضرار بغيره، فنية الإضرار مفترضة في هذه الحال”([15]).
والذي يبدو أنه لا يلزم لزوماً مطلقاً من انتفاء المصلحة أو المنفعة في استعمال الحق توفرُ نية قصد الإضرار بالغير؛ فقد يستعمل صاحب الحق حقه على وجه غير وجه تحقيق المنفعة له، ولا يقصد من ذلك إلحاق الضرر بالغير، كمن يتلف طعاما له أو بعض ملابسه، فلا يلزم من ذلك إلحاق الضرر بالغير، ولا تعد نية الإضرار بالغير مفترضة، بل إن قولة (مفترضة) مفتقر لقبوله إلى وجود نص قانوني ينص على افتراض هذه النية فيما ذكر. إن انتفاء المنفعة في الاستعمال قد يكون عن جهل، أو غفلة أو عدم خبرة في استعماله، ومن ثمَّ فلا تشترط فيه نية خاصة حين البحث في النية، لكن قصد الإضرار بالغير نية خاصة، فمثلا لا بد للدائن (المضرور) من إثباتها.
ومع ذلك فإن تطبيق هذا المعيار يقتضي الاستعانة بمعيار موضوعي هو مسلك الرجل المعتاد في هذا الموقف، إذ إن مجرد نية الإضرار، بمعنى الإضرار العمد لا يكفي بذاته للقول بوجود انحراف في السلوك، فالشخص قد يستعمل حقه ويتعمد الإضرار بغيره، ومع ذلك لا يعتبر منحرفا إذا كان استعمال حقه على هذا النحو يحقق له نفعا كبيرا يفوق بكثير الضرر الذي سيصيب الغير، أما إذا انطوى استعمال الحق على قصد الإضرار بالغير، دون أن يقترن ذلك بتحقيق أية مصلحة لصاحب الحق، أو بتحقيق مصلحة ثانوية، أو تحققت مصلحة له بطريقة عرضية غير مقصودة، فإنه يكون متعسفا في استعمال حقه طبقا لمسلك الشخص المعتاد في مثل هذه الظروف([16]).
والظاهر مما تقدم أن الممنوع هو قصد إلحاق الضرر بالغير من غير حق، أما إدخال الضرر على أحد يستحقه، إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو لكونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير ممنوع قطعا ولا يعد فاعله مسيئا، فهذا فعل في دفع الظلم، واستعماله مشروع، وقد يجب استعماله حسب الأحوال.
ومما تقدم أيضا يمكن وضع شرطين لتحقق هذا المعيار هما:
1. أن يقصد صاحب الحق بفعله إلحاق الضرر بالغير.
2. أن يتمحص قصده لذلك، بحيث لا يصحبه قصد إلى شيء آخر من وراء هذا الفعل، كالقصد إلى تحقيق منفعة ولو ضئيلة منه.
فإذا صحب قصد الإضرار بالغير قصد تحصيل منفعة ما ولو تافهة، لم يكن الفعل محكوما بهذا المعيار، وإن كان في ذاته يعتبر إساءة لاستعمال الحق، ويحكمه معيار آخر وهو عدم التناسب بين مصلحة صاحب الحق والضرر الذي يلحق الغير([17]).
فالعبرة في تحقق هذا المعيار هو قصد الإضرار بالغير من غير أن يصحبه قصد إلى شيء آخر، ولا يهم بعد ذلك أن يترتب عليه نفع مادام هذا النفع غير مقصود.
ويدخل في معيار قصد الإضرار بالغير- من حيث القضاء- كل فعل لم يقم فيه دليل معين على قصد الإضرار بالغير، ولكن هذا الفعل قد خلا من المصلحة وتجرد من الفائدة، فإن انعدام المصلحة من الفعل يعتبر قرينة في القضاء على قصد الإضرار بالغير، إذ الأصل أن أفعال العقلاء لا تخلو من المصلحة، فإذا لم يحقق الفعل مصلحة ما ولو ضئيلة كان ذلك قرينة على قصد الإضرار بالغير، فيكون الفاعل مسيئا في هذا الاستعمال([18]).
ويجب أن يثبت المتضرر أن صاحب الحق، وهو يستعمل حقه قصد إلى إلحاق الضرر به، وله إثبات هذا القصد بجميع طرق الإثبات، ومنها القرائن المادية، ولا يكفي إثبات أن صاحب الحق تصور احتمال وقوع الضرر من جراء استعماله لحقه على الوجه الذي اختاره، فإن تصور احتمال وقوع الضرر لا يفيد ضرورة القصد في إحداثه. فلو أن شخصاً يملك أرضاً للصيد، وصاد فيها، فأصاب شخصاً آخر دون أن يتعمد ذلك، فإنه لا يكون لديه قصد الإضرار بالغير، حتى لو ثبت أنه تصور احتمال وقوع هذه الإصابة، ولا يعد هذا التصرف تعسفاً، لا باعتبار أنه ينطوي على قصد الإضرار بالغير، ولا بأي اعتبار آخر.
فإذا أقام المتضرر الدليل على نية الإضرار، اعتبر مستعمل الحق متعسفاً في استعماله ومسؤولاً عن الأضرار التي وقعت بموجب أحكام ضمان الفعل الضار، وعلى المدعى عليه أن يثبت العكس لينجو من المسؤولية([19]).
ويرى الدكتور السنهوري في باب الإثبات أنه لو لم يقم الدليل القاطع على وجود القصد في إحداث الضرر، ولكن الضرر وقع فعلاً وتبين أنه لم يكن لصاحب الحق أية مصلحة في استعمال حقه على الوجه الذي أضر فيه بالغير، فإنه يرى أن انعدام المصلحة هنا انعداماً تاماً قرينة على قيام القصد بإحداث الضرر، كما يدل الخطأ الجسيم على سوء النية. ويؤيد السنهوري بقوله الاتجاه الفقهي الذي يرى أن غياب أي مصلحة لمستعمل الحق مع وقوع الأضرار بالغير قرينة على توفر قصد الأضرار بالغير لدى مستعمل الحق، وهذه القرينة بالضرورة هي بسيطة قابلة لإثبات العكس الدليل القانوني المعتبر([20]).
وقد اختلف الشراح في التشريعات الوضعية في الإجابة عن هذا السؤال: هل يجب أن يكون قصد الإضرار بالغير هو القصد الوحيد من استعمال الحق أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أنه يكفي أن يكون قصد الإضرار بالغير هو العامل الأصلي الذي دفع صاحب الحق إلى استعمال حقه، ولو كان ذلك مصحوباً بنية جلب منفعة كعامل ثانوي. وذهب بعضهم الآخر إلى أنه يجب لإعمال المعيار -نظراً لصراحة النص- أن يكون قصد الإضرار هو القصد الوحيد([21]). وقد تقدم ترجيحنا للرأي الأول.
المطلب الثاني: تطبيقات استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير:
الفرع الأول: في الشريعة الإسلامية:
اتفق الفقهاء جميعاً على تحريم قصد الإضرار بالغير، وعلى تأثيم من يفعل ذلك وأنه يستوجب الجزاء الأخروي، إلا أن الحنفية لا يوجبون الضمان إذا كان الشخص مستعملا لحقه ولحق بغيره ضرراً إلا إذا قصد إلحاق الضرر به، وتدل ظروف الحال على توفر هذه النية، ولا والأمثلة التي ستأتي تدل على ذلك وحجتهم- والله أعلم- أن استعماله في خارج القيد المذكور مشروع، وأن على الغير منع وصول أو اتصال الضرر به، وذلك تكليفه وليس تكليف مستعمل الحق. وإذا كان استعماله مشروعا فهو لا يسأل عليه ديانة ولا قضاء، ونورد هنا المسائل الفقهية من المذاهب المختلفة التي تبين ذلك كما يأتي:
1. جاء في مجمع الضمانات: رجل أراد أن يحرق حصائد أرضه، فأوقد النار في حصائده، فذهبت النار إلى أرض جاره، فأحرق زرعه، لا يضمن، إلا أن يعلم أنه لو أحرق حصائده تتعدى النار إلى زرع جاره([22])، لأنه إذا علم كان قاصداً إحراق زرع غيره. قالوا: إن كان زرع غيره يبعد عن حصائده التي أحرقها، وكان يأمن من أن يحترق زرع جاره، ولا يطير شيء من ناره إلا شرارة أو شرارتان؛ فحملت الريح ناره من أرضه إلى أرض جاره فانحرق زرع الجار وكدسه([23])، لا يضمن، فإذا كانت أرض جاره قريبة من أرضه، بأن كان الزرعان ملتصقين أو قريبين من الالتصاق على وجه يعلم أن ناره تصل إلى زرع جاره يضمن صاحب النار زرع الجار.
وكذلك رجل له قطن في أرضه، وأرض جاره لاصقة بأرضه، فأوقد النار من طرف أرضه إلى جانب القطن، فأحرقت ذلك القطن كان ضمان القطن على الذي أوقد النار، لأنه إذا علم أن ناره تتعدى إلى القطن كان قاصداً إحراق القطن([24]).
2. وفي كتاب الخراج لأبي يوسف رحمه الله تعالى: في الرجل يكون له النهر الخاص، فيسقي منه حرثه ونخله وشجره، فينفجر من ماء نهره في أرضه فيسيل الماء من أرضه إلى أرض غيره فيغرقها، هل يضمن؟ قال: ليس على رب النهر في ذلك ضمان، من قبل أن ذلك في ملكه، وكذا لو نزت أرض هذا من الماء ففسدت، لم يكن على رب الأرض الأولى شيء، وعلى صاحب الأرض التي غرقت ونزت أن يحصن أرضه. ولا يحل لمسلم أن يتعمد أرضاً لمسلم أو ذمي بذلك ليغرق حرثه فيها، يريد بذلك الإضرار به، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرار، وقد قال: “ملعون من ضار مسلماً أو غيره”([25]).
وإن عرف أن صاحب النهر يريد أن يفتح الماء في أرضه للإضرار بجيرانه والذهاب بغلاتهم، وتبين ذلك فينبغي أن يمنع من الإضرار بهم([26]).
3. وفي معين الحكام: “قال ابن عتاب: الذي أقول به وأنقله من مذهب مالك أن جميع الضرر يجب قطعه، إلا ما كان من رفع بناء من هبوب الريح وضوء الشمس وما كان في معناهما، إلا أن يثبت القائم في ذلك أن محدث ذلك أراد الضرر بجاره”([27]).
وقال: “وإن من يحفر بئراً في ملكه أو غير ملكه ليتلف سارقاً، فقد روى ابن وهب عن مالك يُضَمَّن السارقَ وغيرَه. ومن حدد قضيباً أو عيداناً فجعلها ببابه لتدخل في رجل من يريد الدخول في حائطه من سارق أو غيره، فإنه يُضَمَّنُ، وكذلك من جعل على حائطه شركاً يستضر به من يدخل أو رش قناة، يريد بذلك أن يزلق من يمر به من إنسان أو غيره، فهذا يضمن في هذه الوجوه”([28]).
نرى من هذه النصوص أن يمنع من إجراء الماء في ملكه، أو فعل أي شيء فيه، إذا كان الغرض من ذلك هو الإضرار بالغير، وأنه إذا أصاب الغير ضرر في هذه الحالة كان على المالك ضمان ما تلف بسبب سوء استعمال حقه.
4. ومن تطبيقات هذا المعيار منع المضارة في الرجعة. قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: “من راجع امرأته قبل انقضاء عدتها ثم طلقها من غير مسيس، أنه قصد بذلك مضارتها بتطويل العدة، لم تستأنف العدة وبنت على ما مضى، وإن لم يقصد ذلك استأنفت عدة جديدة”([29]).
5. ومنها منع المضارة في الرضاع. قال مجاهد في قوله تعالى: (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) قال: لا يمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك([30])، وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي وغيرهم: إذا رضيت ما يرضى به غيرها فهي أحق به. وهذا هو المنصوص عند أحمد ولو كانت الأم في حبال الزوج. وقيل: إن كانت في حبال الزوج فله منعها من إرضاعه، إلا أن يمكن ارتضاعه من غيرها، وهو قول الشافعي وبعض الحنابلة، لكن إنما يجوز ذلك إن قصد الزوج به توفير الزوجة للاستمتاع بها لا مجرد إدخال الضرر عليها([31]).
6. اشترط الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- في الوكيل بالخصومة أن يرضى عنه الخصم فيها، إلا إذا كان الموكِّل يقوم به عذر يمنعه من الخصومة بنفسه لمرض، أو به سفر، أو أن الخصومة من امرأة مخدرة لا تخرج، فإن التوكيل حينئذ يجوز بغير رضا الخصم، وخالف الصاحبان في ذلك، وذهبا إلى إطلاق حرية الموكِّل في اختيار وكيله؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه. وقد اختار الإمام السرخسي العمل برأي أبي حنيفة إذا علم من الموكل قصد الإضرار بخصمه في اختيار وكيله. والعمل برأي الصاحبين إذا علم من الخصم الآخر التعنت في رفضه للوكيل وقصد الإضرار بالموكل، وهذا هو المختار عند المتأخرين في المذهب الحنفي. وأساس هذا الاختيار منع كل من المتخاصمين من إساءة استعمال الحق([32]).
7. قال المالكية في باب الدعاوى بالتهم والعدوان: “لو ادعى رجل غصباً على رجل من أهل الخير والدين والأدب. قال أشهب: لا يؤدب، وهل يحلف المدعى عليه في هذه الصورة وما يماثلها أم لا؟ قالوا: إن كان المدعى به حقاً لله لم يحلف، وإن كان حقاً لآدمي، فعن مالك قولان مبنيان على جواز سماع هذه الدعوى. والصحيح أنها لا تسمع في هذه الصورة، ولا يحلف المدعى عليه، لئلا يتطرق الأرذال والأشرار إلى أذية أهل الفضل والاستهانة بهم، وقال ابن الهندي: الأيمان التي فيها التهم والظنون لا تجب على المدعى عليه حتى يثبت أنه ممن تلحقه مثل هذه التهمة، فإذا ثبت ذلك حلف وليس له رد اليمين”([33]).
8. وجاء في بعض كتب الحنابلة: “دعاوى التهم وهي الأفعال المحرمة كدعوى القتل، وقطع الطريق، والسرقة، والقذف، والعدوان هنا ينقسم المدعى عليه إلى ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون بريئاً ليس من أهل التهمة، أو فاجراً من أهلها، أو مجهول الحال لا يعرف الوالي والحاكم حاله. فإن كان بريئاً لم تجز عقوبته اتفاقاً. أما المتهِم له فعقوبته على قولين: أصحهما يعاقب صيانة كتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البِراء”([34]).
9. قال الحنابلة في باب الصلح: “ليس للمالك التصرف في ملكه بما يضر جاره نحو أن يبني فيه حماماً بين الدور، أو مخبزاً بين العطارين، أو يجعله دار قصارة تهز الحيطان، أو يحفر بئراً تجتذب ماء بئر جاره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”([35])، ولأنه تصرف يضر بجيرانه فمنع منه، كالدق الذي يهز الحيطان. وليس له سقي أرضه بما يهدم حيطانهم، وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره، فعلى الأعلى بناء سترة بين ملكيهما، ليدفع عنه ضرر نظره إذا صعد سطحه”([36]).
الفرع الثاني: في القانون المدني والقضاء:
وهناك أمثلة ذكرها القانونيون، وقضايا حكمت بها المحاكم ضد المسيء في استعمال حقه بقصد الإضرار بالغير، ونصوصٌ في القانون المدني نذكر منها ما يأتي:
1. نصت المادة (1136) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي بأن: “للمالك أن يتصرف في ملكه تصرفا مطلقا ما لم يكن تصرفه مضرا بغيره ضررا فاحشا، أو مخالفا للقوانين، أو النظم المتعلقة بالمصلحة العامة، أو المصلحة الخاصة”.
2. جاء في قانون المعاملات الإماراتي، مادة (1139): “حجب الضوء عن الجار يعد ضررا فاحشاً فلا يسوغ لأحد أن يحدث بناء يسد به نوافذ بيت جاره سداً يمنع الضوء عنه وإلا جاز للجار أن يطلب رفع البناء دفعاً للضرر”.
فاستعمال الحق بقصد جلب منفعة شخصية لصاحبه أمر شرعي لا غبار عليه، ولو أدى إلى ضرر الغير، أما إذا كان القصد من استعمال الحق هو مجرد الإضرار بالغير، فهو غير مباح قانوناً؛ لأن قصد الإضرار بذاته سبب غير شرعي يجرد استعمال الحق من مشروعيته([37]).
3. كما نصت المادة (1143) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي على ما يأتي:
1- لا يجوز للجار أن يجبر جاره على إقامة حائط، أو غيره على حدود ملكه، ولا على النزول عن جزءٍ من حائط، أو من الأرض القائم عليها الحائط.
2- وليس لمالك الحائط أن يهدمه دون عذر قوي، إن كان هذا يضر بالجار الذي يستتر ملكه بالحائط.
تحظر هذه المادة على الجار أن يجبر جاره على إقامة حائط أو غيره على حدود ملكه، كما لا تجيز له أن يجبره على النزول عن جزء من حائط أو من الأرض القائم عليها. وفي مقابل ذلك فليس لمالك الحائط أن يهدمه دون عذر قوي إن كان هذا الهدم يضر بالجار الذي يستتر ملكه بالحائط([38]).
4. نصت المادة (1144) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي على ما يأتي:
1- على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.
2- وليس للجار أن يرجع على جاره، في مضار الجوار المألوفةِ، التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار، إذا تجاوزت الحد المألوف، على أن يراعي في ذلك العرف، وطبيعة العقارات، وموقع كل منهما بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له. ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق.
وتحظر هذه المادة الغلو في استعمال المالك ملكه استعمالاً يضر بملك الجار ولا تجيز للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما تجيز له إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف مع مراعاة العرف وطبيعة العقارات، وموقع كل منهما بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق([39]).
المبحث الثاني استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة وتطبيقاته
المطلب الأول: استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة:
وهذا المعنى يتحقق في استعمال الحق في المصلحة غير المشروعة.
ومقتضى هذا المعيار أنَّه لا يكفي أن تكون المصلحة التي ينشدها صاحب الحق من وراء استعماله لحقه ذات نفع له، بل يجب أن تكون هذه المصلحة مشروعة أيضا،ً لأن الحقوق إنما شرعت لتحقيق غايات نبيلة، ومصالح عامة، أو خاصة، ولم تشرع عبثا،ً أو لمجرد التلهي بها، أو لقصد الإفساد وإلحاق الأذى بالغير، فينبغي أن يستعمل الحق في الغايات المشروعة التي منح الحق من أجلها، ولا يجوز أن يستعمل الحق فيما لم يشرع ذلك الحق من أجله([40]).
ولم يعتبر أبو زهـرة – رحمه الله تعالى- هذا النوع، حيث اعتبر المنافع غير المشروعة حرامًا في ذاتها، فقال: “وأما الفقرة من المادة (45) من القانون المصري: وهي ما إذا كانت المصالح غير مشروعة، فإن من يفعل ذلك لا يعد ابتداء قد استعمل حقه، حتى يعتبر قد أسيء استعماله؛ لأن المنافع غير المشروعة حرام في ذاتها، فتكون ممنوعة في الإسلام بأصل عدم المشروعية”([41]).
ولكن قد يكون للتشريعات الوضعية حجتها في النظر القاصر على استعمال الحق دون غايته وعلى ربطها بالغاية مرة أخرى، ونظرة أخرى في خطورة اللامشروعية.
فقد تؤثر المصلحة غير المشروعة في التصرف المفضي إليها تأثيرا كبيرا فتضفي عليه حكم البطلان، كمن يهب مالاً لامرأة لإقامة علاقة غير مشروعة.
وقد يقل حجم تأثيرها في التصرف فتضفي عليه حكم الفساد كما في عقود العينة عند الحنفية([42])؛ لأن الغاية منها الربا. وقد تؤثر على التصرف فتجعله غير لازم أو غير نافذ، فحالة اللا لزوم كما في التغرير الذي يصحبه غبن فاحش؛ فالتغرير ها هنا إنما هو لحمل الطرف الآخر على التعاقد، وما كان ليبرم هذا العقد لو تبين حقيقة الأمر.
وحالة اللانفاذ كما في تصرفات الدائن بقصد الإضرار بدائنه، وتصرفات المريض مرض الموت تصرفات ضارة بالورثة.
وقد أخذت القوانين المدنية بهذا المعيار، فقد جاء في القانون المدني المصري المادة (5/جـ)، والعراقي المادة (7/ 2)، ما نصه: “يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:…(جـ) إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة”([43]).
ولقد فصلت المادة (106) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي نطاق استعمال الحق، وأوجبت الضمان على من استعمل حقه استعمالاً يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة، ونصها:
“1. يجب الضمان على من استعمل حقه استعمالا غير مشروع.
2. ويكون استعمال الحق غير مشروع:
أ- إذا توافر قصد التعدي.
ب- إذا كانت المصالح التي أريد تحقيقها من هذا الاستعمال مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية أو القانون أو النظام أو الآداب.
ج- إذا كانت المصالح المرجوة لا تتناسب مع ما يصيب الآخرين من ضرر.
د- إذا تجاوز ما جرى عليه العرف والعادة”([44]).
ووصف استعمال الحق بأنه “غير مشروع”، يوحي بأنه فعل يجاوز حدود الحق الموضوعية، أو أنه غير مشروع أصلاً، كصورة من صور الخطأ، بينما استعمال الحق فعل مشروع في الأصل.
ومن صور لا مشروعية المصلحةُ المتوخاةُ من استعمال الحق، استعمالُ الشخص حقَّه لا لمجرد الإضرار بالغير، بل لمصلحة شخصية له لا تتناسب مع الضرر الذي يسببه للغير؛ وذلك لأن الحقوق إنما تقررت لأصحابها ليحققوا بها مصالح يحميها القانون، لا لتحقيق مصالح غير مشروعة، فمن يستعمل حقه لتحقيق مصلحة غير مشروعة مهما عظمت هذه المصلحة، يسيء استعمال حقه ويعد مخطئاً خطأ يوجب مسؤوليته عما يسببه ذلك من ضرر بالغير([45]).
لقد آثر قانون المعاملات المدنية أن يستعمل تعبير “المصلحة غير المشروعة” بدلاً من التعابير الأخرى التي يرى أنها أقل وضوحاً منه كالهدف الاجتماعي للحق، أو الغرض غير المشروع.
فالغرض غير المشروع يتلخص في أن صاحب الحق يكون متعسفاً في استعمال حقه، إذا كان الغرض الذي يرمي إليه غرضاً غير مشروع، والظاهر أن معيار “المصلحة غير المشروعة” خير من معيار “الغرض غير المشروع” وإذا كان كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة، فإن معيار “المصلحة غير المشروعة” هو تعبير موضوعي يغاير المعنى الذاتي، الذي ينطوي عليه معيار “الغرض غير المشروع” فهو إذن أدق من ناحية الانضباط، وأسهل من ناحية التطبيق.
أما معيار الهدف الاجتماعي فإن القانون أعطى لأصحابها حق تحقيق أهداف اجتماعية، فكل حق له هدف اجتماعي معين؛ فإذا انحرف صاحب الحق في استعمال حقه عن هذا الهدف، كان متعسفاً وحقت مسؤوليته.
وعيب هذا المعيار -معيار الهدف الاجتماعي- بالرغم من كونه موضوعياً، هو صعوبة تحديد الهدف لكل حق من الحقوق، ثم خطر هذا التحديد. أما صعوبة التحديد فلأنه ليس من اليسير أن يُرْسَمَ لكل حق هدف اجتماعي، أو اقتصادي يكون منضبطاً إلى الحد الذي يُؤْمَنُ معه التحكم، وُيَّتقَى به تشعب الآراء.
وأما خطر التحديد، فلأن الهدف الاجتماعي هو الباب الذي ينفتح على مصراعيه؛ لتدخل منه الاعتبارات السياسية، والنزعات الاجتماعية، والمذاهب المختلفة، مما يجعل استعمال الحقوق خاضعاً لوجهات من النظر متشعبة متباينة، وهذا من الخطر ما فيه. أما معيار “المصلحة غير المشروعة” فهو أبعد عن التحكم، وأدنى إلى الاعتبارات القانونية المألوفة([46]).
تعليقاً على ما تقدم أرى بأن تعبير “المصلحة غير المشروعة” نفسه يظل مع ذلك غير واضح كل الوضوح.
ومعيار المصلحة غير المشروعة، وإن كان معياراً مادياً من حيث الظاهر؛ إلا أن الدوافع، أو البواعث النفسية هي التي توجه الاستعمال إلى تحقيق تلك المصلحة، وقد قيل إن التلازم قائم بين الدافع النفسي غير المشروع، والمصلحة غير المشروعة في أكثر الأحوال؛ فكان معياراً مادياً في ظاهره، شخصياً ذاتياً في باطنه، وهو ما أشارت إليه المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري بقولها: “وإذا كان المعيار- معيار المصلحة غير المشروعة- في هذه الحالة مادياً في ظاهره، إلا أن النية قد تكون العلة الأساسية لنفي صفة المشروعية عن المصلحة”([47]). فالنية السيئة، أو نية الإضرار في حد ذاتها تجعل العمل المشروع في ذاته غير مشروع. وهذا في تقديري محل نظر ويمكن الرد على ذلك بالقول: أن لا مشروعية المصلحة قيست بميزان التعارض بين المصالح، ومعيار ذلك موضوعي، فَبُعدَ لذلك اعتبار النية عّلة لا مشروعية المصلحة، وإلا وجب إثبات هذه النية السيئة، ووقع عبء إثباتها على من وقع علية الضرر.
ولا يقتصر هذا المعيار على ما يكون تحقيقه من مصلحة مخالفاً لأحكام نصوص القانون، بل تكون المصلحة غير مشروعة، إذا ما تعارض تحقيقها مع النظام العام، أو الآداب، أو المقتضيات الاقتصادية، والاجتماعية([48]).
وقد ذهب البعض إلى انتقاد هذا التأصيل بحجة أنه يسلب المصلحة غير المشروعة الكثيرة من قيمتها وجدواها؛ لأن النظر إلى المصلحة غير المشروعة على أنها تخالف أحكام القانون، أو النظام العام، أو الآداب العامة، لا يكون قد ضيق معنى المصلحة غير المشروعة إلى حد لم يبق معه مجال لتقدير فحسب-اللهم إلا ما تعلق بتقدير النظام العام والآداب العامة- بل يكون في الواقع ومن حيث النتيجة قد سلب النظرية في معيارها المادي الكثير من قيمتها؛ لأن الخروج على أحكام القانون، أو مبادئ النظام العام، والآداب، يمكن أن يعتبر بحد ذاته سبباً مباشراً لمؤاخذة الشخص الذي يستعمل حقه لهذه الغاية.
ويمكن الرد على ذلك بالقول: إن الحكم بعدم مشروعية المصلحة وسيلة للحكم بعدم مشروعية الوسائل المفضية إليها طبق للقاعدة: (للوسائل حكم مقاصدها) لا تكون الوسائل في ذاتها غير مشروعة.
وقد نص القانون المدني المصري مثلاً في المادة (776) على أن: “على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار…”، فوضع بذلك قيداً قانونياً في عدم الغلو باستعمال الحق، الذي من شأنه أن يجعل المخالف معتدياً ومتجاوزاً حدود حقه ومن ثمَّ مسؤولاً دون حاجة إلى الرجوع إلى نظرية التعسف، ألا ترى قول المشرع: “ألا يغلو في استعمال حقه” فكيف يكون حقه وهو منفي عنه قانونا للمخالفة؟ بل الأمر أو الحكم ورد على الغلو في الاستعمال، لا على الحق، ولا على ذات الاستعمال.
ويؤيد ذلك ما ذهبت إليه بعض الشرائع من: “أن التعسف في استعمال الحق طريقة استثنائية منحها الشارع لمن يذهب ضحية استعمال حق ليست هنالك ثمة سبيل أخرى لإبطالها”([49]).
ولو سلمنا أن استعمال الحق فيما يخالف حكماً من أحكام القانون، أو النظام العام، أو الآداب لا يعد تعسفاً في الاستعمال، وإنما تجاوزاً لحدود الحق، ويكون صاحب الحق في هذه الحالة متعدياً لا متعسفاً في استعماله، للزم من ذلك القول بأن ما نص عليه المشرع في المادة (5) من القانون المدني المصري، يعد قيوداً فرضها المشرع على استعمال كل الحقوق، وإن عدم التقيد بها يُعَدّ خروجاً على حدود كل حق، وليس تعسفاً في استعماله، وبالتالي تنهار نظرية التعسف من أساسها.
أضف إلى ذلك بأن الذين قالوا بأنه تجاوز على حدود الحق، قد اختلفوا في التطبيق، فمثلاً يذهب البعض إلى أن منع المالك من الإضرار بالجوار إضراراً غير مألوف يعد كالقيد على حق الملكية، وأن مخالفته تتعد تجاوزاً لحدود الحق، لا تعسفاً في استعماله، في حين يراه آخرون تعسفاً في استعمال الحق([50]).
ويرى بعضهم أن فصل رب العمل للعامل لمجرد انتمائه إلى نقابة العمال تَعَدٍّ ومجاوزة لحدود الحق، الذي نشأ لصاحب الحق من تعاقده مع العامل، في حين أن البعض الآخر يرى أن استعمال رب العمل حقه في إنهاء عقد العمل بدافع الانتقام من العامل -وقد يكون سبب هذا الدافع إلى الانتقام من العامل انتماءه إلى نقابة عمال تسعى لحماية حقوقه- يعد تعسفاً في استعمال هذا الحق على هذا النحو، وإذا ما انتفى هذا الدافع انتفى التعسف([51]).
أضف إلى ذلك أن هناك فرقا بين التعسف وتجاوز الحق من حيث وصف الفعل، فالفعل في حالة التجاوز ممنوع لذاته وغير مشروع ابتداء، فالمتجاوز للحق يكون مخالفاً لجوهر الحق وذاته، فهو ممنوع بكل حال، أما في حالة التعسف، فالفعل مشروع بحسب أصله، فهو غير محظور ابتداء، والتصرف يكون في نطاق ذات الحق وجوهره، لكن اقترانه بوصف غير مشروع -وهو الإضرار بالغير- نقله من نطاق الإباحة إلى حيز المنع([52]).
وهناك من يأخذ على عبارة القانون المدني المصري قوله: المصالح التي “يُرْمَى” إلى تحقيقها؛ لأن كلمة “يرمى” أو “يُتَوَخَّى” تتضمن في ذاتها عنصراً نفسياً من عناصر القصد، والنية، أو الرغبة على الأقل، وكلها من العناصر التعسفية المعنوية، أو الذاتية، بحيث لو أردنا أن نتمسك بظاهر اللفظ؛ لأجزنا لمستعمل الحق أن يقيم الدليل على عدم توخيه هذه المصالح غير المشروعة، وبالتالي لعدنا عودةً غير مباشرة إلى المعيار الشخصي أو الذاتي.
ويرد على ذلك: بأن المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري عندما قالت: إن اعتبار المصالح غير مشروعة لا يقتصر على مخالفة أحكام القانون، بل يشمل كذلك مخالفة المنفعة المتوخاة للنظام العام، والآداب العامة، وحين أضافت أن النية كثيراً ما تكون دليلاً على عدم المشروعية. تكون قد ضيقت حدود النظرية أكثر مما يمكن أن يستفاد من عمومية النص وإطلاقه، كما تكون قد أرادت أَلاَّ تخرج بعيداً عن المعيار الشخصي، أو الذاتي، إلى المعيار المادي البحت([53]).
المطلب الثاني: تطبيقات استعمال الحق بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة:
الفرع الأول: في الشريعة الإسلامية:
لا خلاف بين الفقهاء في الأخذ بهذا المعيار؛ لأنه يحيل على المصالح التي بنيت عليها الشريعة، فأحكام الشريعة معللة بمصالح العباد، وإن في التعسف في استعمال الحق معارضة لتلك المصالح؛ فكان في إجازة التعسف هدم لقواعدها، وإنما الخلاف في التطبيقات، وفي الوسيلة التي يتوصل بها إلى كشف القصد، أو الباعث.
ولهذا المعيار تطبيقات على جانب كبير من الأهمية في نطاق حقوق الأسرة، كالحقوق التي تقتضيها الولاية على النفس، أو المال، والحقوق التي يقتضيها التوكيل بالزواج، ونورد بعض التطبيقات في الشريعة الإسلامية لهذا المعيار:
1. حق الولاية على النفس والمال:
شرعت الولاية على النفس والمال؛ لرعاية مصلحة المُوَلَّى عليه، وتحقيق الخير له وصلاح أمره في نفسه وماله.
ولذلك تثبت في الشريعة الإسلامية لمن كان شأنه الحرص على منفعة المولى عليه بسبب ما بينهما من قرابة ونحوها، مما يستوجب الشفقة والعطف وحسن الرعاية، فإذا استعمل الولي هذا الحق في غير ما شرع من أجله، كان متعسفاً في هذا الاستعمال، فلا يصح تصرفه، ولا يترتب عليه أي أثر.
ومن شواهد ذلك من المسائل الفقهية ما يأتي:
أ- في المذهب الحنفي: وقع الاتفاق بين أبي حنيفة وصاحبيه- رحمهم الله تعالى- على صحة هذا المبدأ، وهو أن تصرفات الولي منوطة دائماً بمصلحة المولى عليه، فيشترط لصحة تصرف الولي في مال القاصر، أو نفسه أن يكون ذلك التصرف في مصلحة القاصر، وعلى وجه النظر له . ولكن وقع الخلاف بين الإمام وصاحبيه في بعض تطبيقات هذا المبدأ.
فقد قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: “يجوز للأب، أو الجد أن ينقص من مهر الصغيرة، وأن يزيد من مهر زوجة الصغير، ولو كان النقص، أو الزيادة مما لا يتسامح الناس فيه عادة، ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد من الأولياء.
وقال الصاحبان رحمهما الله تعالى: لا يجوز الحط من مهر الصغيرة، ولا الزيادة في مهر زوجة الصغير إلا بما يتغابن الناس فيه عادة، سواء كان ذلك من الأب، أو الجد، أو غيرهما”([54]).
وتعليل ذلك عندهما: أن الولاية مقيدة بشرط النظر للقاصر، فعند فواته لا يصح العقد؛ وهذا لأن الحط عن مهر المثل، والزيادة عليه ليس من النظر كما في البيع؛ ولهذا لا يجوز لغيرهما من الأولياء. وعلل مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: بأن الحكم يدار على دليل النظر، وهو قرب القرابة، وفي النكاح مقاصد تربو على ذلك، بخلاف البيع فإن المقصود به المالية؛ فإذا فاتت فات النظر، بخلاف غيرهما من الأولياء؛ لأن دليل النظر لم يوجد فيه، وهو قرب القرابة ووفور الشفقة.
وقد وضّح ذلك الكمال بن همام رحمه الله تعالى بقوله: “ولأبي حنيفة أن النظر وعدمه في هذا العقد ليس من جهة كثرة المال وقلته، بل باعتبار أمر باطن، فالضرر كل الضرر بسوء العشرة، وإدخال كل منهما المكروه على الآخر، والنظر كل النظر في ضده في هذا العقد، وأمر المال سهل غير مقصود فيه، بل المقصود فيه ما قلناه، فإذا كان باطناً يعتبر دليله فيعلق الحكم عليه، ودليل النظر قائم هنا، وهو قرب القرابة الداعية إلى وفور الشفقة مع كمال الرأي ظاهراً، بخلاف غير الأب والجد من العصبات، والأم، لقصور الشفقة في العصبات، ونقصان الرأي في الأم، وهذا معنى قوله: والدليل عدمناه في حق غيرهما، فلا يصح عقدهم لذلك… وأما المال فهو المقصود في التصرف المالي، لا في أمر آخر باطن ليحال النظر عليه عند ظهور التقصير في المال، فلهذا لا يجوز تزويجه أَمَتها بغبن فاحش؛ لأنه إضاعة مالها، لأن المهر ملكهما، ولا مقصود آخر باطن يصرف النظر إليه، فلا يعول عليه، ويدل على ذلك تزويج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة من علي بأربعمائة درهم، ولا شك في أنه دون مهر مثلها، لأنها أشرف النساء، فيلزم ألا مهر أكثر منه، بل إلا وهو أقل منه، أو أنها دون مهر مثلها، والأول منتف، فلزم الثاني”([55]).
وهذا التوجيه من الجانبين يدل على اتفاق الإمام وصاحبيه من حيث المبدأ، فشرط صحة التصرف عندهم جميعاً هو: رعاية مصلحة الصغير، والخلاف إنما هو في تقدير تلك المصلحة.
ومما يؤيد ذلك أن أبا حنيفة وصاحبيه متفقون على أن تصرفات الولي، أو الوصي- سواء كان أباً، أو جداً، أو غيرهما- في مال القاصر يشترط في صحتها أن تكون على وجه النظر والمصلحة للقاصر، فلا يجوز للولي أو الوصي التبرع بمال القاصر، ولا الإبراء من ديونه، ولا بيع ماله بغبن لا يتسامح الناس فيه عادة.
ب- جاء في المدونة: “أرأيت إن زوج الصغيرة أبوها بأقل من مهر مثلها، أيجوز ذلك عليها في قول مالك؟ قال: سمعت مالكاً يقول: يجوز عليها نكاح الأب، فأرى إن زوجها الأب بأقل من مهر مثلها، أو بأكثر، فإن ذلك جائز، إذا كان إنما زوجها على وجه النظر لها. قال: ولقد سألت مالكاً امرأة ولها ابنة في حجرها، وقد طلق الأم زوجها عن ابن له منها، فأراد الأب أن يزوجها من ابن أخ له، فأتت الأم إلى مالك، فقالت له: إن لي ابنة وهي موسرة مرغوب فيها، وقد أصدقت صداقاً كثيراًُ، فأراد أبوها أن يزوجها ابن أخ له معدماً، لا شيء له، أفترى لي أن أتكلم؟ قال: نعم، أرى لك في ذلك متكلما. قال ابن القاسم: فأرى أن نكاح الأب إياها جائز، إلا أن يأتي من ذلك ضرر فيمنع من ذلك”([56]).
ج- وجاء في المدونة أيضاً: “قلت: أرأيت إن زوج ابنته وهي بكر، ثم حط من الصداق، أيجوز ذلك على الابنة في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يجوز للأب أن يضع من صداق ابنته البكر شيئاً إذا لم يطلقها زوجها. قال ابن القاسم: وأرى أن ينظر في ذلك، فإن كان ما صنع الأب على وجه النظر، مثل أن يكون الزوج معسراً بالمهر فيخفف عنه وينظره، فذلك جائز على البنت؛ لأنه لو طلقها، ثم وضع الأب النصف الذي وجب للابنة من الصداق، أن ذلك جائز على البنت، فأما أن يضع من غير طلاق، ولا على وجه النظر لها، فلا أرى أن يجوز ذلك له”([57]).
ومن هذه النصوص يتضح أن مالكاً – رحمه الله تعالى – جعل للأب حق تزويج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها؛ إذا كان ذلك من مصلحتها، فإذا انعدم في تصرفه وجه المصلحة، كان لمن يعنيه أمر الصغيرة أن يخاصم الأب في ذلك؛ لأنه استعمل حقه على وجه لا يحقق المصلحة فكان متعسفاً.
كذلك حكم الإمام مالك -رحمه الله تعالى- بأن ليس للأب أن يحط من مهر ابنته؛ لأن الحط من مهرها ليس فيه مصلحة لها فلا يملكه الأب، وقد أدار ابن القاسم -رحمه الله-الحكم على المصلحة، فقال: إن كان الحط في مهرها ليس فيه مصلحة لها؛ فلا يملكه الأب، وإن كان فيه مصلحة لها فإنه يجوز([58]).
ومن هذا يتضح أن الحق الممنوح للأب في أن يزوج ابنته القاصر دون رضاها، أو أن يحط من مهرها، لا يمكن أن يمارس إلا في حدود مصلحتها، لأن الحقوق التي تتضمنها الولاية على النفس إنما منحت لتحقيق هذه الغاية.
د- من المقرر عند الإمام مالك -رحمه الله تعالى- أن البكر البالغة الراشدة ليس لها أن تتزوج دون إذن وليها، فإذا تزوجت بغير إذن وليها فزواجها باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: “أيما امرأة نكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل”([59])؛ ولأن البكر لا تتوافر لها الدراية الكافية بالرجال، فلا تحسن اختيار الزوج المناسب، لكن إذا تعسف الأب في استخدام حق الرفض دون سبب معقول، كأن يتمادى في رفض خطابها من غير مبرر معقول، يكون عاضلاً لها، ولا يكون قد قصد تحقيق المصلحة، أو الغاية التي تقرر حقه في الولاية من أجلها، ويكون من حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي، فإذا رأى أن رفض الولي لا يستند إلى أساس مقبول، كان له الحق في تزويجها دون إذن وليها الخاص.
جاء في المدونة: “قلت: أرأيت البكر إذا رد الأب عنها خاطباً واحداً، أو خاطبين، وقالت الجارية في أول من خطبها للأب: زوجني، فإني أريد الرجال، وأبى الأب، أيكون الأب في أول خاطب رد عنها معضلاً لها؟ قال: أرى أنه ليس يكره الآباء على إنكاح بناتهم الأبكار، إلا أن يكون مضاراً، أو معضلاً لها، فإن عرف ذلك منه، وأرادت الجارية النكاح، فإن السلطان يقول له: إما أن تزوج، وإما زوجتها عليك. قلت: وليس في هذا عندك حد في قول مالك في رد الأب عنها الخطاب الواحد، أو الاثنين، قال: لا نعرف من قول مالك في هذا حداًّ، إلا أن تعرف ضرورته وإعضاله”([60]).
هـ- وجاء في المذهب الشافعي، ما أورده الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في الأم: “يجوز أمر الأب على البكر في النكاح حظاً لها، وغير نقص عليها، ولا يجوز إذا كان نقصاً لها، أو ضرراً عليها، كما يجوز شراؤه وبيعه عليها بلا ضرر عليها في البيع، والشراء من غير ما لا يتغابن أهل البصر فيه. ولو زوج رجل ابنته عبداً له، أو لغيره، لم يجز النكاح؛ لأن العبد غير كفء، فلم يجز، وفي ذلك عليها نقص بضرورة، ولو زوجها غير كفء لم يجز؛ لأن في ذلك عليها نقصاً، ولو زوجها كفؤاً أجذم، أو أبرص، أو مجنوناً، أو خصياً مجبوباً، أو غير مجبوب لم يجز عليها؛ لأنها لو كانت بالغاً كان لها الخيار إذا علمت هي بداء من الأدواء”([61]).
2. السلطة الزوجية: ولاية الزوج على زوجته تأديبية، فله أن يؤدبها بالضرب على كل معصية لم يرد في شأنها حد مقدر، وهذا الحق ثابت بقوله تعالى: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)[34: النساء] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”([62]).
وقد بينت الشريعة مجال استعمال هذا الحق، وهو النشوز، وهو عصيان الزوجة زوجها فيما يجب عليها، كما حددت أيضاً الوسيلة والغاية.
وبينت الآية الكريمة وسائل التأديب، وأن الزوج يتدرج في الوسيلة في تأديب زوجته لحملها على طاعته، إذ يبدأ بالوعظ والنصح، فإن لم يجد ذلك هجرها وولاها ظهره في المضجع، أو انفرد عنها بالفراش وهجرها وهو في البيت معها، من ليلة إلى ثلاث ليال، لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث”([63]). فإن لم يجد ذلك ضربها ضرباً غير مبرح، بحيث يؤلمها ولا يكسر لها عظماً، ولا يدمي لها جسماً، ولا يضرب وجهها، لقوله صلى الله عليه وسلم: “فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح”([64]).
ولا يجوز استخدام وسيلة أشد إن كان صلاح الزوجة يتحقق بوسيلة أخف، كما لا يجوز استعمال الوسيلة أيا كانت، إذا كان يغلب على الظن عدم ترتب المقصود عليها، ولو كانت ضمن الحدود الموضوعية المرسومة عليها شرعاً([65]).
والغاية من التأديب، تهذيب الزوجة وحملها على طاعة زوجها، وإصلاح نشوزها، إذ لا يحل لها النشوز عنه، ولا أن تمنع نفسها منه، وإذا امتنعت منه، وأصرت على ذلك جاز له تأديبها وحتى ضربها إن لزم.
وإذا رجعت الناشز عن نشوزها، لم يكن لزوجها ضربها ولا حتى هجرها؛ لأنه إنما أبيحا بالنشوز، فإن زايلته فقد زايلت المعنى الذي أبيح له ذلك([66]).
فولاية التأديب وضعها الشارع حقاً في يد الزوج، لتحقيق غاية معينة، وهي تهذيب الزوجة وحملها على طاعته، فيجب على الزوج أن يستعمل حقه في ذلك استعمالاً يطابق الحكمة التي من أجلها تقرر له هذا الحق، فإن ابتغى الزوج من ممارسة حقه هذا غاية غير التي شرعها الله، كان متعسفاً، وأصبح فعله تعسفياً غير مشروع، لانحرافه عن غاية الحق في التأديب، وذلك كأن يريد به الانتقام، أو مجرد الإيذاء، أو إجبار الزوجة على ارتكاب معصية، أو إكراهها على إنفاق مالها في وجه لا تراه، ففي كل ذلك يكون الزوج قد أساء استعمال حقه؛ لأنه لم يكن هدفه تهذيب زوجته وإصلاحها، وإنما اتخذ من حقه وسيلة لتحقيق غاية غير التي شرع الله الحق لأجلها، فالحق وسيلة شرعت لغاية معينة، فلا يجوز استعمالها في غير غايتها، أي لتحقيق مصلحة غير مشروعة؛ لأن ذلك يناقض قصد الشارع من تشريعه هذا الحق، ومناقضة قصد الشارع باطلة، وما يؤدي إليها باطل([67]).
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى-: “كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل”([68]).
ونظرية التعسف تقيد الفعل الذي يخوله الحق بكونه لازماً وملائماً، فهو لازم لأنه؛ لا يحق للزوج أن يلجأ في سبيل تأديب زوجته إلى وسيلة أشد، إن كان ذلك ممكناً بممارسة وسيلة أخف، وفي هذا يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى-: “ومهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال، والأقوال، والحبس، والاعتقال، لم يعدل إلى الأغلظ، إذ هو مفسدة لا فائدة فيه، لحصول الغرض بما دونه”([69]).
3. الولاية التأديبية على الصغار: للأب حق تأديب ولده، لقوله صلى الله عليه وسلم: “مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها”([70])، وفي رواية:”علموا الصبي الصلاة ابن سبع واضربوه عليها ابن عشر”([71]). أي يباح للولي الضرب لابن العشر إذ إن الصبي ينبغي أن يؤمر بجميع المأمورات، ويُنْهَى عن جميع المنهيات.
وما قلناه في السلطة الزوجية، يقال هنا، من وجوب استعمال الحق فيما شرع من أجله، وأنه إذا استعمل لتحقيق غرض غير مشروع كان تعسفياً فلا يجوز؛ لأن ذلك يناقض قصد الشارع من تشريعه لهذا الحق، ومناقضة الشرع باطلة، وما يؤدي إلى الباطل فهو باطل.
ويشترط في الفعل الذي يتخذه الولي وسيلة لتأديب الصغير الذي تحت ولايته، أن يكون لازماً، وملائماً، وأن يغلب على الظن أنه يؤدي إلى مقصوده([72]).
وفي هذا يقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: “فإن قيل: إن كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب المبرح، فهل يجوز ضربه تحصيلاً لمصلحة تأديبية؟ قلنا: لا يجوز ذلك، بل لا يجوز أن يضربه ضرباً غير مبرح؛ لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلة إلى مصلحة التأديب؛ فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد؛ لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد”([73]).
وهذا صريح في وجوب درء التعسف في كل تصرف مشروع، إذا غلب على الظن عدم تحقق الغاية، أو انتفاء الثمرة التي رتبها الشارع على شرعيته؛ إذ لا عبرة بالوسيلة، إذا انتفى المقصد أو سقط([74]).
ومجال تطبيق هذا المعيار ليس مقصوراً على ما يتعلق بحقوق الأسرة؛ بل هو كذلك يمتد إلى ما يتعلق بالحقوق المالية، وحق التقاضي، والوكالة، والنكاح، والمعاملات.
الفرع الثاني: في القانون المدني والقضاء.
ومن تطبيقات هذا المعيار في القانون المدني والقضاء ما يأتي:
1. يعد رب العمل الذي يستعمل حقه في فصل العامل متعسفاً في استعمال حقه، إذا كان الفصل بسبب مذهب العامل السياسي، أو عقيدته الدينية، أو بسبب انضمامه إلى نقابة، أو بسبب نشاطه النقابي، إذ يريد رب العمل من وراء ذلك أن يحرم عماله من حقوق مشروعة خولها لهم القانون، فرب العمل هنا قد استعمل حقه المشروع، في سبيل تحقيق مصلحة غير مشروعة، فيكون متعسفاً في استعمال حقه؛ لأنه يرمي من وراء ذلك تحقيق مصلحة غير مشروعة([75]).
2. من التطبيقات القضائية: ما ذهبت إليه محكمة النقض في مصر، من أن المراد بالحق المطلق المقرر لحكومة ما، في فصل موظفيها بلا حاجة إلى محاكمة تأديبية؛ هو تفرد الحكومة بتقدير صلاحية الموظف، واستمرار استعانتها به، أو عدم استمرارها، وليس معناه أن تستعمله على هواها، ذلك أن السلطة التقديرية وإن كانت مطلقة من حيث موضوعها، إلا أنها مقيدة من حيث غايتها التي يلزم أن تقف عند حد تجاوز هذه السلطة والتعسف في استعمالها ولئن كانت الحكومة غير ملزمة ببيان أسباب الفصل، إلا أنه متى كانت هذه الأسباب ظاهرة من القرار الصادر به، فإنها تكون أيضاً خاضعة لتقدير القضاء العالي النزيه، ولرقابته، فإذا تبين أنها لا ترجع إلى اعتبارات تقتضيها المصلحة العامة، ولا هي من الأسباب الجدية القائمة بذات الموظف المستغنى عنه، أو المنازع في صحتها، وإن من تقدير من وضع بيده الأمر أنه محايد ونزيه وغير مطعون في سلوكه ولا غل له أو كيد أو غيظ أو غرض، كان ذلك عملاً غير مشروع، وحققت مسألة الحكومة في شأنه من جميع النواحي([76]).
3. المالك الذي يضع أسلاكاً شائكة، أو أعمدة عالية في حدود ملكه، لعرقلة هبوط الطائرات، حتى يفرض على شركة الطيران التي تهبط طائرتها في أرض مجاورة، أن تشتري منه أرضه بثمن مرتفع.
فليس وضع المالك للأسلاك الشائكة، أو الأعمدة العالية في أرضه لتحقيق مصلحة مشروعة، بل لإحراج شركة الطيران، والتضييق عليها، وحملها قَسراً على شراء أرضه بمبالغ طائلة. فهذا تصرف في الحق، بدافع غير مشروع، ويستهدف تحقيق مصلحة غير مشروعة([77]).
إن صاحب الحق لا يجوز له أن يستعمله إلا في أغراضه المشروعة الجدية، أما إذا استخدمه في غير ما شرع له ليقضي لبانة سيئة بالنيل من خصمه، والتشفي منه، فإنه يمنع من ذلك، ولا يجوز للقاضي تمكينه من المضي في هذا الطريق.
نلاحظ أن القضاء هنا قد عبر عن المصلحة غير المشروعة مرة بالغرض الجدي الشريف، ومرة بالغرض الذي أُعْطِيَ الحق من أجله، ولو عبر عنه بالمصلحة غير المشروعة لكان أولى.
4. وما قضت به المحكمة الاتحادية العليا في دولة الإمارات العربية المتحدة عندما ذهبت تقول: “إن الفعل المنسوب إلى الطاعنة يشكل ضربا من ضروب التعسف في استعمال الحق؛ فلا يؤثر استعمال المدرسة، أو المديرة حقها في استيفاء المصروفات المدرسية، أن تحول دون مستقبل الطلبة؛ إذ إنها فصلت الطالبتين في وقت معاصر لأداء الامتحان بحيث لم يعد أمامهما أن يستدركا دراستهما، فاستعمال الحق الذي تدعيه الطاعنة مفوضة من المدرسة يجب أن لا يستعمل بشكل تعسفي، وأياً ما كانت نتيجة الطالبتين نجاحا، أو رسوبا، فلا يخلو استعمال هذا الحق من التعسف، وأمر النجاح والرسوب يحسب في ترتيب التعويض كأثر من آثار هذا التعسف”([78]).
5. تقضي المادة (187) مدني جزائري بأنه: “إذا تسبب الدائن بسوء نيته وهو يطالب بحقه، في إطالة أمد النزاع، فللقاضي أن يخفض مبلغ التعويض المحدد في الاتفاق، أو لا يقضي به إطلاقاً عن المدة التي طال فيها النزاع بلا مبرر”.
فالدائن الذي يبتغي من وراء التسبب في إطالة أمد النزاع إبان مطالبته بحقه لتحقيق مصلحة لنفسه، هي زيادة مبلغ التعويض، فإن هذا الدافع غير مشروع، والمصلحة التي يريد تحقيقها بهذا الدافع غير مشروعة أيضاً، إذ لا تقوم على سبب مشروع، ولهذا كان الجزاء أن يعامل بنقيض قصده، وهو تخفيض مبلغ التعويض، أو عدم الحكم به إطلاقاً، حسب الأحوال([79]).
6. إذا طلب المالك إخلاء منزله من مستأجره بحجة حاجته للسكن فيه، بعد محاولته زيادة الأجرة فوق ما يسمح به القانون، وإخفاقه في ذلك([80])، فالمالك يكون متعسفاً في استعمال حقه في طلب الإخلاء؛ لأنه يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة.
7. مؤجر العقار (الأرض) الذي يمتنع من الترخيص في الإيجار من الباطن لمشتري المصنع الذي أقيم على العقار (الأرض) بعد أن اقتضت الضرورة أن يبيع المستأجر هذا المصنع، وذلك لا توقيا لضرر، بل سعياً وراء كسب غير مشروع يجنيه من المشتري فإنه يعد متعسفا([81]).
الخاتمة
بعد أن أتيت إلى نهاية بحثي هذا، الذي مهما بذلت فيه من جهد، فلن ألمَّ بجميع جوانبه نظراً لتشعبه، ولكن يكفي أنني وقفت من خلال بحثي هذا على نتائج تتلخص فيما يأتي:
1- تتفق الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية على أن استخدام الحق لقصد الإضرار بالغير أو لتحقيق مصلحة غير مشروعة، أمر مرفوض في الشريعة الإسلامية، ومن فعله فهو آثم لورود النهي في القرآن والسنة، وأنه يتوجب الجزاء الأخروي.
2- معيار انتفاء المصلحة المشروعة تعول عليه التشريعات الوضعية، وقد سبقت الشريعة الإسلامية التشريعات الوضعية بالأخذ بهذا المعيار ومرد هذا المعيار أن الحقوق وسائل لتحقيق غايات مشروعة بحيث لا يسوغ لصاحب الحق أن يستعمله في تحقيق أغراض تتنافى مع تلك الغايات.
3- معيار انتفاء المصلحة المشروعة يشمل فضلاً عن انعدام المصلحة أو تفاهتها استعمال الحق أيضاً بقصد الإضرار بالغير، واستعمال الحق لتحقيق مصلحة غير مشروعة.
4- استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، يعد من أبرز حالات التعسف في استعمال الحق، وقد استقر هذا المعيار في الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية، والقضاء على الأخذ به.
5- يعتبر استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير معياراً ذاتياً أو شخصياً، إذ إنه يتعلق بالقصد والنية، بمعنى أنه ينظر أساساً إلى نية صاحب الحق في استعماله، فإن كان لا يقصد بهذا الاستعمال إلا أن يضر بغيره دون أن تعود عليه هو من الاستعمال أي منفعة، كان متعسفاً في هذا الاستعمال.
6- المصلحة غير المشروعة تتحقق في استعمال الحق في غير الغرض أو المصلحة التي من أَجلها شرع؛ لأنَّ قصد ذي الحق في العمل هنا مضاد لقصد الشارع في التشريع، ومعاندة قصد الشارع باطلة، فيكون باطلاً بالضرورة كل ما أدى إلى ذلك.
(*) منشور في “المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية”، المجلد الخامس، العدد (3/ب)، 1430ه/ 2009م.
الهوامش:
([1]) التعسف هو مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعا بحسب الأصل.
([2]) المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الإماراتي، رقم (5)، لسنة 1985م، المعدل بالقانون الاتحادي رقم 1 لسنة 1987م. إصدارات وزارة العدل الإماراتية.
([3]) عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف في استعمال الحق، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، العدد الأول، ص22، السنة الخامسة، جامعة عين شمس، 1963م، محمد شوقي السيد، التعسف في استعمال الحق، المؤسسة المصرية العامة للكتاب، 1979م، ص138، حسن عامر، التعسف في استعمال الحقوق وإلغاء العقود، مطبعة مصر، (ط1)، 1379ه/ 1960م، ص607، عبد الجبار ناجي، مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود، مطبعة اليرموك، (ط1)، 1394ه/1974م، ص70.
([4]) إبراهيم بن موسى اللخمي المالكي المعروف بالشاطبي، (توفي790ه)، الموافقات، دار المعرفة، بيروت لبنان، ج2، ص349.
([5]) فتحي الدريني، نظرية التعسف في استعمال الحق، مؤسسة الرسالة، بيروت، (ط4)، 1408ه/ 1988م، ص246.
([6]) أود أن أشير إلى أن ما جاء في قول مالك لا يتعلق في أوله بالتعسف وإنما بما يسمى في القانون بأحكام الاتصال أو الالتصاق، ولما قام بينهما عقد فإن العقد يحكم أيلولة هذه المنشآت (البناء والغراس) وبالتالي لا تعسف؛ لأن للمالك استرداد الأرض خالية من أي شواغر، وأما إذا أقيمت هذه المنشآت بإذن ولكن دون اتفاق على مصيرها فتحكمها المادة 1271 من القانون المدني الإماراتي، وهي صورة من صور الاتصال أو الالتصاق. ونصها: “إذا أحدث شخص منشآت بمواد من عنده على أرض غيره بإذنه فإن لم يكن بينهما اتفاق على مصير ما أحدثه فلا يجوز لصاحب الأرض أن يطلب قلع المحدثات، ويجب عليه إذا لم يطلب صاحب المحدثات إزالتها أن يؤدي إليه قيمتها قائمة”.
([7]) مالك بن أنس الأصبحي، (توفي 179ه)، المدونة الكبرى، دار الفكر بيروت، لبنان، 1398ه/1978م، ج4، ص62.
([8]) حسن عامر، التعسف في استعمال الحقوق، ص609، محمد شوقي السيد، التعسف في استعمال الحق، ص139.
([9]) فتحي الدريني، نظرية التعسف في استعمال الحق، ص326.
([10]) فتحي الدريني، نظرية التعسف في استعمال الحق، ص243، عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف في استعمال الحق، ص91، إسماعيل العمري، الحق ونظرية التعسف في استعمال الحق في الشريعة والقانون، مطبعة الزهراء الحديثة، الموصل، (ط1)، 1405ه/ 1948م، ص206، حسن عامر، التعسف في استعمال الحقوق وإلغاء العقود، ص596، حمدون نور الدين، نظرية التعسف في استعمال الحق، مجلة القضاء، وزارة العدل، المغرب، العدد 17، نوفمبر 1986م، ص147، عبدا لرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام، تنقيح: المستشار أحمد متحت المراغي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2004م، ج1، ص700، عدنان القوتلي، الوجيز في الحقوق المدنية، مطبعة الجامعة السورية، (ط3)، 1376ه/ 1957م، ص319، منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، نظرية الحق، مكتبة عبد الله وهبه، 1962م، ج2، ص293، رمضان محمد أبو السعود، المدخل إلى القانون، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، 1984م، ص435، أحمد محمد إبراهيم، القانون المدني، معلقة على نصوصه بالإعمال التحضيرية وأحكام القضاء وآراء الفقهاء، دار المعارف، (ط1)، 1964م ص7، محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزامات، دار الكتاب، 1395-1396ه، ج1، ص100، مصطفى محمد الجمال، النظرية العامة للقانون، الدار الجامعية، بيروت، ص316.
([11]) محمد الزرقاني (ت1122ه)، شرح الزرقاني على موطأ مالك، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1398ه/1978م، ج4، ص32، ونقل الزرقاني تحسين النووي للحديث قال: (قال النووي: حديث حسن وله طرق يقوي بعضها بعضا. وقال العلائي له شواهد وطرق يرتقي بمجموعها إلى درجة الصحة. وذكر أبو الفتوح الطائي في الأربعين له أن الفقه يدور على خمسة أحاديث هذا أحدها). ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن ماجة القزويني، (توفي 275ه)، سنن ابن ماجه، تحقيق وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، استانبول، ج2، ص784، أحمد بن علي العسقلاني، (توفي 852ه)، تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافع الكبير، تحقيق ونشر: عبد الله هاشم اليماني، المدينة المنورة، 1384ه، ج4، ص198.
([12]) زين الدين عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، (توفي 795ه)، جامع العلوم والحكم، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس، (ط9)، دار الملك عبد العزيز، الرياض، ج2، ص212.
([13]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص493.
([14]) عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف، ص42، إسماعيل العمري، الحق ونظرية التعسف، ص207، محمد شوقي السيد، التعسف في استعمال الحق، ص131، أحمد النجدي زهو، التعسف في استعمال الحق، دار النهضة العربية، مطبعة جامعة القاهرة، 1991م، ص48، مصطفى الجمال، النظرية العامة للقانون، ص316، منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، ج2، ص294، سمير عبد السيد تناغو، نظرية الالتزام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص399، محمود جلال حمزة، العمل غير المشروع باعتباره مصدراً للالتزام، 1405ه/1985م، ص94، محمد كمال عبد العزيز، نظرية الحق، دار الفكر العربي، ص260.
([15]) فتحي الدريني، نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي، ص320.
([16]) السنهوري، الوسيط، ج1، ص704، سليمان مرقص، شرح القانون المدني في الالتزامات، المطبعة العالمية، القاهرة، 1964م، ج2، ص354، محمود حمزة، العمل غير المشروع، ص94، سمير تناغو، نظرية الالتزام، ص300، هاشم القاسم، المدخل إلى علم الحقوق، مطبعة الإنشاء، دمشق، 1384ه/ 1965م، ص274، أنور العمروس، التعليق على نصوص القانون المدني، ص34.
([17]) عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف، ص92،42.
([18]) فتحي الدريني، نظرية التعسف، ص246، منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، ج2، ص294، عيسوي، نظرية التعسف، ص93،42، إسماعيل العمري، الحق ونظرية التعسف، ص206، السنهوري، الوسيط، ج1، ص704، وقد سبق انتقادنا لهذا الرأي في ص8.
([19]) فتحي الدريني، نظرية التعسف، ص320، إسماعيل العمري، الحق ونظرية التعسف، ص207، السنهوري، الوسيط، ج1، ص704، عبدالجبار صالح، مبدأ حسن النية، ص66، محمود حمزة، العمل غير المشروع، ص94، حسن علي الذنون، النظرية العامة للالتزامات، مصادر الالتزام، 1976م، ص266، أنور العمروس، التعليق على نصوص القانون المدني المعدل، (ط1)، ص34.
([20]) السنهوري، الوسيط، ج1، ص706.
([21]) منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، ج2، ص294.
([22]) أود الإشارة إلى أن إيجاب الضمان على المباشر لا -شرط- له، ولكن إيجاب الضمان في الأمثلة أعلاه وردت على المتسبب، والمتسبب يضمن في حالتين: إذا ترتب على فعله ضرر لحق بالغير بسبب تعمد أو تعدٍّ، وقد عبر عن حالة التعمد بقوله (قاصدا)، وأما التعدي فمثله استعماله حقه في إحراق زرعه في ظروف يتعدى فيها هذا الحريق إلى أرض الغير كأن تكون أرض الغير ملاصقة، أو إحراق أرضه في وقت ريح كافية لنقل الحريق إلى أرض قريبة غير ملاصقة.
([23]) الكدس: العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك. انظر لسان العرب مادة (كدس). ومعناه الطعام الموضوع بعضه فوق بعض.
([24]) أبو محمد بن غانم بن محمد البغدادي (ت بعد 1027هـ)، مجمع الضمانات، تحقيق: محمد أحمد سراج وعلي جمعة محمد، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، (ط1)، 1420ه/ 1999م، ج1، ص372.
([25]) الزرقاني: شرح الموقع، ج4، ص32، بلفظ: “ملعون من ضار أخاه المسلم أو ما كره”. ونقل الزرقاني أن ابن عبد البر رواه مرفوعا عن الصديق وضعف إسناده، وأخرجه الترمذي بلفظ (ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به)، ورفعه أيضا إلى أبي بكر الصديق وقال: هذا حديث غريب، انظر الترمذي، الجامع الصحيح، تحقيق: كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408ه/ 1987م، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الخيانة والغش، حديث رقم (1941)، ج4، ص332.
([26]) وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة يأمره أن يمنع المسلمين من ظلم أحد من أهل الذمة. أبو يوسف، الخراج (56).
([27]) برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن فرحون، (توفي 799ه)، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ج2، ص362.
([28]) المصدر السابق، ج2، ص346.
([29]) أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، (توفي 543ه)، أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الفكر، بيروت، لبنان، ج1، ص200.
([30]) تفسير مجاهد، ج1، ص191، محمد علي الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير، دار القرآن الكريم، بيروت، (ط5)، 1400ه، ج1، ص212.
([31]) ابن العربي، أحكام القرآن، ج1، ص204، ابن رجب، جامع العلوم والحكم، ج2، ص215.
([32]) فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، (توفي 742ه)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، المطبعة الأميرية، بولاق، 1315ه، ج4، ص255.
([33]) ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص152-153.
([34]) أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي ابن قيم الجوزية، (توفي 751ه)، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص101، ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص152.
([35]) سبق تخريجه (هامش 11)
([36]) ابن قدامه المقدسي، (توفي 620ه) المغني على مختصر الخرقي، مكتبة الرياض الحديثة، ج4، ص572، ابن قدامه المقدسي، الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، (ط2)، 1399ه/ 1979م، ج2، ص217.
([37]) حسن عامر، المسئولية المدنية التقصيرية والعقدية، مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية، (ط1)، 1376ه/ 1956م، ص267.
([38]) المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الإماراتي، ص828.
([39]) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الإماراتي، ص828-829.
([40]) فتحي الدريني، نظرية التعسف في استعمال الحق، ص252، عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي، ص99، محمد سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، ج1، ص102.
([41]) محمد أبو زهرة، التعسف في استعمال الحق، بحث مقدم لمهرجان الإمام ابن تيمية، دمشق، 16-21 من شوال 1380ه، ص97.
([42]) العينة: بيع السلعة بثمن مؤجل، ثم شراؤها بأنقص منه حالّا. نور الدين، أبو الحسن علي بن سلطان القاري الهروي (ت 1014ه) تحقيق: محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، دار الأرقم، بيروت، 1418ه، ج2، ص340.
([43]) معوض عبد التواب، مدونة القانون المدني، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1987م، ج1، ص26، أنور طلبة، التعليق على نصوص القانون المدني، دار المطبوعات الجامعية، (ط2)، 1983م، ج1، ص14، أنور العمروس، التعليق على نصوص القانون المدني المعدل، ص29.
([44]) المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الإماراتي. ص81
([45]) عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف، ص44، حسن عامر، التعسف في استعمال الحقوق، ص607، محمود حمزة، العمل غير المشروع، ص95، سليمان مرقص، شرح القانون المدني، ج2، ص356.
([46]) السنهوري، الوسيط، ج1، ص847، إسماعيل العمري، الحق ونظرية التعسف، ص210-211، هاشم القاسم، المدخل إلى علم الحقوق، ص276، محمد شوقي السيد، التعسف في استعمال الحق، ص276.
([47]) القانون المدني، مجموعة الأعمال التحضيرية، ج1، ص209-210، معوض عبد التواب، مدونة القانون المدني، ج1، ص27، أنور طلبة، التعليق على نصوص القانون المدني، ج1، ص15، أحمد محمد إبراهيم، القانون المدني، ص8.
([48]) ملاحق لكتاب نظرية التعسف للأستاذ فتحي الدريني، ملزمة، ج4، ص31، أحمد محمد إبراهيم، القانون المدني، ص8، حسن عامر، المسؤولية المدنية، ص272، مختار القاضي، أصول الالتزامات في القانون المدني، دار النهضة العربية، 1967م، ص130، إبراهيم أبو الليل، ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون، ونظرية الحق، 1406ه/ 1986م، ص196.
([49]) محمد أبو زهرة، التعسف في استعمال الحق، ص97، هاشم القاسم، المدخل إلى علم الحقوق، ص276، حسن عامر، المسؤولية المدنية، ص272، عدنان القوتلي، الوجيز في الحقوق المدنية، ص336.
([50]) عدنان القوتلي، الوجيز في الحقوق المدنية، ص338، محمد علي حنبولة، الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة، مطبعة نهضة مصر، 1960م، ص650.
([51]) أحمد سلامة، محاضرات في المدخل للعلوم القانونية، المطبعة العالمية، القاهرة، 1960م، ص148، حبيب الخليلي، مسؤولية الممتنع المدنية والجنائية في المجتمع الاشتراكي، المطبعة العالمية، القاهرة، 1967م، ص147.
([52]) فتحي الدريني، نظرية التعسف، ص49-51، عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف، ص29.
([53]) عدنان القوتلي، الوجيز في الحقوق المدنية، ص337.
([54]) برهان الدين أبو الحسين علي بن أبي بكر المرغيناني، (توفي593ه)، الهداية شرح بداية المبتدئ، المكتبة الإسلامية، ج1، ص202، فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام، (توفي681)، دار الفكر، بيروت، لبنان، ج3، ص303، الزيلعي، تبيين الحقائق، ج2، ص131.
([55]) ابن الهمام، فتح القدير، ج3، ص304.
([56]) الإمام مالك، المدونة الكبرى، ج4، ص5.
([57]) المصدر السابق، ج4، ص9.
([58]) انظر: عيسوي أحمد عيسوي، نظرية التعسف في استعمال الحق، ص100.
([59]) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، (توفي 275ه)، سنن أبي داود، مراجعة وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الرياض الحديثة، كتاب النكاح، باب في الولي، حديث رقم (2083)، ج2، ص229، ابن ماجة، كتاب النكاح، حديث رقم (1879)، ج1، ص506، العسقلاني، تلخيص الحبير، ج3، ص156، إرواء الغليل، ج6، ص243.
([60]) الإمام مالك، المدونة الكبرى، ج4، ص12.
([61]) محمد بن إدريس الشافعي، (توفي 204ه)، الأم، دار المعرفة، بيروت، لبنان، (ط2)، 1393ه، ج5، ص20.
([62]) وهو جزء من حديث جابر في حجة الوداع أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1218)، ج2، ص886، كما أخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، (توفي 279ه)، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، (ط2)، 1388ه/ 1968م، ج3، ص458، حديث رقم: 1163، ابن ماجه، ج1، ص594، حديث رقم: 1815.
([63]) البخاري: كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، حديث رقم (60 و65)، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، حديث رقم (2559)، العسقلاني: تلخيص الحبير، ج4، ص171، حديث رقم: 2054.
([64]) سبق تخريجه هامش (61).
([65]) منصور بن يونس البهوتي، (توفي 1051ه)، كشاف القناع على متن الإقناع، دار الفكر، بيروت، 1402ه/ 1982م، ج5، ص210، محمد بن أحمد الشر بيني، (توفي 977ه)، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1377ه/1958م، ج3، ص260.
([66]) الشافعي، الأم، ج5، ص12، محي الدين يحيي بن شرف النووي، (توفي 676ه)، المجموع شرح مهذب الشيرازي، والتكملة للشيخ محمد بخيت المطيعي، مطبعة الإمام، مصر، ج15، ص603.
([67]) فتحي الدريني، نظرية التعسف في استعمال الحق، ص255.
([68]) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، (توفي 660ه)، قواعد الأحكام الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق: نزيه كمال حماد وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق، (ط1)، 1421ه/2000م، ج2، ص249.
([69]) المصدر السابق، ج2، ص157.
([70]) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب: متى يؤمر الصبي بالصلاة، حديث رقم: 495، ج1، ص133، العسقلاني، تلخيص الحبير، ج1، ص184، حديث رقم: 264.
([71]) المصادر السابقة.
([72]) فتحي الدريني، نظرية التعسف، ص257.
([73]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام، ج1، ص161.
([74]) فتحي الدريني، نظرية التعسف، ص257.
([75]) عبد الجبار ناجي، مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود، ص70، منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، ج2، ص297، هاشم القاسم، المدخل إلى علم الحقوق، ص276.
([76]) أشار إليه أنور طلبة، التعليق على نصوص القانون المدني، ج1، ص17، إسماعيل العمري، الحق ونظرية التعسف، ص209.
([77]) هاشم القاسم، المدخل إلى علم الحقوق، ص276، السنهوري، الوسيط، ج1، ص846، سمير تناغو، نظرية الالتزام، ص300، منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، ج2، ص297، محمود حمزة، العمل غير المشروع، ص95.
([78]) الطعنان (139-141) لسنة 15القضائية بتأريخ 27/ 3/ 1994م، مجموعة الأحكام الصادرة من دوائر، المواد المدنية، والتجارية، والشرعية، والأحوال الشخصية، مطبوعات وزارة العدل بالتعاون مع جامعة الإمارات العربية المتحدة، ع1، س16، 1994م، المبدأ رقم (192)، ص474 وما بعدها.
([79]) حسن عامر، المسؤولية المدنية، ص276.
([80]) منصور مصطفى منصور، مذكرات في المدخل للعلوم القانونية، ج2، ص296، إبراهيم أبو الليل، المدخل إلى نظرية القانون، ص196، رمضان أبو السعود، المدخل إلى القانون (436).
([81]) السنهوري، الوسيط، ج1، ص846، مصطفى الجمال، النظرية العامة للقانون، ص318.
1 person likes this.
بحث عن حكم عدم إنقاذ المصاب في حوادث السير في الفقه و القانون .
الدكتور عماد الزيادات / كلية الشريعة – الجامعة الأردنية
ملخص
يدور هذا البحث حول موضوع ترك إنقاذ المصاب في حوادث السير، ولهذه المسألة حالتان؛ الأولى: إذا كان تارك الإنقاذ غير متسبب بالحادث. الثانية: إذا كان تارك الإنقاذ متسبباً بالحادث، ولما لم يوجد نص شرعي في المسألة ولم يتطرق إليها الفقهاء المتقدمون عمد الباحث إلى التخريج على الفروع الفقهية الأقرب إلى المسألة مبيناً وجه الشبه ووجه الاختلاف بين المسألة المخرج عليها ومسألة البحث.
وقد توصل الباحث إلى وجوب الفصل بين جريمة الحادث وجريمة الامتناع عن ترك إنقاذ المصاب، فالأولى يكون الحكم فيها بناء على التكييف الفقهي لكل حادثة وتطبيق المبادئ العامة في الجنايات على الحادثة. أما الثانية فهي جريمة مستقلة يكون الحكم فيها عقوبة تعزيرية يترك لولي الأمر أو القاضي تقديرها حسب المصلحة وظروف الامتناع، إلا أنه يجب التشديد في العقوبة إذا كان الممتنع متسبباً بالحادث. وقد نص قانون السير الأردني رقم (49) لسنة (2008) على عقوبة الامتناع عن الإنقاذ في الفقرة (أ) من المادة (26) بشكل غير مباشر حيث رتب عقوبة على فرار السائق، ويلزم من فرار السائق ترك الإنقاذ، أما قانونا العقوبات المصري واللبناني كانا أوضح في دلالة النص القانوني على ترك الإنقاذ فكان تعبير قانون العقوبات المصري (النكول عن مساعدة من وقع عليه الحادث، أو طلب المساعدة له)، وعبر قانون العقوبات اللبناني بـ(عدم العناية بالمجني عليه)، وجعل كل من القانونين ترك الإنقاذ من الظروف المشددة في العقوبة، إلا أن القوانين الوضعية لم تفرق بين ترك الإنقاذ الذي تترتب عليه النتيجة، وترك الإنقاذ الذي لا بكون له أثر. والله ولي التوفيق.
مقدمة
نتيجة للتطور الحضاري الهائل الذي شهدته المدنية الحديثة انتشرت وسائل النقل انتشاراً واسعاً لا نظير له في الحضارات السابقة وتطورت بشكل مذهل، وكان لهذا التطور والانتشار الأثر الإيجابي الذي لا يخفى، إلا أنه يحتف بالكثير من المخاطر التي باتت تودي بحياة الناس، فرادى وجماعات، حتى أنه لا يمر يوم إلا وكان هناك حادث مؤسف أودى بحياة هذا أو ذاك، وإذا كانت هذه الضريبة لتطور وسائل النقل أمراً محتوماً، إلا أن ما يترك غصة في النفس قلة الوازع الديني عند بعض الناس حين يتسببون بحوادث سير ويتركون أنفساً بريئة من ورائهم تنزف حتى الموت، وكأنهم لم يسمعوا بقوله تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)[32: المائدة] أو حتى المارة الذين يشهدون بعض حوادث السير، أو يجدون نفساً ملقاة على قارعة الطريق لا حول لها ولا قوة مستنجدة صارخة بحاجة إلى الإنقاذ فيتركونها تجنباً للمساءلة القانونية، أو أن وقتهم لا يسمح بذلك.
لذا جاء هذا البحث ليتناول جوانب هذه المسألة من جوانبها المختلفة الشرعية والقانونية، مبيناً الحكم الشرعي لها وما يتبع ذلك من مسؤولية شرعية وقانونية تجاه الجاني.
وعند الحديث عن ترك المصاب في حوادث السير لا بد من التفرقة بين حالتين:
الحالة الأولى: أن لا يكون تارك الإنقاذ طرفاً بحادث السير، ومن صور هذه الحالة أن يجد شخص ما مصاباً في حادث سير على الطريق بحاجة إلى الإنقاذ مع القدرة على إنقاذه فيتركه.
الحالة الثانية: أن يكون تارك الإنقاذ طرفاً في الحادث، وتتمثل هذه الحالة بصورتين:
الصورة الأولى: أن يكون الحادث بين مركبتين، فيصاب من في إحداهما ويلوذ من في المركبة الأخرى بالفرار.
الصورة الثانية: أن يدهس سائق المركبة أحد المشاة ثم يلوذ بالفرار، وهذه الصورة من أكثر صور ترك إنقاذ المصاب انتشاراً.
وفيما يلي بيان لحكم كلا الحالتين في المبحثين التاليين:
المبحث الأول: حكم ترك إنقاذ المصاب في حادث السير إذا كان التارك غير متسبب بالحادث.
المبحث الثاني: حكم ترك إنقاذ المصاب في حادث السير إذا كان التارك متسببا بالحادث.
المبحث الأول حكم ترك إنقاذ المصاب في حادث السير إذا كان التارك غير متسبب بالحادث
في بعض حوادث السير يترك المتسبب بالحادث المصاب دون إنقاذ أو تبليغ للجهات المختصة عنه من أجل إنقاذه، فيعثر عليه بعض المارة، وتجنباً للمساءلة القانونية أحياناً ولضعف الوازع الديني أحياناً أخرى يتركون إنقاذه مما يتسبب ذلك بوفاة المصاب أو لحوق الأذى الجسدي به، ومن المعلوم عظم حرمة النفس الإنسانية ومدى اعتناء الشرع بالحفاظ عليه، حتى صور القرآن الكريم أن إحياء هذه النفس بمنزلة إحياء الناس جميعاً، قال تعالى:(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[32: المائدة]، وقد أورد ابن كثير في أوجه تفسير هذه الآية أن المقصود بالإحياء الإنجاء من غرق أو حرق أو هلكة([1])، وجاء في الجامع لأحكام القرآن: “فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى”([2])، فيدخل في ذلك إنقاذ المصاب في حوادث السير، لأنه إنقاذ من هلكة الموت.
وقد ذهب الفقهاء إلى وجوب إنقاذ الإنسان من الهلاك، فقد جاء في تحفة الملوك: “المضطر للطعام ومن اشتد جوعه، وعجز عن كسب قوته، يجب على كل من علم بحاله إطعامه”([3])، وجاء في حاشية الدسوقي: “واعلم أنه يجب تخليص الْمُسْتَهْلَكِ من نفس أو مال لمن قدر عليه ولو بدفع مال”([4])، وفي روضة الطالبين: “وإن لم يكن المالك مضطراً، لزمه إطعام المضطر؛ مسلما كان أو ذميا، أو مستأمنا، وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال، على الأصح”([5])، وفي المبدع: “وإن لم يكن صاحب الطعام مضطراً إليه، لزمه بذله، لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم، فلزمه بذله”([6])، فهذه الجملة من النصوص تدل على وجوب إغاثة المضطر وإنقاذه من كل مهلك من غرق أو حريق أو نحو ذلك([7])، ويدخل في ذلك وجوب إنقاذ المصاب في حوادث السير وإن لم يكن من وجب عليه الإنقاذ متسبباً بالحادث.
فإذا كان إنقاذ المصاب واجباً شرعياً، فإن تركه يستوجب الإثم والعقوبة الآخروية، أما الحكم القضائي فقد اختلف فيه الفقهاء([8]) على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب الحنفية([9]) والشافعية([10]) إلى القول بعدم وجوب الضمان على تارك إنقاذ المضطر إذا أدى ترك الإنقاذ إلى موته، وعليه لا يضمن من ترك إنقاذ المصاب في حادث السير إذا كان التارك لم يتسبب بالحادث.
القول الثاني: ذهب المالكية([11]) والظاهرية([12]) إلى القول بوجوب الضمان على من ترك إغاثة المضطر مما يلزم عنه وجوب الضمان على من ترك المصاب في حادث السير وإن لم يكن متسبباً بالحادث.
ثم إن المالكية ذهبوا إلى أن الضمان يكون بالقصاص إذا تبين أن الممتنع قصد بامتناعه قتل من كان بحاجة إلى عونه وهذا محل اتفاق عندهم([13]). أما إذا لم يقصد قتله بالامتناع. فقد اختلفوا في نوع الضمان، فذهب بعضهم إلى أن الضمان يكون قصاصاً([14])، وذهب آخرون إلى أن الضمان يكون بإيجاب الدية([15]).
ومما قال به المالكية في هذه المسألة أيضاً بأن الممتنع إذا كان متأولاً بامتناعه لزمته الدية، أما إذا لم يكن متأولاً فيجب عليه القصاص([16]).
أما عند الظاهرية فقد فصل ابن حزم المسألة على النحو التالي:” أَن الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء له ألبتة إلا عندهم، ولا يمكنه إدراكه أصلاً، حتى يموت، فهم قتلوه عمداً، وعليهم القود، بأن يمنعوه -أي- يمنعوا الماء حتى يموتوا كثروا أو قلوا، ولا يدخل في ذلك من لم يعلم بأمره، ولا من لم يمكنه أن يسقيه.
فإن كانوا لا يعلمون ذلك ويقدرون أنه سيدرك الماء فهم قتلة خطأ، وعليهم الكفارة، وعلى عواقلهم الدية”([17]).
وبناء على ما ذهب إليه ابن حزم فإن من ترك إنقاذ المصاب في حوادث السير ينظر في حاله، فإن كان يعلم أنه لا منقذ لهذا المصاب إلا هو، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم ينقذه يموت يكون تركه للإنقاذ هنا من قبيل القتل العمد المستوجب للقصاص، ولا يدخل في ذلك من لم يمكنه الإنقاذ، أما إذا كان من ترك الإنقاذ يقدر بأن المصاب سيجد من ينقذه إلا أنه مات قبل أن يتيسر ذلك، فيكون الترك هنا بمنزلة القتل الخطأ، فيجب على تارك الإنقاذ الكفارة، وعلى عاقلته الدية.
القول الثالث: ذهب الحنابلة إلى القول بوجوب الضمان إذا طلب المضطر المساعدة والعون، وإلا لم يجب الضمان على تارك الإغاثة([18]).
الأول: وجوب الدية في مال تارك الإغاثة وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، لأن تارك الإغاثة تعمد الفعل الذي يقتل مثله غالباً([19]).
الثاني: وجوب الدية في مال العاقلة، وهو قول القاضي، لأنه قتل لا يوجب القصاص فيكون شبه عمد([20]).
وعلى هذه المسألة خرج أبو الخطاب كل ترك إنقاذ فيه فوات للنفس([21])، لاشتراكهما في القدرة على سلامته، وخلاصه من الموت([22])، فقد جاء في المغني: “وكذلك كل من رأى إنسانا في مهلكة، فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك، لم يلزمه ضمانه، وقد أساء. وقال أبو الخطاب: قياس المسألة الأولى وجوب ضمانه، لأنه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه، فيضمنه كما لو منعه الطعام والشراب”([23]).
وخالف في ذلك بعض الحنابلة، وأجابوا عن تخريج أبي الخطاب بأنه في مسألة “منع الطعام” منعه منعاً كان سبباً في هلاكه، فيضمنه بفعله الذي تعدى به، أما ترك الإنقاذ بشكل عام كأن يهلك في الماء، أو النار وما شابه ذلك فإن الممتنع عن الإنقاذ لم يكن منه شيء ينسب إليه الهلاك، وصار كمن لم يعلم([24]). وعليه يكون ترك الإنقاذ في حوادث السير مستوجباً للضمان عند أبي الخطاب بخلاف من خالفه من الحنابلة.
والحق أن يتساوى كل ترك إنقاذ أدى إلى فوات نفس، لأن كل تارك له لم يصدر منه فعل حقيقي، وإنما في كل الحالات وجد شخص بحاجة إلى الإنقاذ امتنع عنه القادر عليه مما أدى إلى فوات نفس، فكان الموقف واحداً والنتيجة واحدة، فيستوي الحكم، وإذا قلنا بصحة التخريج في هذه المسألة فإنه يلزم عنه وجوب الضمان على تارك الإنقاذ في حوادث السير عند الحنابلة.
الأدلة ومناقشتها:
أدلة الفريق الأول (القائلون بوجوب الضمان على تارك الإنقاذ):
1- قوله تعالى:(فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[194: البقرة].
وجه الدلالة من الآية الكريمة([25]): أن من كان قادراً على إنقاذ مسلم، فتعمد أن لا يفعل إلى أن مات فأنه يكون قد اعتدى عليه، وإذا اعتدى فالواجب بنص القرآن أن يرد الاعتداء بمثله، ولما أدى الاعتداء هنا إلى موت المعتدى عليه، فيكون الواجب القصاص من المعتدي، ليتحقق رد الاعتداء بمثله، ويقول ابن حزم في ذلك: “وبيقين يدري كل مسلم في العالم أن من استقاه مسلم، وهو قادر على أن يسقيه، فتعمد أن لا يسقيه إلى أن مات عطشاً، فإنه قد اعتدى عليه بلا خلاف من أحد من الأمة، وإذا اعتدى فواجب بنص القرآن أَن يعتدى على المعتدي بمثل ما اعتدى به، فصح قولنا بيقين لا إشكال فيه”([26]).
ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الإنسان حتى يوصف بالاعتداء لا بد أن يكون قد صدر منه تصرف إيجابي سواء أكان هذا التصرف فعلاً أم قولاً، ولا يوصف بالاعتداء لمجرد امتناعه، لأن الاعتداء هو وصف للأفعال والأقوال، والممتنع ليس بفاعل حتى يوصف بأنه معتدي([27]).
2- ما روي عن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له. قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل”([28]).
وجه الاستدلال من الحديث الشريف: أن الشريعة الإسلامية أوجبت التعاون بين المسلمين، وبالتالي يجب على المسلم أن يفعل كل ما فيه إنقاذ للنفس البشرية أو دفع الأذى عنها، فمن رأى إنساناً متعرضاً للأذى فعليه أن يعمل كل ما في طاقته لمنع الأذى عنه([29])، ويدخل في ذلك دفع الأذى عن المصاب في حادث السير بإنقاذه.
يجاب عن هذا الاستدلال: بالتسليم بوجوب التعاون بين المسلمين لقوله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[2: المائدة]، إلا أنه لا يسلم لهم بأن ترك التعاون يلزم عنه العقوبة القضائية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب التعاون على البر والتقوى، ومع ذلك لا يعاقب تاركه بعقوبة قضائية، وإن كان آثماً، وكذلك الصدقات المندوبة فإنها من باب التعاون، ولا يعاقب تاركها بعقوبة قضائية.
3- ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله”([30]).
وجه الاستدلال من الحديث: بين الحديث أن الإنسان يعاقب على القتل وإن لم يباشره، بل يكفي أن يقوم بدور بسيط جداً قد عُبر عنه الحديث ب (شطر كلمة)، والتعبير بشطر الكلمة ليس مقصوداً بذاته بل المقصود أن الإنسان يكون آيساً من رحمة الله تعالى وإن كان إسهامه في جريمة القتل بسيطاً جداً لدرجة أنه يكاد أن لا يذكر، فإذا كان هذا حال من أعان بشطر كلمة، فما بالك بمن ترك إنقاذ المصاب مع القدرة على الإنقاذ.
ويجاب عن هذا الحديث من وجهين:
الأول: القول بتضعيف الحديث، فقد قال ابن حجر فيه: “ابن ماجة من حديث الزهري عن سعيد بن المسيبِ عن أبي هريرة ورواه البيهقي وفي إسناده يزيد بن زياد وهو ضعيف وقد روي عن الزهري معضلا أخرجه البيهقي من طريق فرج بن فضالة عن الضحاك عن الزهري يرفعه وفرج مضعف وبالغ بن الجوزِي فذكره في الموضوعات لكنه تبع في ذلك أبا حاتم فإنه قال في العلل إنه باطل موضوع”([31]).
الثاني: وعلى فرض القول بصحة الحديث فإنه لا يصلح للاستدلال به على المسألة؛ لأن الحديث بين أن الوعيد الشديد لمن أعان ولو بشطر كلمة، والإعانة بشطر الكلمة هو فعل إيجابي والفعل الإيجابي إذا أدى إلى الجريمة أو أسهم في حصولها لا خلاف في إيجابه للعقوبة، والممتنع لم يصدر منه فعل أو قول ليوصف بأنه أعان على الجريمة، فلا ينسحب حكم الحديث عليه.
4- ما روي أن رجلاً أتى أهل ماء فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشا فأغرمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدية”([32]).
وجه الدلالة من الأثر: يدل الأثر صراحة على وجوب الضمان على الممتنع عن إنقاذ العطشان، فيقاس ترك الإنقاذ في حوادث السير على ترك الإسقاء لأن الامتناع في كلا الحالين يؤدي إلى الموت.
ويجاب عن هذا الأثر بما يأتي: أن الأثر قول أو فعل لصحابي، وحجية قول الصحابي محل خلاف بين الفقهاء([33])، وليس في فعل عمر رضي الله عنه ما يدل على أنه محل وفاق بين الصحابة، كما أنه ليس أمراً توقيفياً ليقال أن عمر رضي الله عنه لم يقل به باجتهاده.
أدلة الفريق الثاني (القائلون بعدم وجوب الضمان على تارك الإنقاذ):
استدل الشافعية – وهم الذين نصوا على نفي الضمان عن تارك الإنقاذ صراحة – بأن تارك الإنقاذ لم يكن منه ما يوجب الضمان([34]).
فالشافعية وإن كانت النتيجة عندهم واحدة وهي إزهاق الروح، إلا أنهم يفرقون في السبب المؤدي إلى هذه النتيجة، فلكي يكون القتل مستوجباً العقاب فلا بد أن يكون بفعل إيجابي، أما مجرد اتخاذ الموقف السلبي فلا يجعل من تارك الإنقاذ متسبباً بالجناية، وبالتالي لا ينسب القتل إليه، ومما يؤكد هذا ما جاء في العزيز: “وإن منع منه الطعام، فمات جوعاً، فلا ضمان عليه، لأنه لم يحدث منه فعل مهلك”([35])، فعلق الشافعية نسبة القتل إلى القاتل على ذات الفعل، فلما لم يكن من تارك الإنقاذ فعل إيجابي لم تنسب الجريمة إليه، وبالتالي لا عقاب عليه، وهذا إن كان قاصداً لهذا الترك، فقد جاء في الحاوي الكبير ما نصه: “فمالك الطعام عاص بالمنع، ومعصيته إن أفضت إلى تلف المضطر، لكن لا يضمنه بقود ولا دية”([36])، ولا يكون عاصياً إلا إذا كان قاصداً.
وهذا الاستدلال من الشافعية يلتقي مع منهج الحنفية في جرائم الامتناع، إذ ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّ مجرد الترك لا يعد سبباً موجباً للضمان، ويظهر هذا في مسألة الحبس ومنع الطعام([37])، حيث أسقط الإمام القصاص والدية عن الجاني رغم وجود فعل إيجابي منه وهو الحبس، ونسب الموت إلى الجوع والعطش، ونفاه عن الجاني، ولم يرتب عليه ضمان تلف النفس، فإذا كان الأمر كذلك عند الإمام أبي حنيفة مع وجود الفعل الإيجابي فهو من باب أولى عند عدمه، فيلتقي كل من الحنفية والشافعية في أن سقوط الضمان عن تارك الإنقاذ هو عدم وجود فعل إيجابي من الجاني يمكن نسبة الموت أو الأذى إليه.
ويجاب عن هذا الاستدلال: بعدم التسليم بأن تارك الإنقاذ لم يكن منه ما أدى إلى وقوع الجريمة؛ لأن النتيجة الجرمية في جرائم الامتناع ارتبطت بترك الإنقاذ، فإذا ترك الشخص إنقاذ المصاب أدى ذلك إلى فوات نفسه، وإذا أنقذه أبقى على حياته، فالإبقاء على النفس متوقف هنا على الإنقاذ، فيكون ترك الإنقاذ سبباً للموت أو حصول الأذى الجسدي، ومن ثمَّ يكون من باب القتل بالتسبب.
ويجاب عن هذا الاستدلال كذلك بعدم التسليم بربط الجريمة بالفعل الإيجابي فقط، لأن المهم في الجريمة تحقق الركن المادي سواء تحقق بفعل إيجابي أو باتخاذ موقف سلبي، فإن تحقق الركن المادي وكان الجاني مسؤولاً وجبت العقوبة([38]).
ومن الممكن الرد على هذه المناقشة: بأننا لو سلمنا جدلاً بأن ترك الإنقاذ سبب لحصول الموت أو الأذى الجسدي، إلا أنه لا يستوجب عقوبة القتل (القصاص، أو الدية) لعدم التعدي، فتارك الإنقاذ غير متعد([39]).
ويجاب عن هذا الرد([40]): بأن الاعتداء يتحقق بالامتناع كما يتحقق بالفعل، وهذا ما قرره الحنفية والشافعية حين أجازوا مقاتلة مانع الطعام عن المضطر([41])، فلو لم يكن متعدياً لما أجازوا مقاتلته.
أدلة الفريق الثالث (القائلون بترتيب الضمان على التارك إذا طلب المضطر المساعدة):
فرق الحنابلة بين طلب المضطر للطعام والماء، فرتبوا الضمان في هذه الحالة، وبين عدم الطلب فلم يرتبوا الضمان([42])، ومستندهم في ذلك: أن الضمان منوط هنا بالمنع، ولا يوصف الإنسان بالامتناع إلا إذا طلب منه أن يفعل فأبى، أما إذا لم يطلب منه، فلا يكون ممتنعاً([43])، وإذا لم يكن ممتنعاً لم يكن متسبباً في هلاك المضطر([44]).
ويستند من فرق من الحنابلة بين مسألة منع الطعام والماء وغيرها من مسائل ترك الإنقاذ فلا يوجبون الضمان على من ترك الإنقاذ في غير مسألة منع الطعام والماء إلى أن من منع الطعام منعه منعاً كان سبباً في الهلاك، فيضمنه بفعله الذي تعدى به، أما ترك الإنقاذ بشكل عام كأن يهلك في الماء، أو النار وما شابه ذلك فإن الممتنع عن الإنقاذ لم يكن منه شيء ينسب إليه الهلاك، وصار كمن لم يعلم([45]).
فيتبين مما سبق أن الحنابلة يلتقون مع الحنفية والشافعية في هذا التعليل، فيجاب عليهم بما أُجيب به عن دليل الحنفية والشافعية.
الرأي الراجح:
تبين عند عرض الأدلة ومناقشتها أن الفريق القائل بوجوب الضمان هو فقط الذي استدل بأدلة نقلية، وهي من القرآن الكريم والسنة النبوية والآثار، أما الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية فهي أدلة عامة ليست نصاً في المسألة وقد دفع الاستدلال بها في المناقشة، فضلاً عن أن الحديث الذي روي عن أبي هريرة حديث ضعيف، بل نسبه ابن الجوزي إلى الأحاديث الموضوعة.
أما الأدلة النقلية التي كانت نصاً في المسألة فهو الأثر الذي نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو لا يخرج عن كونه فعلاً لصحابي في مسألة اجتهادية لم ينقل إلينا إجماع الصحابة عليها أو حتى عدم المخالفة له فيها.
وسائر ما استدلت به المذاهب الفقهية هو من قبيل الأدلة العقلية وقد وجهت الاعتراضات إلى كل منها.
لذا فإنني أرى أن الرأي الراجح في المسألة هو القول بأن الأصل عدم الضمان على تارك إنقاذ المصاب في حوادث السير لما يأتي:
1. إن القول بوجوب الضمان يعني القول بوجوب القصاص أو الدية، وهذا يعني أن تارك الإنقاذ قاتل، وهذا المعنى لا يستقيم، لأن القتل يكون بالمباشرة أو التسبب، ومن المعلوم بداهة أن ترك الإنقاذ ليس قتلاً مباشراً؛ لأن التارك أو الممتنع لم يباشر فعلاً ليوصف بالمباشرة، ولا يمكن اعتباره من قبيل القتل بالتسبب؛ لأن القتل بالتسبب لا بد له من سبب يقوم به الجاني بحيث تنسب الجريمة إلى ذلك السبب، كحفر حفرة في الطريق يسقط فيها المجني عليه، أو حبس شخص ومنعه الطعام والشراب إلى أن يموت، فحفر الحفرة والحبس مع منع الطعام والشراب هي الأسباب المؤدية إلى الجريمة، قام بها الجاني فتكون هنالك علاقة بين الجاني والنتيجة الجرمية، وهذه العلاقة كافية؛ لأن تنسب الجريمة إلى الجاني، بخلاف الترك المحض.
2. أنه ليس من المنطق أن ننسب الجريمة إلى الشخص الذي يترك إنقاذ شخص مصاب بحادث سير كان غيره قد تسبب به، بل الأصل أن ننسب الجريمة إلى مرتكب الحادث، وليس من المستساغ أيضاً أن نجعله شريكاً في الجريمة؛ لأن امتناعه مستقل عن فعل مرتكب الحادث.
3. أن الأثر الذي ورد عن عمر بن الخطاب والذي هو نص في الامتناع المحض يمكن حمله على الامتناع عن تقديم الماء والطعام على وجه الخصوص دون غيره من أنواع الامتناع لما يأتي:
– إن الامتناع في الأثر كان عن تقديم الماء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار”([46])، وفي رواية: ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار”([47])، ففي ذلك دلالة على أحقية المضطر بالماء الذي منع منه، فيكون قد منع حقه، فإذا أدى ذلك إلى فوات نفسه وجب ضمانها.
– قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن منع فضل الماء بقوله: “لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ”([48])، فلعل سيدنا عمر رضي الله عنه قال بوجوب الدية لوجود النهي الصريح عن منع فضل الماء.
– في مسألة منع الطعام والماء تكون حياة المضطر متوقفة على الماء والطعام الذي بيد الغير، لذا لا يصح المنع، فيكون الموت بسبب الجوع والعطش الذي لم يرفعه الممتنع، وهذا بخلاف مسألة حادث السير وما شابها من المسائل؛ لأن حياة المصاب غير متوقفة على الإنقاذ لأن المصاب قد يموت مع الإنقاذ والسبب في الموت هو ذات الحادث.
4. يجب النظر عند بناء الأحكام إلى الواقع الذي نعيشه والظروف المحتفة بالواقعة من عدة جوانب:
أولاً: إن حوادث السير تكون على الطرقات وهي غالباً ما تكون مكتظة بالمارة ومن ثمَّ إذا ترك أحد الأشخاص إنقاذ المصاب فأنه ليس من العسير أن يتيسر له من يقوم بإنقاذه، ومن ثمَّ لم يتعين عليه الإنقاذ.
ثانياً: إن الشخص المنقذ في الواقع الذي نعيشه يتعرض للمساءلة القانونية فيتحمل الكثير من العناء([49])، مما يجعل الناس يتركون الإنقاذ ليس من باب التخاذل والتعمد إلى الأذى وإنما تجنباً لهذه المساءلة.
ثالثاً: أحياناً يكون الإنقاذ من عامة الناس ذا أثر سلبي على المصاب خاصة إذا كانت الإصابة عبارة عن كسور أو إصابة في العمود الفقري وما شابه ذلك.
فأرى أن ترك الإنقاذ مع وجود هذه الظروف لا يوجب الضمان على تاركه.
وإذا قلنا بعدم الضمان على تارك الإنقاذ في حوادث السير فلا يعني ذلك بأنه معفى من الإثم الأخروي؛ لأنه قصر يد العون عن أخيه المسلم الذي هو بأمس الحاجة مخالفاً بذلك قوله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [2: المائدة]، وأهدر نفساً قال الله تعالى فيها:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[32: المائدة].
ولولي الأمر أن يقيم على تارك الإنقاذ عقوبة تعزيرية([50])، تتناسب مع الأذى الذي ترتب على ترك الإنقاذ لا تصل إلى حد الضمان، فلا تكون قصاصاً ولا دية، وإنما قد تكون بالحبس أو الغرامة المالية…؛ لأن تركه أدى إلى الإسهام بتفويت نفس معصومة.
وهذه العقوبة التعزيرية يجب التشدد بها؛ لأن ترك الإنقاذ ربما يؤدي إلى فوات نفس أو عضو أو تسبيب عاهة للشخص المصاب، ولا يخفى عظيم ضرر ذلك، ويجب أن يشدد في هذه العقوبة التعزيرية أكثر إذا كان تارك الإنقاذ ممن يجب عليه الإنقاذ قانوناً بحكم طبيعة العمل كترك الإنقاذ من قبل العاملين في أجهزة الدفاع المدني أو قوات الأمن العام، أو من الحرس المكلف بحماية بعض الناس، وكان الترك متعمداً، لأن تارك الإنقاذ في هذه الحالة مكلف شرعاً وقانوناً بالإنقاذ، بحكم عمله ووظيفته، ويتقاضى على ذلك أجراً، فهو أجير للدولة للقيام بهذا العمل، وقد أخل بالتزامات العقد.
أما عن موقف القانون فيما يتعلق بترك إنقاذ المصاب بحادث السير إذا كان تارك الإنقاذ غير متسبب بالحادث، فليس في قانون العقوبات الأردني، أو في قانون السير نص يجرم ترك إنقاذ المصاب في حوادث السير إذا لم يكن الممتنع عن الإنقاذ متسبباً بالحادث، ومن ثمَّ لو ثبت أن شخصاً ترك إنقاذ المصاب في هذه الحالة فلا تلحقه مسؤولية قانونية، بل أنه في حالة الإنقاذ يتعرض لبعض الإجراءات الأمنية، مما أدى هذا إلى أن كثيراً من الناس يتركون إنقاذ المصاب إذا وجد على قارعة الطريق، تجنباً لهذه الإجراءات والتحقيقات الأمنية.
ولعل السبب في عدم تجريم الامتناع عن إنقاذ المصاب في حوادث السير إذا لم يكن تارك الإنقاذ متسبباً بالحادث اشتراط القانون لاعتبار الامتناع جريمة توافر الواجب القانوني([51])، أي أن يكون تارك الإنقاذ محملاً بواجب قانوني يتعارض مع موقفه السلبي، لأن تخلف الواجب القانوني يجعل الأمر لا يخرج عن مجرد ترك للواجبات الأدبية أو الأخلاقية([52])، وترك الواجبات الأدبية والأخلاقية لا يُسأل عنه الشخص قضائياً وإن كان مخالفاً لمبادئ الرحمة الإنسانية([53])، فالقانون لا يحفل إلا بما يقره من التزامات، وإن كان الدين والأخلاق يأمران الإنسان بنجدة الغير، وتقديم المساعدة والعون له، إلا أن القانون لم يحكم بوجوب ذلك، ومن ثمَّ لا يكون الشخص ملزماً بواجب قانوني عند اتخاذه الموقف السلبي، مما يترتب عليه أن لا يسأل عن امتناعه قضاء، حتى ولو لم يلحقه ضرر فيما لو سلك الموقف الإيجابي، فمن شاهد طفلاً يعبث بأسلاك الكهرباء فلم يحذره أو ينهره أو يمنعه، فصعقه التيار الكهربائي فمات، فلا يعد المشاهد له قاتلاً؛ لأن القانون لم يرتب عليه التزاماً بردع الطفل عن ذلك([54]).
المبحث الثاني حكم ترك إنقاذ المصاب في حادث السير إذا كان التارك متسببا بالحادث
عند الحديث عن حكم ترك إنقاذ المصاب في حوادث السير إذا كان التارك متسبباً بالحادث لا بد من التفرقة بين حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون المتسبب بحادث السير متعمداً حصول الحادث، أي أنه توفر لديه القصد لقتل المجني عليه، أو إصابته ففي هذه الحالة لا يبحث عن حكم ترك الإنقاذ، لأنه من غير المتصور أن يتوفر لدى الجاني قصد الجريمة، ثم يسأل عن ترك إنقاذ المجني عليه، وإنما يكون سؤاله عن ذات الجريمة وقصده إياها.
الحالة الثانية: أن لا يكون المتسبب في الحادث متعمداً الجريمة، وإنما حدثت بغير قصد، كأن يفاجأ السائق بأحد المشاة أمام المركبة فيصدمه، وفي هذه الحالة يفرق بين صورتين:
الصورة الأولى: أن يؤدي الحادث إلى الوفاة أو الإصابة مباشرة، وهذه الصورة خارجة عن نطاق البحث، لأنه لا مجال للإنقاذ، أو لأن ترك الإنقاذ في حد ذاته لم يترتب عليه ضرر.
الصورة الثانية: أن لا يؤدي الحادث إلى الوفاة أو الإصابة مباشرة، بحيث يكون هنالك من الوقت ما يمكن به إنقاذ المصاب، إلا أن المتسبب بالحادث يتركه مما يؤدي ذلك إلى مفارقته الحياة، أو إصابته، فتكون الوفاة أو الإصابة قد نتجت عن عدم الإنقاذ، وهذه الصورة هي محل البحث في هذا المبحث.
وعند إنعام النظر في هذه الصورة نجد أنها تتكون من عنصرين:
الأول: موقف إيجابي وهو ذات الحادث أو واقعة الدهس، إلا أنه حصل بغير قصد وعمد.
الثاني: موقف سلبي وهو ترك إنقاذ المصاب، وهو ترك متعمد ومقصود.
لذا ذهب بعض الباحثين([55]) المعاصرين إلى اعتبار هذه الجريمة من الجرائم السلبية التي اجتمع فيها الفعل الإيجابي مع الموقف السلبي، حيث قسموا الجرائم السلبية أو جرائم الترك إلى قسمين؛ الأول: جرائم الترك التي يجتمع فيها الإيجاب والسلب. الثاني: جرائم الترك المحضة، مقتفين في ذلك الإمام أبا زهرة([56])، وجعلوا ترك إنقاذ المصاب من الأمثلة على الجرائم السلبية التي يجتمع فيها الإيجاب والسلب، ثم بنوا حكم المسألة على فرع فقهي عند الفقهاء وهو حبس إنسان في بيت ومنع الطعام عنه إلى أن يموت.
ويمكننا أن نسجل الملاحظات الآتية على ما ذهبوا إليه:
أولاً: لا ضير أن تكون مسألة البحث مثالاً على الجرائم السلبية المسبوقة بفعل إيجابي، لتحقق العنصرين فيها وهما الفعل الإيجابي المتمثل بحادث الدهس، والموقف السلبي المتمثل بترك إنقاذ المصاب.
ثانياً: إن تخريج هذا المسألة على الفرع الفقهي السابق الذي ذكره الفقهاء في مصنفاتهم تشوبه عدم الدقة لما يأتي:
1. إن الفعل الإيجابي الذي دخل في تكوين الجريمة السلبية في كلا المسألتين مختلف من حيث القصد إليه، ففي المسألة موضع البحث كان الفعل الإيجابي غير مقصود، بينما في المسألة التي ذكرها الفقهاء كان الفعل الإيجابي مقصوداً، حيث إن حادث السير غير متعمد، بينما في مسألة منع الطعام فإن الفعل الإيجابي وهو الحبس كان مقصوداً ومتعمداً، وشتان بين العمد وغير العمد في الجنايات، ولعل تعمد الفعل الإيجابي في مسألة منع الطعام هو الذي حمل جمهور الفقهاء من المالكية([57]) والشافعية([58]) والحنابلة([59]) إلى القول بوجوب القصاص، وفق الشروط التي قرروها في هذه المسألة.
وقد يكون الأقرب إلى هذا الفرع فيما لو أن الحادث كان متعمداً ثم ترك الجاني المصاب إلى أن مات، فيكون الفعل الإيجابي مقصوداً في كلا المسألتين، فيصح التخريج.
2. العلاقة بين الفعل الإيجابي والموت مختلفة في كلا المسألتين، ففي المسألة موضع البحث كان للفعل الإيجابي الأثر الواضح في حصول الموت، لأن الموت قد يكون ناتجاً عن نزيف مثلاً، والنزيف متسبب عن ذات الحادث، فيكون ترك الإنقاذ عاملاً مساعداً في حدوث الموت، أما في الفرع الذي ذكره الفقهاء فإن الموت متسبب عن الجوع أو العطش الناتج عن ترك الإطعام والإسقاء، فيكون لترك الإطعام الأثر الأكبر في الموت لا للفعل الإيجابي وهو الحبس.
ومن ثمَّ فإنني أرى أن سحب حكم مسألة منع الطعام على مسألة ترك الإنقاذ في حادث السير بشكل مطلق بحاجة إلى إعادة النظر فيها، لأن الفعل الإيجابي في حادث السير -وهو عملية الدهس- هو الذي أدى إلى الموت أو الإصابة لا مجرد ترك الإنقاذ فتكون العلاقة بين الحادث والموت هي علاقة المباشرة، لأن المباشرة ما أثر في التلف وحصله أي ما جلب الموت بذاته دون واسطة وكان علة له([60])، وحادث السير هو المؤثر المباشر في الموت فينسب الموت له. ومن جهة أخرى لم يتوفر القصد الجنائي لدى المتسبب، لأن سائق المركبة -في الصورة المفترضة- لم يتعمد الدهس، وإنما وقع الحادث لعدم تحرزه، أو لإهماله، أو لسبب آخر لم يقصد منه القتل. ومن ثمَّ، يكون القتل في هذه الصورة ليس من قبيل القتل العمد، والقتل إذا لم يكن متعمداً فإن أكثر ما يجب فيه الدية وعقوبات تبعية أخرى كالكفارة، لأنه لا يخرج عن كونه شبه عمد أو خطأ أو ما جرى مجرى الخطأ([61])، ويرجع في تحديد نوع القتل الحاصل بحادث السير وتقدير الضمان الواجب فيه إلى تكييف الحادث، وبيان مدى مسؤولية السائق، وهل القتل أو الإصابة حصلت بالمباشرة أم التسبب، وهذا يستدعي النظر في كل حادث سير بشكل مستقل ومن ثم تطبيق القواعد العامة في الجنايات عليه([62]).
أما خرج على قول الإمام أبي حنيفة([63]) من سقوط الضمان عن السائق بناء على مسألة الحبس ومنع الطعام([64])، فهذا أيضاً ليس على إطلاقه، إنما الفيصل في ذلك هو التكييف الفقهي لحادث السير والفرق بين المسألتين عنده أنه في مسألة الحبس ومنع الطعام أن الموت حصل بالجوع والعطش لا بالحبس، ولا صنع لأحد بالجوع والعطش([65])، فلا ينسب الموت إلى الحابس. بينما في مسألة حادث السير فإن الموت حصل بذات الحادث، والحادث من صنع السائق. فينسب الموت إليه، وإذا نسب الموت إليه وجب التكييف الفقهي للحادث وبيان مدى مسؤولية السائق، ومن ثمَّ تجب التفرقة في حكم المسألتين عنده.
وعلى الرغم من أن الموت حصل نتيجة للحادث إلا أنه يوجد عامل آخر ساهم في موت المصاب وهو تعمد ترك الإنقاذ مع القدرة عليه، فهل اقتران هذا العامل بالحادث غير المقصود موجب للقصاص؟
فعند الحنفية فإن اقتران تعمد ترك الإنقاذ بالحادث غير المقصود لا يوجب القصاص، لأنهم لا يوجبون القصاص على الجاني في الجرائم المكونة من فعل إيجابي وموقف سلبي وإن كان الفعل الإيجابي متعمداً فمن باب أولى إذا لم يكن متعمداً، ويظهر ذلك في مسألة الحبس ومنع الطعام، إذ ذهب الحنفية إلى عدم وجوب القصاص على من حبس آخر ومنع عنه الطعام والشراب إلى أن مات بل يجب عليه الدية عند الصاحبين، والتعزير عند الإمام أبي حنيفة([66])، وهذا مع تعمد الأمرين؛ الموقف الإيجابي وهو الحبس، والموقف السلبي وهو ترك الإطعام، فإذا تحقق العمد في الموقف السلبي في كلا المسألتين، بأن تعمد السائق ترك الإنقاذ في حادث السير، وتعمد الحابس ترك الإطعام، فإن العمد لم يتحقق في الموقف الإيجابي في المسألتين، لأن السائق لم يتعمد وقوع الحادث، بينما تعمد الجاني الحبس في مسألة منع الطعام، فإذا لم يوجب الحنفية القصاص في حال وقوع العمد في شقي المسألة فمن باب أولى عدم وجوبه إذا انحصر العمد في أحد شقيها.
وعند جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية- وهم الذين أوجبوا القصاص في جرائم الترك المركبة من فعل إيجابي وموقف سلبي([67])، أو جرائم الترك المحض([68]) نجد أن قياس مذاهبهم في مسألة حادث السير على النحو الآتي:
1. عند المالكية: يشترط المالكية لوجوب القصاص بشكل عام توافر القصد إلى الفعل الذي أدى إلى الموت وإن لم يقصد الجاني حصول القتل([69])، والفعل الذي أدى إلى الموت في حادث السير هو الدهس ولم يكن مقصوداً، فلا يوجب حادث السير بذاته القصاص. أما الترك على وجه الخصوص فقد اختلفوا في القصد إليه؛ فقال بعضهم: لا يشترط لوجب القصاص به مجرد القصد إليه بل يجب أن يتوافر قصد القتل، فقد جاء في الشرح الكبير في إيجاب القصاص: “ومنع طعام، أو شراب قاصدا به موته فمات فإن قصد مجرد التعذيب فالدية، ومن ذلك الأم تمنع ولدها الرضاع حتى مات، فإن قصدت موته قتلت، وإلا فالدية على عاقلتها”([70]). وفي حادث السير وإن كان الترك مقصوداً إلا أنه النتيجة المترتبة عليه-وهي الموت- غير مقصودة، فلا يكون موجباً للقصاص. وقال بعضهم الآخر: يجب القصاص وإن لم يقصد من الترك القتل، فقد جاء في الفواكه الدواني: “فإن لم يحصل مقاتلة وتركوهم حتى ماتوا عطشاً أو جوعاً فدياتهم على عواقل رب الماء أو الطعام وقيل: يقتلون بهم بناء على أن الترك بمنزله الفعل، ويقاس على ذلك مانع الزكاة عن مستحقها. وهذا كله حيث لم يقصد بمنع فضل الماء أو الطعام قتل المضطر إلا اتفق على قتله فيه”([71])، وعليه فأنه إذا دهس شخص آخر ثم لاذ بالفرار فمات المصاب، فأنه يقتص منه بناء على هذا القول عند المالكية وإن لم يقصد بترك إنقاذه قتله؛ لأنه أصبح بالدهس مضطراً إلى الإنقاذ، ويجب أن يحمل هذا على أن الترك كان موثراً بالموت.
2. عند الشافعية والحنابلة: يشترط الشافعية والحنابلة لوجوب القصاص في مسألة الحبس ومنع الطعام([72]) أن تمضي مدة من أول الحبس إلى الموت يموت المحبوس في مثلها غالباً([73])، وهذا الشرط فيه دلالة واضحة على أن الشافعية والحنابلة يرون أن الترك الموجب للقصاص لا بد أن يقترن بقصد القتل، فقد جاء في مغني المحتاج: “ولو حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما ومنعه أيضا الطلب لذلك حتى مات بسبب المنع فإن مضت عليه مدة يموت مثله- أي المحبوس فيها- غالباً جوعاً أو عطشاً فعمد لظهور قصد الإهلاك به”([74]). وجاء في إعانة الطالبين بعد ذكر المسألة: “ولما كان قصد الإهلاك بالفعل المذكور ظاهرا أحيل الهلاك عليه”([75]). وجاء في كشاف القناع: “حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما أي الطعام وحده أو الشراب أو منعه الدفاء في الشتاء ولياليه الباردة قاله ابن عقيل حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا في مدة يموت في مثلها غالبا بشرط أن يتعذر عليه الطلب فعمد لأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عند ذلك فإذا تعمده الإنسان فقد تعمد القتل”([76])، وقال فيمن منع آخر طعامه: “لو منعه طعامه حتى هلك… لأن مانع الطعام تعمد الفعل الذي يقتل مثله غالبا”([77]).
يلاحظ من النصوص السابقة أن علة إيجاب القصاص في جرائم الترك هو قصد القتل وتعمده، أي أن الجاني تعمد بترك الإطعام قتل المجني عليه ، وهذه العلة غير متحققة في ترك الإنقاذ في حوادث السير.
3. أما عند الظاهرية فيمكن القول أن ترك الإنقاذ يستوجب القصاص وإن لم يكن التارك متسبباً في الأمر المؤدي إلى الموت، تخريجاً على قول ابن حزم في المضطر الذي استسقى قوماً فلم يسقوه حتى مات فيجب عليهم القصاص إن علموا أنه لا ماء البته إلا عندهم ولا يمكن المضطر إدراكه أصلاً حتى يموت([78]).
فإذا كان الحكم كذلك عند ابن حزم في التارك غير المتسبب في الأمر المؤدي إلى الموت، فمن باب أولى إذا كان التارك هو المتسبب، وعليه فإنه من دهس آخر ثم ترك إنقاذه وهو يعلم أنه لا منقذ له إلا هو فإن فعله هذا يستوجب القصاص عند ابن حزم.
وبناء عليه فإن تعمد ترك الإنقاذ في حادث السير غير المقصود ينحصر في قولين؛ قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو عدم وجوب القصاص في ترك الإنقاذ لما سبق بيانه، وقول الظاهرية وبعض المالكية حيث يوجبون القصاص لترك الإنقاذ المؤدي إلى الموت؛ لأنهم يوجبون القصاص وإن لم يكن الممتنع عن الإنقاذ متسبباً، فمن باب أولى إن كان متسبباً.
والذي يترجح عندي هو القول بعدم وجوب القصاص في هذه المسألة لما يأتي:
1. إن إيجاب القصاص أو الدية على الجاني يكون نتيجة فعله المؤدي إلى موت المجني عليه، والفعل الذي أدى إلى الموت في حادث السير هو الفعل الإيجابي أي عملية الدهس لا الموقف السلبي، وإنما الموقف السلبي كان عاملاً مساعداً -كما سبق بيانه- لأن الموت قد يكون سببه نزيف المصاب مثلاً، والنزيف حاصل من ذات الحادث، فيكون السبب المباشر للموت هو ذات الحادث، وبما أن الحادث كان بغير قصد وتعمد يكون الجزاء هو الدية على أكثر تقدير([79]) لا القصاص.
2. ليس بالضرورة أن يترتب على الإنقاذ نجاة المصاب من الموت، فقد يقوم المتسبب بالحادث أو غيره بإسعاف المصاب ومع هذا يموت المصاب لنزيف داخلي أو غير ذلك، مما يؤكد ذلك أن ترك الإنقاذ ليس هو سبب الموت، وهذا بخلاف ترك الإطعام، لأن ترك الإطعام هو السبب المباشر للموت، بدليل أنه مهما طال الحبس إذا توفر الطعام للمحبوس فلا يحصل الموت بسبب الحبس، وإذا ترك الإطعام حصل الموت، فيكون موجب ترك الإطعام غير موجب ترك الإنقاذ.
عقوبة ترك إنقاذ المصاب في حادث السير غير المقصود إذا كان التارك متسببا بالحادث:
إذا كان تارك الإنقاذ متسبباً بالحادث فإن الجناية مركبة من عنصرين؛ الأول: الحادث وهو غير متعمد، الثاني: ترك الإنقاذ، وقد تبين سابقاً أن الموت كان متسبباً عن ذات الحادث، وبما أنه غير متعمد، فإن العقوبة المترتبة عليه هي عقوبة القتل غير المتعمد (شبه العمد، أو الخطأ، أو ما جرى مجرى الخطأ)([80])، إلا أن هذا لا يعني إعفاء الجاني من عقوبة ترك الإنقاذ، لأنه كان قاصداً لها، وبالتالي فإن الجناية في حوادث السير تستوجب عقوبتين هما: عقوبة القتل الذي لم يتوفر فيه القصد الجنائي، وعقوبة ترك الإنقاذ، وفيما يأتي بيان لبعض التفصيل لهما:
أولاً: عقوبة القتل الذي لم يتوفر فيه القصد الجنائي
بما أن الحديث عن القتل الناتج عن حادث سير فإنه ينظر في بيان نوع القتل في كل حادثة بشكل مستقل، وبناء على تحديد نوع القتل تحدد العقوبة، ولما كان موضوع المسألة حادث السير غير المتعمد فإن العقوبة تدور حول الدية والكفارة([81])، لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[92: النساء]. والدية: وهي المال الواجب في إتلاف نفس الإنسان أو عضو كامل من أعضائه([82]). والكفارة: تصرف مخصوص أوجبه الشرع لمحو ذنب مخصوص([83]).
ثانياً: عقوبة ترك الإنقاذ
من المعلوم أن حفظ النفس من الضرورات التي يجب الحفاظ عليها، وكل ما أدى إلى حفظ هذا الضروري فهو واجب، فيكون إنقاذ المصاب في حوادث السير من الواجبات التي يجب الاعتناء بها، وكل من ترك هذا الواجب مع القدرة على القيام به استوجب العقوبة، لأنه يكون قد ارتكب مخالفة شرعية، ولما كان ترك إنقاذ المصاب من الجرائم التي لم ينص على عقوبة لها تعين أن تكون العقوبة المترتبة عليها عقوبة تعزيرية يترك لولي الأمر تقديرها، إلا أنني أرى أن تكون هذا العقوبة التعزيرية عقوبة مشددة إذا كان تارك الإنقاذ هو المتسبب بالحادث، لما يأتي:
1. إن تارك الإنقاذ هنا هو المتسبب في الحادث، فتكون المسؤولية التي تقع على عاتقه ليست كالمسؤولية التي تقع على غيره، فإذا تخلى عن هذه المسؤولية تجاه من تسبب له بالحادث وجب التشديد عليه.
2. صحيح أن الحادث الذي وقع من الجاني كان بغير قصد، وقد قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عن أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وما اسْتُكْرِهُوا عليه”([84])، إلا أن الجاني كان بإمكانه تدارك آثار الخطأ الذي وقع منه، ولم يفعل، لذا وجب التشديد عليه.
موقف القانون فيما يتعلق بترك إنقاذ المصاب في حادث السير إذا كان التارك متسببا بالحادث:
قد بينا سابقاً أن هذه الجريمة تتكون من عنصرين:
الأول: موقف إيجابي وهو ذات الحادث، أو واقعة الدهس، إلا أنه حصل بغير قصد وعمد.
الثاني: موقف سلبي وهو ترك إنقاذ المصاب، وهو ترك متعمد ومقصود.
وبالرجوع إلى أحكام قانون السير الأردني رقم (49) لسنة 2008، نجد أنه فرق بين العنصرين؛ فرتب على كل منهما عقوبة مستقلة عن الآخر على النحو الآتي:
أولاً: فيما يتعلق بالفعل المباشر -وهو ذات الحادث أو واقعة الدهس- فقد نصت المادة (27) من قانون السير على أنه: “على الرغم مما ورد في المادة (343) من قانون العقوبات([85])، إذا تسبب السائق بوفاة إنسان، أو إحداث عاهة دائمة له، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، أو بغرامة من (1000) ألف دينار إلى (2000) ألفي دينار، أو بكلتا هاتين العقوبتين، وعلى المحكمة وقف العمل برخصة القيادة مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنتين”.
من نص المادة السابق يتبين أن عقوبة الموقف الإيجابي في هذه الجريمة هي:
1. الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن ثلاث سنوات، والغرامة المالية بحيث لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد عن ألفي دينار، وللقاضي هنا أن يجمع بين العقوبتين؛ الحبس والغرامة، أو أن يوقع أحدهما فقط.
2. وقف العمل برخصة القيادة مدة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تزيد على سنتين على سبيل الإلزام.
ثانياً: فيما يتعلق بالموقف السلبي -وهو ترك الإنقاذ- فقد جاء في نصت الفقرة (أ) من المادة (26) من قانون السير الأردني على أنه: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ولا تزيد على ستة أشهر، أو بغرامة لا تقل عن (500) خمسمائة دينار ولا تزيد على (1000) ألف دينار، أو بكلتا هاتين العقوبتين في الحالات التالية” وذكرت من هذه الحالات: “فرار السائق من مكان حادث ارتكبه، تسبب بأضرار بشرية، أو عدم تبليغه أقرب مركز أمني، أو دورية شرطة بالحادث المروري الذي ارتكبه”.
فالسائق الذي يرتكب حادثاً ويتسبب بإصابة إنسان فيه، يكون محملاً بواجب اتجاه هذا الإنسان، وهو العمل على إنقاذه، وذلك بالتوقف لإسعاف المصاب، فإذا لم يتمكن من التوقف خشية تعرضه للأذى، فعليه التبليغ عن الحادث، لتتمكن الجهات المختصة بالتوجه لمكان الحادث والعمل على إنقاذ المصاب، أما إذا فر السائق من مكان الحادث، ولم يبلغ عنه يكون تهرب من مسؤوليته اتجاه المصاب، وتخلى عن واجبه اتجاهه، وترك إنقاذه، مما قد يؤدي إلى تفاقم حالة المصاب، فيعاقب بما نصت عليه المادة السابقة، وهو: الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ولا تزيد على ستة أشهر، أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة دينار ولا تزيد على ألف دينار، أو بكلا العقوبتين.
أما في التشريع المصري فقد جعل قانون العقوبات ترك الإنقاذ من الظروف المشددة في العقوبة، وميز بين ترك الإنقاذ في حالة الوفاة، وترك الإنقاذ في حالة الإصابة، فنص في المادة (238) على أنه: “من تسبب خطأ في موت شخص آخر بأن كان ذلك ناشئاً عن إهماله… يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة مالية لا تجاوز مائتي جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة، ولا تزيد على خمس سنين، وغرامة مالية لا تقل عن مائة ولا تجاوز خمسمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني إخلالاً جسيماً بما تفرضه عليه أصول وظيفته… أو نكل وقت الحادث عن مساعدة من وقعت عليه الجريمة، أو عن طلب المساعدة له مع تمكنه من ذلك”. ونص في المادة (244) على أنه: “من تسبب خطأ في جرح شخص أو إيذائه بان كان ذلك ناشئاً عن إهماله… يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على السنة، وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنتين، وغرامة لا تجاوز ثلاثمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا نشأ عن الإصابة عاهة مستديمة أو إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني إخلالاً جسيماً بما تفرضه عليه أصول وظيفته… أو نكل وقت الحادث عن مساعدة من وقعت عليه الجريمة، أو عن طلب المساعدة له مع تمكنه من ذلك”.
فالمادة (238) تبين أن ترك الإنقاذ في حوادث السير التي ينجم عنها الوفاة يشدد العقوبة، فتصبح الحبس مدة لا تقل عن سنة، ولا تزيد على خمس سنين، وغرامة مالية لا تقل عن مائة ولا تجاوز خمسمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين بدلا من الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة مالية لا تجاوز مائتي جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. والمادة (244) تبين أن ترك الإنقاذ في حوادث السير التي ينجم عنها الإصابة يشدد العقوبة، فتصبح الحبس مدة لا تزيد على سنتين، وغرامة لا تجاوز ثلاثمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، بدلاً من الحبس مدة لا تزيد على السنة، وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وفي قانون العقوبات اللبناني نصت المادة (566) المعدلة بالمرسوم رقم (112) لسنة 1983 على أن: “كل سائق مركبة تسبب بحادث ولو مادي ولم يقف من فوره أو لم يعن بالمجني عليه أو حاول التملص بالهرب يعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز الشهر وبغرامة لا تجاوز المئة ألف ليرة. ويزداد على العقوبات المذكورة في المادتين (564) و(565) نصفها إذا اقترف المجرم أحد هذه الأفعال”.
يتبين من نص المادة السابق أن عدم الوقوف بعد التسبب بالحادث، أو عدم العناية بالمجني عليه، أو محاولة التملص من تبعة الحادث بالهرب، يعد جرماً مستقلاً عن ذات الحادث([86])، وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تتجاوز الشهر، إضافة لغرامة مالية لا تتجاوز المئة ألف ليرة. إلا أن هذه الأفعال تكون سبباً في تشديد العقوبة إذا نجم عن الحادث وفاة أو إصابة وبيان ذلك فيما يأتي:
نصت الفقرة الثانية من المادة (566) على أنه: “ويزداد على العقوبات المذكورة في المادتين (564) و(565) نصفها إذا اقترف المجرم أحد هذه الأفعال”.
والمادة (564) مختصة ببيان عقوبة القتل الخطأ، حيث تنص على أنه: “من تسبب بموت أحد عن إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين أو الأنظمة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات”. فإذا ارتكب السائق حادث خطأ أودى بحياة إنسان تكون عقوبته الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، فإذا لم يتوقف بعد الحادث أو لم يعن بالمجني عليه أو حاول التملص من تبعة الحادث تشدد عقوبته بزيادة نصفها إليها؛ فتصبح الحبس من تسعة أشهر إلى أربع سنوات ونصف([87]).
أما المادة (565) فهي مختصة بالإيذاء بطريق الخطأ، حيث تنص على أنه: “إذا لم ينجم عن خطأ المجرم إلا الإيذاء كالذي نصت عليه المواد ال 556 إلى 558 كان العقاب من شهرين إلى سنة. يعاقب على كل إيذاء آخر غير مقصود بالحبس ستة أشهر على الأكثر أو بغرامة لا تتجاوز مائتي ألف ليرة”.
وبالرجوع إلى المواد (556، 557، 558) نجد أن الإيذاء المنصوص عليه فيهن هو الذي يترتب عليه المرض أو التعطيل عن العمل مدة تتجاوز العشرين يوماً، أو العاهة الدائمة، أو الإجهاض، ومن ثمَّ إذا ارتكب السائق حادثاً خطأ نجم عنه الإيذاء السابق ثم لم يتوقف بعد الحادث، أو لم يعن بالمجني عليه، أو حاول التملص من تبعة الحادث، تشدد عقوبته بزيادة نصفها إليها؛ فتصبح الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة ونصف، أما إذا كان الإيذاء غير ذلك بأن كان المرض أو التعطيل الناجم لم يصل إلى عشرين يوم ولم يؤدي إلى عاهة دائمة ولم يؤدي إلى الإجهاض، فتصبح العقوبة تسعة أشهر على الأكثر أو الغرامة المالية التي لا تتجاوز ثلاثمائة ألف ليرة.
وقد بين القهوجي الحكمة من تشديد العقوبة على السائق إذا اتخذ أحد المواقف السابقة، بقوله: “وحكمة تشديد عقوبة القتل غير المقصود إذا تحقق أحد الأفعال الثلاثة السابقة واضحة؛ فعدم توقف السائق بعد الحادث مباشرة قد يكون سبباً في تفاقم حالة المجني عليه فضلاً عن أنه يكشف عن استهانة واستهتار بأرواح الناس. كما أن عدم تقديم السائق الرعاية والعناية والغوث الذي يفرضه عليه القانون، وقد يكون في القيام بالواجب إنقاذ حياة المجني عليه. وأخيراً فإن هرب السائق وفراره ومحاولة التملص من المسؤولية بإعدام الأدلة أو تهديد الشهود يكشف عن نيته في تضليل العدالة، أو الاختفاء عن قبضتها. وهكذا فإن كل فعل من الأفعال الثلاثة السابقة يكشف عن توافر خطورة إجرامية إضافية لدى السائق الجاني يستحق بسببها تشديد العقوبة عليه”([88]).
وإذا نظرنا في قانون العقوبات المصري نجده قد عبر عن الموقف السلبي (ترك الإنقاذ) بـ”النكول عن مساعدة من وقع عليه الحادث، أو طلب المساعدة له” – كما هو في المادة (238) و(244)- وعبر قانون العقوبات اللبناني عن ترك الإنقاذ بعدم التوقف بعد الحادث وعدم العناية بالمجني عليه – كما هو في المادة (566) – وهذه التعابير أدق دلالة على المقصود أي على الموقف السلبي الذي سلكه السائق من تعبير قانون السير الأردني الذي عبر بالفرار وعدم التبليغ؛ لأن عبارتا قانوني العقوبات المصري (النكول عن المساعدة) واللبناني (عدم العناية بالمجني عليه) فيها دلالة واضحة على أن العقوبة المترتبة نتيجة ترك إنقاذ من هو بحاجة إلى الإنقاذ والمساعدة، بعد وقوع الحادث له، بينما التعبير بالفرار وعدم التبليغ – الذي جاء في قانون السير الأردني – وإن كان يتضمن أن العقوبة لعدم الإنقاذ؛ لأن الفرار وعدم التبليغ يلزم عنه عدم الإنقاذ، إلا أنه يحتمل أن تكون العقوبة لمحاولة السائق أن يتهرب من مسؤوليته عن الحادث، وليس لعدم الإنقاذ.
ثم أنه يؤخذ على نصوص القوانين أنها لم تفرق في حالة ترك الإنقاذ – الذي عبر عنه قانون السير الأردني بـ(الفرار وعدم التبليغ)، وعبر عنه قانون العقوبات المصري بـ(النكول عن المساعدة)، وعبر عنه قانون العقوبات اللبناني بـ(بعدم التوقف بعد الحادث أو عدم العناية بالمجني عليه) – بين ما إذا كان لترك الإنقاذ أثر في إحداث الوفاة أو العاهة الدائمة للمصاب، أو لم يكن له أثر، ومن ثمَّ ساوى القانون في حالة ترك الإنقاذ بين حدوث الوفاة أو العاهة الدائمة مباشرة بعد الحادث، وبين بقاء من تعرض للحادث حياً مدة يتمكن السائق فيها من إنقاذه لولا لم يفر من مكان الحادث أو لم ينكل عن المساعدة.
وبالتالي كان الأولى بالقانون التفرقة بين أمرين:
الأول: إذا كان لترك الإنقاذ أثر في النتيجة المترتبة على الحادث.
الثاني: إذا لم يكن لترك الإنقاذ أثر في النتيجة المترتبة على الحادث.
فتكون العقوبة في الحالة الأولى أشد منها في الحالة الثانية، وبيان ذلك فيما لو وقع الحادث فترك سائق المركبة الإنقاذ ولاذ بالفرار، وتبين في التقديرات الطبية أن المصاب لو أسعف في الحال لما أدت الإصابة إلى الوفاة أو العاهة، فيجب أن تكون عقوبة ترك الإنقاذ أشد مما لو أن التقديرات الطبية بينت أن الوفاة أو العاهة لم يكن للإنقاذ أو عدمه أثر فيها.
وكان الأولى بقانون السير الأردني أيضاً أن يفرق في العقوبة الواقعة على الجاني بين حالتين؛ الأولى: إذا ترتب على الحادث وفاة. الثانية: إذا ترتب على الحادث مجرد إصابة. فتكون عقوبة الامتناع في الحالة الأولى أشد منها في الحالة الثانية. كما هو الحال في قانوني العقوبات المصري واللبناني، إذ فرقا بين ترك الإنقاذ في حالة الوفاة وترك الإنقاذ في حالة الإصابة.
الخاتمة
لقد توصل هذا البحث إلى جملة من النتائج، فيما يأتي أبرزها:
1. هنالك حالتان لترك إنقاذ المصاب في حوادث السير؛ الأولى: إذا كان تارك الإنقاذ غير متسبب بالحادث. الثانية: إذا كان تارك الإنقاذ متسبباً بالحادث، ولم ينص الفقهاء القدماء على أي من حكم الحالتين، وتم التخريج على ما عند الفقهاء من فروع مشابهة.
2. توصل الباحث في حكم الحالة الأولى إلى أن لولي الأمر أن يقدر عقوبة تعزيرية للجريمة، وأن العقوبة فيها لا تصل إلى حد القصاص أو الدية، لأن الممتنع هنا لا يعد قاتلاً.
3. توصل الباحث في حكم الحالة الثانية إلى أنه تجب التفرقة بين أمرين؛ الأول: عقوبة ذات الحادث، وهنا ينظر إلى كل حادث بشكل مستقل وتطبق عليه القواعد العامة في الجنايات لبيان مدى مسؤولية السائق. الثاني: عقوبة الامتناع عن الإنقاذ، وهي عقوبة تعزيرية مشددة تضم إلى العقوبة على ذات الحادث.
4. تطرقت القوانين الوضعية إلى جريمة الامتناع عن إنقاذ المصاب في حوادث السير، فجعلتها بعضها من الظروف المشددة للعقوبة كقانون العقوبات المصري وقانون العقوبات اللبناني، وجعلتها بعضها فعلاً جرمياً يعاقب عليه بعقوبة مستقلة، كما في قانون السير الأردني.
5. نص قانون العقوبات المصري وقانون العقوبات اللبناني أوضح في الدلالة على الامتناع عن ترك الإنقاذ فقد عبر قانون القانون المصري عن ترك الإنقاذ بـ(النكول عن مساعدة من وقع عليه الحادث، أو طلب المساعدة له)، وعبر قانون العقوبات اللبناني ب (عدم العناية بالمجني عليه)، بينما عبر قانون السير الأردني بـ(فرار السائق من مكان الحادث، وعدم التبليغ)، والتعبير بفرار السائق وإن كان يتضمن أن العقوبة لعدم الإنقاذ؛ لأن الفرار وعدم التبليغ يلزم عنه عدم الإنقاذ، إلا أنه يحتمل أن تكون العقوبة لمحاولة السائق أن يتهرب من مسؤوليته عن الحادث، وليس لعدم الإنقاذ.
6. لم تفرق القوانين الوضعية بين إذا ما كان لترك الإنقاذ أثر في النتيجة المترتبة على الحادث أو لم يكن.
7. لم يفرق قانون السير الأردني في ترك الإنقاذ بين حالة الوفاة ومجرد الإصابة.
التوصيات
يوصي الباحث بما يأتي:
1. أن تعمل القوانين الوضعية على التفرقة في ترك الإنقاذ بين حالتين؛ الأولى: إذا كان لترك الإنقاذ أثر في النتيجة المترتبة على الحادث. الثانية: إذا لم يكن لترك الإنقاذ أثر في ذلك، فتكون العقوبة في الحالة الأولى أشد من العقوبة في الحالة الثانية.
2. أن يفرق قانون السير الأردني في ترك الإنقاذ بين حالة الوفاة وحالة الإصابة، فتكون العقوبة في الحالة الأولى أشد منها في الحالة الثانية. كما هو الحال في قانوني العقوبات المصري واللبناني.
(*) منشور في “المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية”، المجلد السادس، العدد (3)، 1427ه/ 2006م.
الهوامش:
([1]) إسماعيل بن عمر ابن كثير (ت 774ه)، بيروت، دار الفكر، 1401، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص48.
([2]) أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671ه)، الجامع لأحكام القرآن، القاهرة، دار الشعب، ج6، ص147.
([3]) محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت 666ه)، تحفة الملوك، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، بيروت، دار البشائر الإسلامية، 1417ه (ط1)، ص274.
([4]) محمد بن أحمد بن عرفه الدسوقي (ت 1230ه)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، تحقيق: محمد عبد الله شاهين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417ه/ 1996م (ط1)، ج2، ص372.
([5]) أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676ه)، روضة الطالبين، بيروت، المكتب الإسلامي، 1405ه (ط2)، ج3، ص285.
([6]) أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن مفلح (ت 884ه)، المبدع شرح المقنع، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418ه/ 1997م (ط1)، ج8، ص16.
([7]) ردينه إبراهيم حسن الرفاعي، الجرائم السلبية وتطبيقاتها في الفقه الإسلامي المقارن، رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنية، 1997، غير منشورة، ص137.
([8]) يأخذ حكم هذه المسألة قياساً على ترك إغاثة المضطر، لأن في كلاهما ترك لإنقاذ النفس من الموت.
([9]) لم أجد عند الحنفية نصاً صريحاً ينفي وجوب الضمان عن تارك إنقاذ المضطر – فيما أطلعت عليه- إلا أن قياس مذهبهم يوجب ذلك، وبيان هذا؛ ما نقل عن الحنفية في حكم مسألة الحبس ومنع الطعام، إذ إن أبا حنيفة لم يوجب الدية على من حبس شخصاً ومنع عنه الطعام إلى أن مات، مع أن الحابس قد صدر منه فعل إيجابي ساهم في القتل، وهو الحبس المتعمد، ثم منع عنه الطعام الذي هو قوام الحياة، ومن المعلوم ضرورة أن اجتماع هذين العاملين يؤدي إلى الموت لا محالة، فمن باب أولى أن لا تجب الدية على من ترك الإنقاذ ولم يصدر منه فعل إيجابي عند الإمام أبي حنيفة, أما عند الصاحبين فقد خالفا الإمام أبا حنيفة في مسألة الحبس ومنع الطعام، فأوجبا الدية على الجاني، وعللا ذلك بأن الجاني وجد منه فعل كان سبباً في موت المجني عليه وهو الحبس فإذا انضم إلى الحبس منع الطعام عن المجني عليه عند استيلاء الجوع عليه أمكننا نسبة الفعل إلى الجاني. وهذا بخلاف هذه المسألة إذ إن تارك الإنقاذ هنا لم يكن منه فعل من الممكن نسبة الموت إليه، وبالتالي لا تجب الدية عندهما، فيكون إسقاط الضمان عن تارك الإنقاذ في هذه المسألة هو مقتضى قول الحنفية.
([10]) شمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشربيني (ت 977ه)، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت، دار الكتب العلمية، 1427ه/ 2006م (ط1)، ج4، ص357، النووي، روضة الطالبين، ج3، ص285، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المجموع، بيروت، دار الفكر، 1997، ج9، ص41، محمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي (ت 794ه)، خبايا الزوايا، الكويت، وزارة الأوقاف، 1402ه (ط1)، ص401.
([11]) أبو عبد الله سيدي أحمد الدردير (ت 1201ه)، الشرح الكبير، تحقيق: محمد عليش، بيروت، دار الفكر، ج4، ص242، الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج2، ص373، محمد بن عبد الله بن علي الخرشي (ت 1101ه)، حاشية الخرشي على مختصر سيدي خليل، تحقيق: زكريا عميرات، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417ه/ 1997م (ط1)، ج8، ص144، محمد بن يوسف بن أبي القاسم العدربي (ت 1398ه)، التاج والإكليل لمختصر خليل، بيروت، دار الفكر، 1398ه (ط2)، ج6، ص240.
([12]) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المحلى شرح المجلى، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعلشي، بيروت، دار إحياء التراث، مؤسسة التاريخ العربي، 1418ه/ 1997م (ط1)، ج12، ص150.
([13]) الخرشي، حاشية الخرشي، ج8، ص144، أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي (ت 1125ه)، الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني، بيروت، دار الفكر، 1415ه، ج2، ص238.
([14]) الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج6، ص185، النفراوي، الفواكه الدواني، ج2، ص238.
([15]) الدردير، الشرح الكبير، ج4، ص242.
([16]) محمد عليش (ت 1299ه)، شرح منح الجليل على مختصر سيدي خليل، بيروت، دار الفكر، 1409ه، ج2، ص444، الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج6، ص185.
([17]) ابن حزم، المحلى، ج12، ص150.
([18]) شمس الدين محمد بن مفلح، الفروع، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1424ه/ 2003م (ط1)، ج9، ص431، 432، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت1051ه)، شرح منتهى الإرادات، بيروت، عالم الكتب، 1996 (ط2)، ج3، ص298، كشاف القناع عن متن الإقناع، تحقيق: محمد عدنان ياسين درويش، بيروت، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التـاريخ العربي، 1420ه/ 2000م (ط1)، ج6، ص15.
([19]) البهوتي، كشاف القناع، ج6، ص15، ابن مفلح، المبدع، ج7، ص279، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (ت620ه)، المغني على مختصر الخرقي، تحقيق: عبد السلام محمد علي شاهين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1924ه/ 1994م (ط1)، ج7، ص558.
([20]) انظر: المراجع السابقة.
([21]) علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان بن أحمد المرداوي (ت885ه)، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418ه/ 1997م (ط1)، ج10، ص49، ابن قدامة، المغني، ج7، ص558، ابن مفلح، المبدع، ج7، ص279.
([22]) ابن مفلح، المبدع، ج7، ص280.
([23]) ابن قدامة، المغني، ج7، ص558.
([24]) ابن قدامة، المغني، ج7، ص558، البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج3، ص298.
([25]) استدل بهذه الآية ابن حزم على وجوب الضمان بالقصاص على من تعمد ترك الإنقاذ.
([26]) ابن حزم، المحلى، ج12، ص150.
([27]) محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، دار الفكر العربي، ص136، الرفاعي، الجريمة السلبية، ص144.
([28]) أخرجه: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت261ه)، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث، كتاب اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال، ج3، ص1354.
([29]) أبو زهرة، الجريمة والعقوبة، ص133، 134.
([30]) أخرجه: محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه، سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، ج2، ص874، رقم الحديث (2620). وأحمد ابن الحسين بن علي بن موسى البيهقي (ت 458ه)، سنن البيهقي الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكة المكرمة، مكتبة دار الباز، 1994م، جماع أبواب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا قصاص عليه، باب تحريم القتل من السنة، ج8، ص22، رقم الحديث (15643). وهو حديث ضعيف، انظر: عمر بن علي الأنصاري بن الملقن (ت804ه)، خلاصة البدر المنير، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، الرياض، مكتبة الرشد، 1410ه (ط1)، ج2، ص262.
([31]) أحمد بن علي ابن حجر (ت852ه)، تلخيص الحبير، تحقيق: السيد عبد الله هاشم المدني، المدينة المنورة، 1384ه/ 1964م، ج4، ص14.
([32]) انظر الأثر: البيهقي، السنن الكبرى، كتاب إحياء الموات، باب ما جاء في النهي عن منع فضل الماء، ج6، ص153، رقم (11631). وعبد الله بن محمد الكوفي ابن أبي شيبة (ت235ه)، مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الرياض، مكتبة الرشد، 1409ه (ط1)، كتاب الديات، الرجل يستسقي فلا يسقى حتى يموت، ج5، ص452، رقم (27899).
([33]) انظر: عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1425ه/ 2004، ص207.
([34]) الشربيني، مغني المحتاج، ج4، ص357، سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الجمل (ت1204ه)، حاشية الجمل على شرح المنهاج، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417ه/ 1996م (ط1)، ج8، ص253.
([35]) عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي (ت 623ه)، العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417ه/ 1997م (ط1)، ج12، ص165.
([36]) علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، بيوت، دار الكتب العلمية، 1414ه/ 1994م (ط1)، ج15، ص173.
([37]) انظر مسألة الحبس ومنع الطعام عند الحنفية سابقاً.
([38]) الرفاعي، الجرائم السلبية، ص144.
([39]) يرى الحنفية لوجب الضمان بالتسبب تحقق التعدي. انظر: علاء الدين أبي بكر مسعود الكاساني (ت 587ه)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تحقيق: محمد خير طعمه حلبي، بيروت، دار المعرفة، 1420ه/2000م (ط1)، ج8، ص133.
([40]) الرفاعي، الجرائم السلبية، ص144.
([41]) الكاساني، بدائع الصنائع، ج6، ص294، 295، الماوردي، الحاوي الكبير، ج15، ص173.
([42]) ابن مفلح، الفروع، ج9، ص431، البهوتي، كشاف القناع، ج6، ص15.
([43]) البهوتي، كشاف القناع، ج6، ص15، ابن قدامة، المغني، ج7، ص558.
([44]) المرجعان السابقان. وابن مفلح، المبدع، ج7، ص279.
([45]) ابن قدامة، المغني، ج7، ص558، البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج3، ص298.
([46]) أخرجه: ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الرهون، باب المسلمين شركاء في ثلاث، ج2، ص826، رقم: (2472)، والبيهقي، السنن الكبرى، كتاب إحياء الموات، باب ما لايجوز إقطاعه من المعادن الظاهرة، ج6، ص149، رقم (11612)، صححه أحمد بن علي بن جحر (توفي 852ه) الدراية في تخريج أحاديث الهداية، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، بيروت، دار المعرفة، ج2، ص246.
([47]) أخرجه: ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الرهون، باب المسلمين شركاء في ثلاث، ج2، ص826، رقم: (2473).
([48]) أخرجه: محمد بن إسماعيل البخاري (ت256ه)، صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت، دار ابن كثير، 1987م (ط3)، كتاب الحيل، باب ما يكره من الاحتيال في البيوع ولا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، ج6، ص2554، رقم (6561).
([49]) الرفاعي، الجرائم السلبية، ص146.
([50]) المرجع السابق، ص146.
([51]) محمد أحمد مصطفى أيوب، النظرية العامة للامتناع
في القانون الجنائي، القاهرة، دار النهضة العربية، 2003، ص76.
([52]) السعيد مصطفى السعيد، الأحكام العامة في قانون العقوبات، مصر، دار المعارف، 1962 (ط4)، ص58.
([53]) إبراهيم عطا عطا شعبان، النظرية العامة للامتناع في الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الوضعي دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، 1981، ص232.
([54]) المرجع السابق، ص254.
([55]) الرفاعي، الجرائم السلبية، ص138، أيمن درادكه، الترك عند الأصوليين والفقهاء، رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنية، 2007، غير منشورة، ص242.
([56]) انظر هذا التقسيم: أبو زهرة، الجريمة والعقوبة، ص130.
([57]) الدردير، الشرح الكبير، ج4، ص242، الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج6، ص185.
([58]) أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204ه)، الأم، تحقيق: أحمد عبيدو عناية، بيروت، دار إحياء التراث العربي1420ه/ 2000م (ط1)، ج6، ص6، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (ت 476ه)، المهذب في فقه الإمام الشافعي، بيروت، دار الفكر، ج2، ص176.
([59]) ابن مفلح، المبدع، ج7، ص196، البهوتي، كشاف القناع، ج5، ص524، 525.
([60]) عبد القادر عوده، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناُ بالقانون الوضعي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1422ه/2001م (ط14)، ج2، س36، أحمد الحصري، القصاص- الديات- العصيان المسلح في الفقه الإسلامي، عمان، وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، 1394ه/ 1974م، ص195.
([61]) أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهيل السرخسي (ت 490ه) المبسوط، تحقيق: أبي عبد الله محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1421ه/2001م ط(1)، ج26، ص67، 74، 76، 78، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت684ه) الذخيرة، تحقيق: محمد بوخبزه، دار الغرب الإسلامي، 1994، ط1، ج12، ص280، 281.
([62]) انظر تكييف لبعض صور حوادث السير: عبد القادر محمد العماري، حوادث السير، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثامنة، لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، الجزء (2)، العدد8، (1415ه/ 1994م). ص276 وما بعدها.
([63]) من الذين خرجوا هذه المسألة على قول الإمام أبي حنيفة بناء على مسألة “حبس شخص ومنع عنه الطعام حتى مات” الدكتور أيمن درادكه في أطروحته للدكتوراه، فبعد أن جعل ترك إنقاذ المصاب في حوادث السير مثالاً على جرائم الترك التي يجتمع فيها الفعل الإيجابي والموقف السلبي، راح يفصل أقوال الفقهاء في المسألة بناء على مسألة منع الطعام (إذا حبس شخص ومنع عنه الطعام حتى مات)، فذكر في القول الثالث: عدم وجوب القصاص والدية على الحابس، وإن كان يستحق الإثم والتعزير، وهو قول الإمام أبي حنيفة. فيكون بذلك قد نسب للإمام أبي حنيفة القول بسقوط الدية عن السائق في حوادث السير. انظر: درادكه، الترك عند الأصوليين والفقهاء، ص242.
([64]) حيث ذهب الإمام أبو حنيفة إلى القول بسقوط القصاص والدية عمن حبس آخر ومنع عنه الطعام حتى مات. انظر: السرخسي، المبسوط، ج26، ص184، الكاساني، بدائع الصنائع، ج8، ص72.
([65]) الكاساني، بدائع الصنائع، ج8، ص72.
([66]) محمد أمين بن عابدين، حاشية ابن عابدين، بيروت، دار الفكر، 1421ه، ج6، ص543، إبراهيم بن محمد ابن نجيم (ت970ه)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، بيروت، دار المعرفة، ط(1)، ج8، ص336.
([67]) الدردير، الشرح الكبير، ج4، ص242، الدسوقي، حاشية الدسوقي،ج6، ص185، الشيرازي، المهذب، ج2، ص176، البهوتي، كشاف القناع، ج5، ص524، المرداوي، الإنصاف،ج9، ص462، موفق الدين عبدالله بن قدامة (ت620ه)، الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، بيروت، المكتب الإسلامي، ج4، ص16.
([68]) الدردير، الشرح الكبير، ج4، ص242، الدسـوقي،
حاشية الدسوقي، ج2، ص372-374، ابن حزم، المحلى، ج12، ص150.
([69]) الخرشي، حاشية الخرشي، ج8، ص143.
([70]) الدردير، الشرح الكبير، ج4، ص242.
([71]) النفراوي، الفواكه الدواني، ج2، ص238.
([72]) أما في مسألة الترك المحض فإن الشافعية أم يوجبوا الضمان لا بالقصاص ولا بالدية، أما الحنابلة فأنهم وإن أوجبوا الضمان إلا أنهم أوجبوه بالدية لا القصاص. انظر: قول الشافعية والحنابلة في المبحث الأول.
([73]) الشربيني، مغني المحتاج، ج4، ص7، محمد الزهري الغمراوي، السراج الوهاج، بيروت، دار المعرفة، ج1، ص478، البهوتي، كشاف القناع، ج5، ص524، 525، مصطفى السيوطي الرحيباني (ت1243ه)، مطالب أولى النُّهى في شرح غاية المنتهى، دمشق، المكتب الإسلامي، 1961، ج6، ص9.
([74]) الشربيني، مغني المحتاج، ج4، ص7.
([75]) أبو بكر ابن السيد محمد شطا الدمياطي، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، بيروت، دار الفكر، ج4، ص112.
([76]) البهوتي، كشاف القناع، ج5، ص524، 525.
([77]) المرجع السابق، ج6، ص15.
([78]) ابن حزم، المحلى، ج12، ص150.
([79]) قلت على أكثر تقدير، لأن بعض العلماء المعاصرين لا يوجبون الضمان في بعض صور حوادث السير. انظر: العماري، بحث بعنوان “حوادث السير”، ص278.
([80]) وقد ذهب بعض العلماء المعاصرون إلى القول بسقوط الضمان في بعض صور حوادث السير. انظر: العماري، بحث بعنوان “حوادث السير”، ص278.
([81]) انظر حول الدية والكفارة في صور الجناية بغير العمد: عوده، التشريع الجنائي، ج2، ص189 وما بعدها، الحصري، الديات- القصاص- العصيان المسلح في الفقه الإسلامي، ص598، ص606، فالح ابن محمد فالح الصغير، أحكام الدية في الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية، الرياض، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، 1412ه/ 1992، ص41، 42، عوض أحمد إدريس، الدية بين العقوبة والتعويض في الفقه الإسلامي المقارن، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1986(ط1)، ص228 وما بعدها.
([82]) محمد رواس قلعه جي، معجم لغة الفقهاء، بيروت، دار النفائس، 1427ه/ 2006م (ط2)، ص188.
([83]) قلعه جي، معجم لغة الفقهاء، ص350.
([84]) أخرجه: ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، ج1، ص659، رقم: 2043. والبيهقي، السنن الكبرى، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره، ج7، ص356، رقم: 14871. وقال الحاكم في المستدرك: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”. انظر: محمد بن عبد الله الحاكم(ت405ه)، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، 1990م، (ط1)، ج2، ص216.
([85]) تنص المادة (343) من قانون العقوبات على أنه: “من سبب موت أحد عن إهمال، أو قلة احتراز، أو عدم مراعاة القوانين، والأنظمة، عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات”.
([86]) طه زاكي صافي، قانون العقوبات الخاص، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط(1)، 1998، ص243.
([87]) علي عبد القادر القهوجي، قانون العقوبات، القسم الخاص، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، ط(1)، 2001، ص364.
([88]) القهوجي، قانون العقوبات، القسم الخاص، ص365.
لماذا لا تكون اول معجب
بحث فريد عن الشفعه في القانون .
المقدمـــــــــــــــــــــة
يعتبر موضوع الشفعة من المواضيع التي تحتاج الى دقة خاصة في معالجه نصوصها، لما فيها من خروج على القواعد العامة في القانون ، والتي تقضي بحرية العقود وحرية المالك في التصرف بملكه ، ولذا تعد من اهم المواضيع التي تهم الباحثين والدارسين ، ولما كان الحكمة من اقرار الشفعة هي منع الضرر الذي من المحتمل ان يلحق بالشفيع اما بسبب الجوار او الشركة لشخص قد يكون غليظ الطبع ورديء الخلق سيء المعاشرة ، الا ان الشفيع لا يلزم باثبات أقام دعوى الشفعة لدفع جوار السور اذ يكفي ان يتحقق سبب الشفعة حتى يكون له اقامة الدعوى علاوة على ان الشفعة بمعنى البيع الغير الشريك تحقق في اغلب الاحيان جميع الملكية في يد شخص واحد ، الامر الذي يساعد ويسهل كثيراً من استملاك العقار والانتفاع به على الوجه الاكمل
وقد عرف القانون المدني الاردني الشفعة في المادة (1150) (( الشفعة هي حتى تملك العقار المبيع او بعضه ولو جبرا على المشتري بما قام عليه من الثمن والنفقات)) ومن هذا التفريق نجد ان الشفعة تؤدي الى تملك الشفيع الملك المشفوع جبرا على المشتري وبالتالي يجد البائع نفسه قد باع لشخص آخر غير الذي اراد البيع له والمشتري قد تخلى جبرا عن الصفقة التي ابرمها مع البائع وقدمها الى شخص آخر هو الشفيع 0
ومن ذلك اجد ان موضوع الشفعة لما فيه من تقييداً لحرية التعاقد ولحق الملكية يعترية بعض التغيرات التي لا بد من معالجتها والوقوف عليها وايضاحها.
الفصل الاول
(المبحث الاول ) تعريف الشفعة :-
تعرف المادة (1150) من القانون المدني الاردني الشفعة ( الشفعة هي حق تملك العقار المبيع او بعضه ولو جبرا على المشتري بما قام عليه من الثمن والنفقات )
وواضح من التعريف اعلاه ان الشفعة تفترض ان هناك شفيعاً وهو الذي يأخذ الشفعة ، ومشفوعاً منه وهو المشتري ، وبائعاً لهذا المشتري ، وعقار مشفوعاً به وهو العقار المملوك للشفيع وقد شفع به ، وعقاراً مشفوعاً فيه وهو العقار الذي باعه صاحبه للمشتري وشفع الشفيع فيه وليبدو ان المشرع الاردني لم يوفق باستعماله التعبير ان الشفعة حق فالادق في التعريف هو ان الشفعة سبب لكسب ملكية عقار
فالفرق كبير بين الحق نفسه وبين اسباب كسبه ، فالملكية مثلا حق عيني ولكنها تكتسب بالميراث والوصية والحيازة والشفعة والاستيلاء والالتصاق ، وقد ا حسن المشرع المصري عندما نص في المادة ( 935) من القانون المدني المصري ( ان الشفعة رخصة تجيز في بيع العقار لحلول محل المشتري في الاموال وبالشروط المنصوص عليها في المواد التالية )
ويتبين من هذا التعريف ان المشرع قد عرّف الشفعة بأنها رخصة لا حق بل هي سبب من اسباب كسب ا لملكية
والشفعة هي خيار للشفيع فله ان يستعمله أولاً ومن ثم فلا يكره عليه ولا تجوز ا لا في العقار ومتى ثبت الحق في تملك العقار المبيع ، ولو جبرا على المشتري وبموجب حكم القضاء يعتبر عقداً حقيقياً
والحكمة من اقرار الشفعة هي منع الضرر الذي من المحتمل ان يلحق بالشفيع اما سبب الجوار او الشركة لشخص قد يكون غليظ الطبع رديء الخلق سيء المعاشرة(1)
الا ان الشفيع لا يلزم باثبات انه اقام دعوى الشفعة بدفع جوار السوء ، اذ يكفي ان يتحقق سبب الشفعة حتى يكون له اقامة دعوى (2) علاوة على ان الشفعة يمنعها البيع لغير الشريك تحقق في اغلب الاحيان جمع الملكية في يد شخص واحد الامر الذي يساعد ويسهل كثيرا في استغلال العقار والانتفاع به على الوجه الاكمل ومن الاصول الشرعية الثابتة ان مال الانسان لا ينتزع منه الا برضاه ولما كان رضا المشتري والبائع ليس شرطاً الاخذ بالشفعة فان الشفعة فقد مستثناه من عموم الاصل السابق وذلك لنفي الضرر عن الشريك والجار ومعنى ما تقدم ان الشفعة قد شرعت لدفع الضرر ولكن يجب الا يفهم من ذلك انه اذا توفرت شروط الأخذ بها فانه يجوز للمشفوع منه ان يدفع دعوى الشفعة بحجة عدم تحقق الضرر الذي شرعت من اجله
وقد ثار خلاف بين الفقهاء حول تكييف الشفعة وهل تعتبر من الحقوق العينية او الشخصية الباعث على هذا الجدل هو البحث في بعض الاثار الخاصة بالشفعة والتي تتوقف على تحديد طبيعتها كتحديد المحكمة المختصة بنظر دعوى الشفعة وتحديد مدى اتصال الشفعة بشخص الشفيع ، فذهب بعضها الى ان الشفعة حق عيني حقيقي ومصدر هذا الحق وأساسه هو الحق العيني لملكية العقار الشائع التي تخول مالك هذا العقار حق على العقار المشفوع
المراجع
1- علي حيدر – الكتاب التاسع – ص 672- خبر القاضي – شرح المجلة – ج 2 – ص 392
2- قرار محكمة تمييز الاردن 1133/993 مجلة المحاميين العدد (3،2، 1 ، الثاني شباط – آذار 1995
************
وذهب البعض الاخر الى ان الشفعة حق شخصي (1) لا يمكن استعماله لمصلحة شخص اخر والنزول عنه للغير 0
وقد ذهبت آراء اخرى تتوسط بين الرأيين السابقين الى ان الشفعة ليست حق عيني بحتاً ولاحقاً شخصياً بحثاً بل انها حق ذو صفة مختلفة لكونه ينصب على عقار من جهة ومن جهة اخرى لا يمنح للشفيع الا بناء على اعتبارات شخصية خاصة به
والصحيح كما يذهب اليه الفقيه الدكتور عبد الرزاق السنهوري ان الشفعة ليست بحق عيني ولا بحق شخصي بل هي ليست بحق اصلاً
انما الشفعة سبباً لكسب الحق فالشفيع يكسب بالشفعة ملكية عقار او حق عينياً على هذا العقار كحق انتفاع او حق رقبه او حق احتكار
خلاصة ذلك ان الشفعة ليست حقا من الحقوق ولذلك لا يجوز وصفها بانها حق عيني او حق شخصي او بأنها بين هذا وذاك ، ان الشفعة مجرد رخصة وهي على حد قول الشرعيين خيار ومشيئة فهي سبب من اسباب كسب الملكية في ذاتها حق من الحقوق ، وكما قيل بان الشفعة ليست حق ولكنها رخصة وهي لاتؤدي بذاتها الى تمليك العقار بل انها تؤدي فقط الى حلول الشفيع محل المشتري قبل البائع فالشفعة الارادة والمشيئة على حسب قولاً لشرعيين ورخصة وفقاً لما يقول عادة فقهاء القانون
1- الحق الشخصي: هو الالتزام ويسمى حقا اذا نظر اليه من جهة الدائن ، ودين او التزام اذا نظر اليه من جهة المدين ، وقد عرفته المادة 68 من القانون المدني الاردني ( الحق الشخصي ورابطة قانونية بين دائن ومدين
يطالب بمقتضياتها الدائن مدين بنقل حق عيني او القيام بعمل او الامتناع عن عمل
المبحث الثاني خصائص الشفعة
تمتاز الشفعة بالخصائص التالية :-
1) حق استثنائي :-
لان فيه تقييدا كحرية التقاعد ولحق الملكية فبمقتضاه يمتلك الشفيع العقار جبرا على المشتري بما قام عليه من الثمن والنفقات المعتادة ولهذا ينبغي عدم التوسع في تفسير النصوص الخاصة بالشفعة لانها واردة على خلاف القياس فغيرها لا يقاس عليها المادة 221 من القانون المدني الاردني حيث نصت ( ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس )
2- حق غير قابل للتجزئة :-
ان حق الشفعة حق غير قابل للتجزئة بمعنى ان ليس للشفيع ان يطلب بعض العقار المشفوع فيه ويترك بعضه
ويستثنى من القاعدة اعلاه حالة اذا تعدد المشترون واتحد البائع اذ في هذه الحالة للشفيع ان يأخذ نصيب بعضهم ويترك الباقي ولو كان شائعاً وقد نصت على ذلك المادة (1160) من القانون المدني الاردني بقولها ( الشفعة لا تقبل التجزئة فليس للشفيع ان يأخذ بعض العقار جبرا على المشتري الا اذا تعدد المشترون واتحد البائع فللشفيع ان يأخذ نصيب بعضهم ويترك الباقي
ولكن هل يلتزم الشفيع بالمطالبة بكل العقار المشفوع ولو تعدد الشفعاء؟
لا يوجد حكم بالقانون المدني الاردني في هذا الشأن كما ان المادة (1160) منه تستثنى حالة واحدة من كون حق الشفعة غير قابل للتجزئة هي حالة تعدد المشترين ومع ذلك نستطيع القول بان على كل شفيع في حالة تعددهم المطالبة بكل العقار المشفوع لانه اذا اسقط بعض الشفعاء حقهم وسمحنا للباقي منهم المطالبة بما يصيه من المشفوع فان ذلك سيؤدي الى تجزئة العقار المشفوع والزام المشتري بشراء بعضه دون البعض الاخر منه ، الامر الذي قد يؤدي للاضرار به خاصة وان المشتري قد لا يكون راغباً في شراء جزء في العقار
وتؤيد محكمة تمييز الاردن ذلك ضمناً في قرار لها جاء فيه ( اذا طلب شخصان امتلاك العقار بالشفعة مناصفة بالاشتراك وردت دعوى احدهما لعلة انه لم يقم بالمواثبة فان دعوى الثاني تصبح مستوجبه الرد لان دعوى الشفعة لا تقبل التجزئة )
3- حق قابل للاسقاط :-
فاذا اسقط الشفيع حقه في الشفعة صراحة او دلالة قبل الحكم او التراضي فان حقه في الشفعة يسقط اما اذا اسقطه بعد الحكم او بعد التراضي فانه حقه لا يسقط
وكذلك يسقط حق الشفعة اذا تنازل عنه الشفيع للغير صراحة او دلالة علما بان المتنازل له لا يستفيد من هذه التنازل (161/3 مدني اردني ) ومن الامور التي يؤخذ منها الاسقاط د لالة استئجار الشفيع من المشتري العقار المبيع او دفع بدل الايجار للمشتري ان كان العقار مؤجراً من البائع قبل البيع ، واذا ترك احد الشفعاء حقه او اسقطه انتقلت الشفعة الى من يليه من المرتبة (1152/2 مدني اردني )
4- حق قابل للارث :-
لانه متى ما ثبت فانه لا يبطل بوفاة البائع او المشتري او الشفيع (1158/3) مدني اردني ) ويترتب على ذلك انه اذا ثبت الشفعة ثم مات الشفيع قبل ان تسقط في حياته ، فان للورثة ان يطلبوها خلال المدة الباقية من المدة المقررة في القانون لطلب الشفعة
ويلاحظ ان فقهاء الشريعة على خلاف بهذا الصدد ولكن المجلة اخذت بالرأي القائل بعدم انتقال الشفعة الى الورثة اذا مات الشفيع بعد طلب المواثبة والتقرير وقبل ان يكون مالكاً للمشفوع بتسليمه بالتراضي مع المشتري او بحكم الحاكم ، وكذلك اذا مات الشفيع بعد طلب التملك لان الشفعة مجرد حق تملك هو لا يبقى بعد موت صاحب الحق ولذلك لا يورث الا ان حق الشفعة يبقى في حالة وفاة المشتري او البائع لبقاء مستحقة
المبحث الثالث مبررات الشفعة
ان الحكمة من الشفعة هي اتقاء اذى المالك الجديد فالشخص قد يطمئن الى جاره وشريكه في الملك فاذا أتى هذا الجار او الشريك وباع ملكه الى اجنبي فينتج بالضرورة بعض الاذى والضرر لذلك الشخص وبذلك منحت الشريعة ومن بعدها القانون المدنية الشفعة كوسيلة لدفع الاذي عنه وقد استهدف المشرع الاردني باعتبارات ثلاثة في ايراده لاحكام الشفعة وهذه الاعتبارات هي بحد ذاتها المبررات التي كانت وراء جعل المشرع الشفعة وسيلة او سبب من اسباب كسب الملكية
1- الاعـتبار الاول :-
وهو لم شتات الملكية بعد تفرقها ، وهذا الاعتبار هو الغريب عن الفقه الاسلامي وكان مع ذلك اعتبار مسلماً به في قانون الشفعة ، ويتمثل هذا الاعتبار في اثبات صفة الشفيع لمالك الرقبة حتي يلم شتات الملكية بضمه حق الانتفاع الى الرقبة وفي اثبات صفة الشفيع لصاحب حق الانتفاع حتي يلم شتات الملكية بضم الرقبة الى حق الانتفاع(1)
2- الاعـتبار الثاني :-
وهو ابعاد الاجنبي من ان يقتحم نطاق الشركاء في الملكية الشائعة والتقليل من عدد هؤلاء الشركاء كلما امكن ذلك ، وهذا الاعتبار هو المسلم به اتفاقاً سواء كان ذلك في الفقه الاسلامي او كان في التشريعات المتعاقبة الخاصة بالشفعة وهنا ما اخذ به المشرع الاردني حيث نصت المادة (1151) من القانون المدني الاردني على انه يثبت حق الشفعة للشريك في نفس المبيع للخليط في حق المبيع والجار الملاصق
3- الاعـتبار الثالث :-
وهو منع مضايقات الجوار فتثبت صفة الشفيع للجار المالك في احوال ثلاث وهذا الاعتبار مختلف في الفقه الاسلامي
فالحنفية هم الذين يسلمون به اما المذاهب الثلاث الاخرى فلا تعتبر به ، فالحنفية مُعتبر سبباً للأخذ بالشفعة وهذا الاعتبار اخذ به المشرع الاردني في المادة (1151) من القانون المدني الاردني فقرة ثلاثة يثبت الحق في الشفعة للجار الملاصق ومعنى ما تقدم ان الشفعة شرعت لدفع الضرر ولكن يجب ان
لا يفهم من ذلك انه اذا توافرت شروط الأخذ بها فانه لا يجوز للمشفوع عليه ان يرفع دعوى الشفعة بحجة عدم تحقق الضرر الذي شرعت من اجله فمتى توافرت الشروط التي نص عليها القانون في الشفيع فهنا يتم اللجوء الى اقامة دعوى الشفعة حتى ولو لم يكن هنالك ضرر ما دام توافرت شروط الأخذ بها
الفصل الثاني الشفعاء والتزاحم بينهم
المبحث الاول ( الشفعاء )
حدد المشرع الاردني في المادتين (1151 و 1152) الاشخاص الذين يثبت لهم حق الشفعة مع مرتبة كل واحد منهم على الوجه الاتي :-
أ- المرتبة الاولى ( الشريك في نفس البيع ):-
اذا باع احد الشركاء في العقار حقه بدون اذن الشركاء الاخرين ثبت لهؤلاء حق الشفعة الا ان حق الشركاء هذا يسقط اذا كان البيع قد تم بموافقتهم
ويلاحظ بهذا الصدد ان المادة (936) من التشريع المصري تنص بصراحة على ثبوت الشفعة للشريك في حال بيع شيء من العقار البائع الاجنبي فقط
كذلك حكم المادة 795 من القانون المدني والواقع ان اقرار الشفعة للشريك في المال الشائع في حال البيع لاحد من الشركاء لا مبرر له فالشفعة كما بينا مقررة لدفع الضرر واحتمال هذا الضرر لا يتحقق الا اذا كان البيع لاجنبي
ويلاحظ ان الفقر ب من المادة 936 من التشريع المصري تقرر ثبوت الشفعة لصاحب حق الانتفاع اذا ما بيعت كل الرقبة الملابسة لهذا الحق او بعضها
وكذلك تقرر حق الشفعة بمالك الرقبة اذا بيع كل حق الانتفاع الملابس لها او بعضه
ولا يمكن الاخذ بهذا الحكم في القانونين الاردني والعراقي لان الشفعة فيها تقتصر على ( تملك العقار المبيع او بعضه ) أي ملكية العقار المبيع او ملكيته جزء منه ولا يشمل على ( حق الانتفاع ) فالشفعة وسيلة من وسائل اكتساب ملكية العقار0
وعليه فليس لمالك الرقبة حق الشفعة في هذه الحقوق ولا لإحدى اصحاب هذه الحقوق
ب- المرتبة الثانية ( الخليط في العقار المبيع ):-
الخليط في حق المبيع هو من يشترك مع العقار المبيع في حق ارتفاق خاص كحق الشرب الخاص او الطريق الخاص او المسيل الخاص ، اما الاشتراك مع العقار المبيع في حق ارتفاق عام كالنهر العام او الطريق العام فلا يكون سبباً لثبوت حق الشفعة وعليه لو بيعت دار لها حق المرور من طريق خاص مع حقها في هذا الطريق فان الشفعة تثبت لاصحاب الدور الاخرى التي لها حق المرور في نفس الطريق سواء أكانت دورهم متلاصقة للدار المبيعة ام لا واذا اجتمع الخلطاء فان الاخص منهم يقدم على الاعم
ج- المرتبة الثالثة ( الجار الملاصق ):-
ويشترط لثبوت الشفعة للجار الملاصق الشروط التالية :-
أولاً :ان يكون العقارات المشفوع والمشفوع به من العقارات المملوكة اذ لا شفعة في الوقف كما لا تثبت الشفعة في فراغ حق التصرف في الاراضي الاميرية بل
يثبت فيه حق الاولوية ، ولا عبرة بوجه استغلال العقار فالشفعة تثبت سواء أكان معداً للاستغلال الزراعي او لفرض البناء
ثانياً : ان يكون العقارات متلاصقين اما اذا وجد بينهما فاصل كطريق عام نافذ او مجرى عام فلا شفعة وان قربت الابواب لان الطريق والمجرى مملوكاً لاحد المالكين او مملوكاً لهما على الشيوع فان حق الشفعة يثبت ويذهب بعض فقهاء الشريعة الى ان اسباب الشفعة هي ان الشركة في رقبة المبيع والخلطة في حقوق العقار المبيع والجوار
اما جمهور الفقهاء فيذهبون الى ان سبب الشفعة هو الشركة في رقبة المبيع فقط وليس للخليط ولا للجار شفعة وقد أخذت المجلة بالرأي الاول
المبحث الثاني ( تزاحم الشفعاء )
يقوم التزاحم بين الشفعاء اذا توافر سبب الشفعة لاكثر من شخص وطلبوها كلهم او بعضهم كما لو باع شريك حصة الشائعة في العقار الى اجنبي فطلب الشفعة فيها بقية الشركاء او الشريك في العقار الشائع والجار الخليط ، والصور التي يمكن ان يقع فيها التزاحم هي الصور التالية :-
أ- التزاحم بين الشفعاء من طبقة واحدة :-
جاء بالفقرة الاولى من المادة (1153) من القانون المدني الاردني ( اذا اجتمع الشفعاء من درجة واحدة ، كانت الشفعة بينهم بالتساوي )
وعليه اذا كان الشفعاء المتزاحمون شركاء في الشيوع مثلاً كانت الحصة الشائعة المبيعة تقسم بينهم بالتساوي حيث يستحق كل منهم بقدر ما يستحق الاخر من المبيع أي ان المشفوع يقسم على عدد الرؤوس لا بنسبة السهام التي يملكها كل منهم في العقار الشائع وذلك لتساويهم في السبب واذا تنازل ا حد الشفعاء عن حقه لاحد من الشركاء الاخرين فان تنازله يعتبر اسقاطاً لحقه في الشفعة ولا يستفاد المتنازل له من هذا التنازل وانما يقسم نصيب المتنازل بينهما سائر الشفعاء بالتساوي
وينبغي لسقوط حق الشفعة بالتنازل ان يكون المتنازل عنه أهلاً للتبرع والا لا يسقط الحق
كما لا يجوز للولي ان يتنازل عن حق الشفعة عن ابنه لان ذلك يعتبر تبرعاً ولا يجوز له التبرع بحق الصغير(1)
* ونستثني من القاعدة العامة السابقة الحالتين التاليين :-
أولاً : اذا كان الشفعاء من الخلطاء فان الاخص منهم يقدم على الاعم (1153/2 مدني اردني ) ومعنى ذلك انه اذا كان الشفعاء المتزاحمين من الخلطاء فان المشفوع لا يوزع بينهم بالتساوي رغم كونهم من طبقة واحدة
ثانياً :تفضل بعض القوانين ( الشفع المشتري على بقية الشفعاء ) واذا كان المشتري احد الشفعاء فانه يفضل على الشفعاء الذين هم من طبقة أعلى او من طبقة ادنى ولكن يتقدم الذين من طبقة اعلى من طبقته (1132 مدني عراقي
المراجع
1- قرار محكمة التمييز رقم 986/1989 ( حقوقية ) المبادئ القانونية لمحاكم التمييز – الجزء السابع – ج الاول – ص 328
ولا يوجد مثل هذا الحكم في التشريع الاردني لذلك فان الشفعة تثبت للشفيع حتى لو كان المشتري شفيعاً من مرتبته
ب- التزاحم بين الشفعاء من طبقات مختلفة :-
تنص الفقرة التالية من المادة (1152) من القانون المدني الاردني على انه (اذا اجتمعت اسباب الشفعة قدم الشريك في نفس العقار ثم الخليط في حق المبيع ثم الجار الملاصق)
فالشفعة تثبت اولاً للشريك في العقار ثم للخليط في حق الارتفاق الخاص ثم للجار الملاصق وعليه اذا باع شريك في العقار حصته لشريك أو لأجنبي فطلب الشفعة الشريك في نفس العقار والخليط في حق ارتفاق للعقار المبيع والجار الملاصق فإن الشريك في نفس العقار يقدم فان لم يوجد او وجد واسقط حقه فتكون الشفعة للخليط في حق المبيع ومن ثم للجار الملاصق
واذا تعدد الشفعاء واقاموا دعوى الشفعة وردت المحكمة الدعوى بالنسبة لبعضهم فان حق الشفعة يبقى منحصراً فيمن قبلت دعواهم ويقسم العقار بينهم بالتساوي (1)
المراجع
1- قرار محكمة تمييز الاردن رقم 261/986 ( حقوقية ) المبادئ القانونية لمحكمة التمييز – الجزء السادس – ص 487
الفصل الثالث شروط الشفعة واجراءاتها
المبحث الاول شروط الشفعة
المطلب الاول ان يكون هنالك عقد بيع رسمي او هبة بعوض
تنص المادة (1155 من القانون المدني الاردني على
(1- تثبت الشفعة بعد البيع الرسمي مع قيام السبب الموجب لها
2- وتعتبر الهبة بشرط العوض في حكم البيع تشترط الشريعة الاسلامية على الرأي الذي أقرته المجلة ، لثبوت حق الشفعة تملك المشفوع بعقد المعاوضة كالبيع او ما في حكمه والمقصود بما هو في حكم البيع الهبة بشرط العوض لان الهبة في هذه الحالة تتضمن مبادلة المال بالمال
الا ان الشفعة لا تجري في الهبة بلا عوض ، ولا في الميراث ولا في الصدقة ولا في الوصية (1023 م المجلة ) كما انها لا تجري في تقسيم العقار سواء كانت جبرية او اختيارية ، لان في القسم معنى الافراز فهي افراز من وجه ، والشفعة انما تثبت في المبادلة من كل وجه وعليه اذا قسمت دار مشتركة فلا يثبت للجار حق الشفعة فيها اما القانون المدني الاردني فانه ينص في المادة 1155 على ثبوت الشفعة في البيع الرسمي مع قيام السبب الموجب لها وفي الهبة بشرط العوض ، لانها تعتبر في حكم البيع، وقد جاء في المذكرات الايضاحية للقانون المدني الاردني في هذا الصدد قولها (…. ونصت الفقرة الثانية على ان الهبة بشرط العوض تعتبر في حكم البيع ومؤدي ذلك انها تثبت عند المعوضات المالية … الخ )(1)
ويجب لثبوت الشفعة ان يتم عقد البيع رسمياً ، اذا كان العقار واقعاً في منطقة لم تعلن التسوية فيها او استثنيت منها لذلك لا يشترط تسجيله في دائرة التسجيل كما ان الشفعة لا تثبت بالبيع العرفي غير الرسمي اما اذا كان واقعاً في منطقة تمت فيها التسوية فيجب لثبوت الشفعة ان يكون العقار المشفوع فيه قد تم بيعه بان الفقد البيع على الوجه القانوني الصحيح وانتقلت مليكة البيع من البائع الى المشتري وهذا لا يتحقق الا بتسجيل عقد بيع العقار في دائرة التسجيل ، وقبل التسجيل لا تثبت الشفعة لان البيع يعتبر في هذه الحالة باطلاً بطلاناً مطلقاً والشفعة لا تثبت الا اذا انعقد البيع على الوجه الصحيح ، علماً بان ما يلزم للأخذ بالشفعة ان يكون البيع الصادر الى المشفوع منه قائماً وقت طلب الشفعة ، لان مجرد المفاوضات التمهيدية لابرام العقد غير كافية لثبوت الشفعة
وما الحكم ان ابطل او فسخ عقد بيع العقار المشفوع ؟
المراجع
1- المذكرات الايضاحية للقانون المدني الاردني –الجزء الثاني
يزول حق الشفعة بزوال عقد بيع العقار المشفوع وعودة العقار الى البائع وذلك لانتفاء الضرر ، وقد بينت محكمة تمييز الاردن ذلك بوضوح في قرار لها جاء فيه (ان الرخصة التي منحها القانون للشفيع وصاحب الاولوية بطلب التملك انما هي رخصة شرعت دفع الضرر من سوء الجوار ، وان تملك المبيع هو في حد ذاته وسيلة الشفيع او صاحب الاولوية بطلب التملك انما هي رخصة شرعت دفع الضرر من سوء الجوار وان تملك المبيع هو في حد ذاته وسيلة الشفيع او صاحب الاولوية في وقع الضرر من سوء الجوار الذي هو الغاية الاساسية من التملك ، فاذا فسخ البيع وعاد المبيع الى البائع زال الضرر الذي قصد الشفيع او صاحب الاولوية تحاشية بالتملك وبدون كلفة
المطلب الثاني ان يكون البيع من البيوع التي تثبت فيها الشفعة
اذا كان الاصل هو جواز الشفعة في البيوع الا ان البيوع التالية تستثنى من الاصل المذكور (1) حيث لا تثبت فيها الشفعة
أولاً : البيع بالمزايدة العلنية عن طريق القضاء والادارة
فالشفعة إذن لا تجوز في البيع الذي تم بالمزاد العلني سواء امام القضاء او امام احدى جهات الادارة والحكمة من منع الشفعة في هذه الحالة هي رغبة الحصول بطريق المزاد على اعلى ثمن ممكن ، وهل الشفيع اذا شاء اخذ العقار على الدخول في هذا المزاد وعرض الثمن الاعلى ، وينطبق هذا الحكم على البيع بالمزاد العلني الي تم سواء امام القضاء نتيجة حجز الدائن على عقار المدين مثلاً او حجز الدولة على عقارات المكلف تسديد الدين الضرائب او لتنفيذ القسمة الحاصلة بطريقة التصفية
ثانياً – البيوع التي تقع بين الزوجين او بين الاصول والفروع او بين الاقارب لغاية الدرجة الرابعة وبين الاصهار حتى الدرجة الثانية :-
علماً أن الدرجة ا لرابعة من الاصول والفروع والدرجة الثانية من الاصهار تدخل ضمن شمول النص لان حكمة ( لغاية ) تعني بما في ذلك تلك الدرجة فمنها يمتنع الاخذ بالشفعة في البيع الذي يقع بين الاقارب المتقدم ذكرهم وحيث ان الحكمة من منع الشفعة في البيع الحاصل بين هؤلاء الاقارب تقوم في ان هذا البيع تراعي فيه اعتبارات تتعلق بشخص المشتري وتجعل بالتالي الشروط التي يتم بها شروطاً خاصة ما كانت للتوافر لو ان البيع تم لشخص اخر سواه الامر الذي يدعو الى عدم جواز اباحة الشفعة لشخص اخر لا تتوافر بالنسبة اليه تلك الاعتبارات ولذا فان الشفعة لا تجوز في مثل هذا البيع ولو كان البيع ولو كان طالب الشفعة اقرب الى البائع من المشتري
أ) البيع بين الاخوة والاخوات :-
تجمع بين هؤلاء قرابة الحواشي في الدرجة الثانية فلا يجوز الشفعة في البيع الذي يقع بينهم ، سواء كان البائع الأخ او الاخت وسواء وقع البيع بين اخوين او اختين او بين اخ او اخت ويتفرع عند عدم جواز الشفعة في البيع الصادر لاحد هؤلاء انه اذا عاد المشتري وباع العقار لواحد منهم فلا تجوز الشفعة ضده
ب) البيع بين الازواج :-
لا تجوز الشفعة كذلك في بيع الزوج لزوجته او بيع الزوجة لزوجها اما بيع المالك عقاره لمطلقته او بيع المطلقة عقارها لزوجها السابق او بيع الخطيب لخطيبته فتجوز فيه الشفعة
ج- لا تجوز الشفعة في البيع الحاصل بين الاشخاص التي تربطهم قرابة الحواشي لغاية الدرجة الرابعة :-
وتجوز الشفعة فيما وراء هذه الدرجة ويقصد بالقرابة هنا قرابة الحواشي كقرابة الاخوان والاخوات والاعمام واولاد العم واولاد الخال 0 وتحسب درجة القرابة هنا بأن تعد الدرجات صعود من الفرع الى الاصل المشترك ثم نزولا من الاصل المشترك الى الفرع الاخر وكل فرع فيها عدا الاصل المشترك يعتبر درجة
د- بيع المالك لاحد من اصهارة لغاية الدرجة الثانية وقرابة المصاهرة :-
تعني ان اقارب احد الزوجين في نفس القرابة والدرجة بالنسبة الى الزوج الاخر وبناء على ما تقدم لا تجوز الشفعة في البيوع التي تتم من الزوج الى اب زوجته ، ولكن تجوز الشفعة في البيع الصادر عن الزوج لعم الزوجة فهو يعتبر بيع بين الاصهار للدرجة الثالثة
هـ – البيع بين الاصول والفروع :-
لا تجوز الشفعة في هذا البيع أي كانت درجة القرابة بين البائع والمشتري كأن يكون البائع هوالاب او الام او الجد او الجدة
ثالثاً – اذا بيع العقار ليجعل محل عبادة :-
اذا اشترى شخص عقار لينشئ به محل عبادة كمسجد او كنيسة او ليلحق بمسجد قائم ما جاز ان يأخذه بالشفعة ولو كان طالب الشفعة يريد بدوره ان يقيم في العقار محل للعبادة
رابعاً : اذا حصل تفويض من جانب الدولة-
المطلب الثالث ان يكون كل من المشفوع فيه والمشفوع به من العقارات المملوكة
لا تثبت الشفعة الا في العقارات المملوكة ملكاً صرفاً ، وعليه فلا شفعة في المنقول وعليه ما جاء في المادة 1156 من القانون المدني الاردني ( يشترط في البيع الذي تثبت فيه الشفعة ان يكون عقار مملوكاً او منقولاً في نطاق الاحكام التي يقضي بها القانون ) الا اننا نرى ان الشفعة لا تثبت الا في العقارات في القانون المدني الاردني
كما ان المواد التالية التي تنظم شروط واجراءات الشفعة تشير بوضوح الى ثبوتها في العقار فقط ورود كلمة ( منقولاً ) في المادة(1150) لم يقصد المشرع الاردني اقرار الشفعة في المنقولات
وكذلك الحكم بالنسبة للعقار اذا كان من الاموال العامة ، او من العقارات المملوكة للدولة والتي تتصرف بها الدولة تصرف الافراد في اموالهم لان هذه العقارات تباع في المزاد العلني (1)
اما اذا كان العقار من الاراضي الاميرية فيرد فيها حق الاولوية لا حق الشفعة بالنسبة لافراغ حق التصرف فيها وفي ملكية الطوابق والشقق تثبت حق الافضلية للشريك عند بيع الطابق او الشقة المشتركة
والشفعة تثبت في العقارات بالتخصص اذا ما بيعت مع العقار الاصلي لانها تعتبر من ملحقاته ، اما اذا بيعت مستقلاً عن العقار الاصلي فالشفعة لا تثبت فيها لان البيع يعتبر وارداً على منقولاً في هذه الحالة
المراجع
1- خلاف هذا لرأي محمد وحيد الدين السوار – اسباب كسب الملكية – ص 183
المطلب الرابع ان يكون العقار المشفوع مملوكاً للشفيع وقت بيع العقار المشفوع
تنص المادة (1157) من القانون المدني الاردني على انه ( يشترط في العقار المشفوع به ان يكون مملوكاً للشفيع وقت شراء العقار المشفوع )
كان من الافضل ان يشترط المشرع الاردني ان يظل العقار المشفوع به مملوكاً للشفيع لحين التراضي على الشفعة او الحكم به ، والا يسقط حق الشفعة لان العلة في اقرار الشفعة للشفيع تزول بزوال ملكيته للمشفوع به قبل الحكم له بالشفعة او التراضي عليها ، فمثلاً لو طلب الشفيع الشفعة بوصفه جاراً ملاصقاً ثم تصرف اثناء النظر في الدعوى في العقار المملوك له والذي يشفع به بالبيع او بالهبة ، فان حقه في الشفعة ينبغي ان يسقط لعدم بقاء الحق الذي يستند اليه في طلب الشفعة لحين الحكم بالشفعة وبزواله تنتفي العلة في اقرار حق الشفعة له (1018 مدني عراقي )
ففي التشريع الاردني يكفي لثبوت الشفعة ان يكون العقار المشفوع به مملوكاً للشفيع وقت ابرام البيع (1) فاذا كان الشفيع قد كسب هذا الحق بالميراث وجب ان تكون وفاة المورث سابقة على البيع
واذا كان قد كسب بمقتضى تصرف قانوني وجب ان يكون هذا التصرف مسجلاً في دائرة التسجيل قبل البيع ، اما اذا لم تكسب هذا الحق الا بعد ابرام البيع فان الشفعة لا تثبت له
الا ان وفاة الشفيع بعد البيع لا تبطل شفعته بل يحل محله وارثه في طلبها كما ان وفاة المشتري او البائع لا يؤثر عليها وقد نصت على ذلك المادة (1158) من القانون المدني الاردني على انه ( اذا اثبتت الشفعة فلا تبطل بموت البائع او المشتري او الشفيع)
المراجع
1- سليم باز – ص 69
المبحث الثاني اجراءات الشفعة
الحق في الشفعة يثبت اما بالتراضي او با لتقاضي فاذا طلب الشفيع العين المبيعة وسلم المشتري بحقه ثبت الملك للشفيع بالتراضي دون حاجة لاتخاذ الاجراءات التي نص عليها القانون ، واذا لم يسلم المشتري بذلك وجب على الشفيع ان يتخذ الاجراءات المقررة قانوناً في مواعيدها حتى يتسنى له الاخذ بالشفعة بحكم من القاضي
وكانت المجلة تلزم الشفيع بتقديم ثلاث طلبات ( هي اجراءات المواثبة والتقرير والاستشهاد )
أ- طلب المواثبة :-
هو ان يبادر الشفيع بطلب الشفعة بمجرد علمه بوقع عقد البيع
ب- طلب التقرير والاستشهاد:-
وبموجبه على الشفيع ان يشهد ويطلب التقرير بعدطلب المواثبة بدون تأخير وحسب امكانه كان يشهد رجلين او رجلاً وامرأتين قائلاً عند البيع ، أن فلاناً قد باع هذا العقار – ويشير اليه – واني اشهد كما على ان طلب الشفعة او عند المشتري ، انك قد اشتريت العقار الفلاني المحدود بكذا واني شفيعه ، او عند البائع اذا كان العقار في يده انك قد بعت العقار الفلاني واني شفيع به
ج- طلب الخصومة والتملك :-
وهو ان يطلب الشفيع بحضور الحاكم الخصومة مع المشتري او البائع اذا كان العقار بيده طالباً تملك المشفوع ، وهذا الطلب يلزم في حالة عدم تسليم المشتري المشفوع برضائه الى الشفيع والطلبات الثلاثة اعلاه محددة بأزمان ، فاذا تجاوزها يبطل حق الشفعة ، فطلب المواثبة فوري على القول الراجح ، فالشفعة تسقط اذا سمع ذو الحق بالبيع ولم يبادر بطلب الشفعة رغم علمه بالثمن والمشتري وطلب التقرير والاشهاد مقيد الا يمر بعد طلب المواثبة زمن يمكن اجراؤه فيه بدون عذر فإذا مر عليه زمن يمكن أن يقوم فيه بالطلب المذكور فلم يقم بذلك بدون عذر مشروع بطلت شفعته ، اما طلب الخصومة فانه محدد بشهر من حين التقرير والاشهاد ، فاذا مضت المدة المذكورة ولم يقم الشفيع بذلك بدون عذر ، بطلبت شفعته ايضاً
المطلب الاول رفع الدعـــــــــــوى
تنص المادة (1162) من القانون المدني الاردني على انه ( 1- على من يريد الاخذ بالشفعة ان يرفع الدعوى في خلال ثلاثين يوماً من تاريخ علمه بتسجيل البيع واذا اخرها بدون عذر مشروع سقط حقه في الشفعة ، 2- على انه لا تسمع دعوى الشفعة بعد مرور ستة اشهر من تاريخ التسجيل ) ، وتنص المادة (1163 ) منه على أن ( 1- ترفع دعوى الشفعة على المشتري لدى المحكمة المختصة ، 2- وتفصل في كل نزاع يتعلق بالثمن الحقيقي للعقار المشفوع ولها ان تمهل الشفيع شهر لدفع ما طلب منه د فعه والا بطلت الشفعة )
فاذا لم يتم التراضي على الشفعة وجب على الشفيع اقامة دعوى على المشتري خلال ثلاثين يوماً من تاريخ علمه بتسجيل البيع في دائرة التسجيل فاذا لم يقم بذلك ومرت المدة المذكورة دون عذر شرعي سقطت شفعته
والمدة المذكورة تبدأ بالسريان من اليوم التالي للعلم بتسجيل البيع ، كما ان دعوى الشفعة لا تسمع بعد مرور ستة اشهر من تاريخ تسجيل البيع في كل الاحوال حتى ولو لم يعلم بها الشفيع
كما ان القانون المدني المصري ينص في المادة (943) على انه (ترفع دعوى الشفعة على البائع والمشتري امام المحكمة الكائن في دائرتها العقار وتقيد بالجدول ، ويكون كذلك في ميعاد ثلاثين يوماً من تاريخ الاعلان المنصوص عليه في المادة السابقة- اعلان الرغبة بالاخذ بالشفعة – والا سقط الحق فيها ، ويحكم بالدعوى على وجه السرعة
حسب ا لتشريع الاردني يكفي رفع دعوى على المشتري ولا حاجة لقبول اقامتها على البائع ايضاً ، وقد جاء في المذكرات الايضاحية للقانون المدني الاردني في هذا الصدد ( وبما ان بيع العقار لا بد من تسجيله حتى تترتب عليه نتائجه وآثاره فيكون وذلك حكماً لتسليم بالنسبة للمشتري وبما انه اذا سلم العقار المشفوع للمشتري كان المشتري هو الخصم وحينئذٍ لا يلزم حضور البائع ويشترط القانون المصري اقامة دعوى الشفعة على كل من البائع والمشتري ولا ترد من قبل المحكمة
اذا تعدد المشترون واتحد البائع ، كان على الشفيع ان يختصمهم جميعاً ، واذا توفي احدهم فانه يختصم ورثته ، الا ان له ان يأخذ نصيب بعض المشترين ويترك الباقي (1160) مدني
ودعوى الشفعة تقام من قبل الشفيع اذا كان كامل الاهلية ، وله ان يوكل غيره في رفعها بوكالة خاصة ، اما اذا كان الشفيع قاصراً او محجوراً عليه ، جاز لوليه او وصيه رفع دعوى بعد استئذان المحكمة
ولكن ليس لدائن الشفيع رفعها باسم مدينة وفقاً للمادتين (366 و 367) من القانون المدني الاردني لان هذه الدعوى حق لاصق بشخصه
ولا يجوز للشركات او أي شخص معنوي ان يمتلك داخل المدن والقرى من العقارات الا بالقدر الضروري لمزاولة اعمالها وبموافقة مجلس الوزراء حتى لو كان ذلك عن طريق الشفعة
(1)
المراجع
1- قرار محكمة تمييز الاردن – رقم 770/994 ( حقوقية) مجلة المحامين – العدد (5-6) ايار حزيران 1995 ص 1340
كما لا يجوز الحكم للاجنبي بان يمتلك عقاراً بالشفعة الا اذا حصل على موافقة مجلس الوزراء وبشرط ان لا يؤدي ذلك الى تجاوز الحد المسموح به في تملك العقارات الا ان الملاحظ ان موافقة مجلس الوزراء ليست ضرورية وقت رفع الدعوى وانما يشترط توافرها عند الحكم بالشفعة (1)
والمحكمة المختصة في القانون المدني الأردني هي محكمة البداية مهما كانت قيمة الدعوى ( الفقرة 2 من المادة 2 من القانون 51 لسنة 1958 )
المطلب الثاني ايداع الثمن في صندوق المحكمة
لا يشترط القانون المدني الاردني لقبول الدعوى ايداع الثمن وقت رفع الدعوى بل تجيز في الفقرة الثانية من المادة 1663 منه للمحكمة ان تمهل الشفيع شهر الدفع ما تطلب منه دفعه فاذا صدر الحكم بالشفعة وجب على الشفيع دفع الثمن والا تبطل شفعته الا اذا امهلته المحكمة لدفعه خلال شهر ، فاذا مرت المهلة دون ان يدفع بطلت الشفعة
وعلى الشفيع عند تقديم دعواه ايداع الثمن المذكور في عقد البيع ، او ان يقدم كفالة مصرفية بمقداره وفي حالة الادعاء بان الثمن المذكور يزيد على الثمن الحقيقي على المحكمة تقديم كفالة بذلك
واذا تبين ان المبلغ المذكور يزيد على الثمن الحقيقي او بدل المثل كان للشفيع استرداد ما دفعه زيادة عليه
وتجيز الفقرة الثانية من المادة 1163 من القانون المدني الاردني الاعتراض امام المحكمة على الثمن ايضا، لذلك يستطيع الشفيع ان يدعي ان الثمن المذكور في العقد هو ثمن صوري وانه اكثر من الثمن الحقيقي
اما اذا تبين ان الثمن الحقيقي او بدل المثل يزيد على المبلغ المودع في صندوق المحكمة وجب على الشفيع ان يدفع الزيادة خلال شهرين من تاريخ اكتساب الحكم الدرجة القطعية والا سقط حقه في تنفيذ الحكم ، والعبرة في مقدار الثمن انما هو للبيان المدرج امام مأمور تسجيل الاراضي والمصادق عليه من قبله ولا عبرة لاي بيان اخر واضافة للثمن ، فان الشفيع يلزم بدفع كامل رسوم البيع التي د فعها المشتري واذا باع المشتري الاول العقار الى اخر قبل أخذها بالشفعة فالشفيع يلزم بالثمن في العقد الاول ، وللمشتري الثاني الرجوع على المشتري الاول بفرق الثمن (1154) مدني اردني
المراجع
1- قرار محكمة تمييز الاردن رقم 361/988 ( حقوقية ) – المبادئ القانونية لمحكمة التمييز – الجزء الرابع- ص 235
الفصل الرابع احكام الشفعــــة
المبحث الاول الاخذ بالشفعة يعتبر شراء جديداً
يعتبر المشرع الاردني ا لحكم بالشفعة او التراضي عليها ( شراء جديداً ) فقد جاء في الفقرة الاولى من المادة 1165 من القانون المدني الاردني ( تملك العقار المشفوع قضاء او رضاء يعتبر شراء جديد يثبت فيه خيار الرؤية والعيب للشفيع وان تنازل المشتري عنهما )
ويترتب على ذلك ان المشرع الاردني يقر وجود عقدين في الشفعة ، الاول بين البائع والمشتري ، والثاني بين المشتري والشفيع ، ونلاحظ ان القانون الاردني يلزم الشفيع بدفع الثمن المتفق عليه في العقد الاول (1150 مدني اردني )
ويترتب على اعتبار اخذ العقار بالشفعة شراء جديدا في القانون الاردني ما يلي :-
1- تترتب على الشفيع والمشتري التزامات البائع والمشتري فالمشتري يلتزم بضمان التصرف والاستحقاق وضمان العيوب الخفية وقد اشارت الى ذلك المادة 1165 فاذا كان الاخذ بالشفعة شراءاً جديداً بين الشفيع والمشتري فعلى أي اساس يكون للشفيع وهو اجنــبي عن العقد الاول الانتفاع بالأجل الممنوح في هذا العقد للمشتري كما يلاحظ ان الفقرة الثالثة من نفس المادة تقرر بانه ( واذا استحق العقار للغير بعد اخذه بالشفعة فللشفيع ان يرجع بالثمن على من اداة اليه في مواجهة البائع او المشتري)
وهذا النص لا يستقيم مع اعتبار الاخذ بالشفعة شراءاً جديداً اذا المفروض ان لا علاقة بين الشفيع والبائع في البيع الاول ، لذلك كان من المفروض ان يقرر النص المذكور الحق للشفيع ان يرجع على المشتري اذا اشترى منه
2- حسب المادة (1164) من القانون المدني الاردني تنتقل ملكية العقار المشفوع الى الشفيع بالتسجيل في دائرة التسجيل ، فالملكية لا تنتقل الى الشفيع من وقت صدور الحكم القاضي بالشفعة او التراضي عليها وانما عن وقت تنفيذ الحكم بتسجيله في دائرة التسجيل . ويترتب على ذلك انه لا يجوز للشفيع المطالبة بايجار المالك الذى ملكه بالشفعة الا اعتباراً من تاريخ تسجيل الحكـم في دائرة التسجيل.
المبحث الثاني دفع الثمن
على الشفيع ان يدفع الثمن وفقا للقواعد التي بينها ضمن شروط الاخذ بالشفعة بشأن ايداع الثمن في صندون المحكمة .وقد نصت المادة (1154) من القانون المدني الاردني ( اذا اشترى شخص عيناً تجوز الشفعة فيها ثم باعها الى اخر قبل اخذها بالشفعة فللشفيع اخذها بالثمن الذي علىالمشتري الاول ، وللمشتري الثاني ان يسترد الفرق من المشتري الاول ان وجد).
قد يبيع المشتري العقار الى شخص اخر قبل اخذها بالشفعة وفي هذه الحالة للشفيع اخذها بالشفعة وفي هذا الحالة للشفيع اخذها بالثمن الذي اشترى به المشتري الاول وللمشتري الثاني ان يسترد الفرق من المشتري الاول .
المبحث الثالث حكم تصرفات المشتري في المشفوع
يميز المشرع الاردني بين تصرفات المشتري المادية والتصرفات القانونية ، لذلك تتناول ادناه حكم كل نوع من هذه التصرفات
1- التصرفات المادية :-
تنص المادة (1166 ) من القانون المدني الاردني على انه ( 1- اذا زاد المشتري في العقار المشفوع شيئاً من حالة او بنى او غرس فيه اشجار قبل دعوى الشفعة. فالشفيع ضمير بين ان يترك الشفعة وبين ان يتملك العقار بثمنه مع قيمة الزيادة او ما احدث من البناء او الفراس ، 2- واما اذا كانت الزيادة او البناء او الفراس بعد الدعوى فللشفيع ان يترك الشفعة او ان يطلب الازالة ان كان لها محل او الابقاء مع دفع قيمة الزيادة او ما احدث مقلوعاً ).
الحالة الاولى : هي حالة قيام المشتري بالبناء والفراس قبل اقامة دعوى الشفعة ويكون الشفيع ضميراً بين ترك الشفعة أو طلب إزالة المحدثات أن كان له محل او تملك العقار والمحدثات مقابل ثمن العقار وقيمة هذه المحدثات مستحقه القلع .
الحالة الثانية: هي حالة قيام المشتري بالبناء والفراس بعد اقامة الدعوى ، ويكون الشفيع مخيراً بين ترك الشفعة ، او طلب ازالة المحدثات ان كل له محل او تملك العقار والمحدثات مقابل ثمن العــقار وقيمة المحدثات مستحق للقلع (1)
المراجع
1- قرار محكمة تمييز الاردن رقم 732/986 ( حقوقية ) – الجزء السادس
2- التصرفات القانونية :-
تنص المادة (1154) من القانون المدني الاردني على انه ( اذا اشترى شخص عيناً تجوز الشفعة فيها ثم باعها من ا خر قبل اخذها بالشفعة فللشفيع اخذها بالثمن الذي الذي قام علىالمشتري الاول ، وللمشتري الثاني ان يسترد الفرق من المشتري الاول ان وجد )
فالنص اعلاه يمنع التحايل على احكام القانون ،اذ من المحتمل ان يعمد المشتري الاول الى بيع العقار الى مشتري اخر بثمن اعلى بقصد منع الشفيع من ممارسة حقه ، ولمنع ذلك فقد قررت المادة اعلاه الزام الشفيع بالثمن المتفق عليه في البيع الاول مع اعطاء الحق للمشتري الثاني الرجوع على المشتري الاول بفرق الثمن ان وجد(1) ولايسري على الشفيع أي تصرف قانوني يصدر من المشتري بعد اقامة الدعوى وقد نصت |(1167 ) من القانون المدني الاردني على ذلك
المبحث الرابع مسقطات الشفعة
يسقط حق الشفعة في الحالات التالية :-
1- انقضاء المدة القانونية لاقامة دعوى الشفعة:-
تنص المادة (1162) من القانون المدني الاردني انه يجب اقامة دعوى الشفعة خلال ثلاثين يوماً من تاريخ العلم بالبيع او ستة اشهر من تاريخ تسجيل البيع في دوائر التسجيل .فاذا مدت المدة المذكورة دون ان يقيمها الشفيع فان شفعته تسقط .
المراجع
1- قرار محكمة التمييز الاردني – رقم 541/1985 – المصدر السابق – ص 484
2- تخلف اجراء من اجراءات الشفعة :-
كما لو تخلف الشفيع عن تقديم الكفالة المطلوبة او اذا قام الدعوى بجزء من المشفوع لا كله
3- امتناع الشفيع عن تكملة الثمن :-
على الشفيع ان يكمل المبلغ الذي دفعه الى صندوق المحكمة ، اذا تبين ان الثمن او بدل المثل الواجب دفعه يزيد عليه ، فاذا امتنع عن تكملة الثمن خلال شهرين من تاريخ اكتساب الحكم الدرجة القطعية فان حقه في تنفيذ الحكم يسقط
4- تنازل الشفيع عن حق الشفعة:-
حق الشفعة يسقط اذا تنازل الشفيع عن صراحة او ضمناً وِقد اشارت الى ذلك الفقرة الثانية من القانون المدني الاردني ( من ترك من هؤلاء الشفعة او سقط حقه فيها انتقلت الى من يليه في الرتبة ) . كما نصت الفقرة الثالثة من المادة 1161 على ذلك صراحة . حيث قررت عدم جواز سماع دعوى الشفعة اذا نزل الشفيع عن حقه في الشفعة صراحة او دلالة والتنازل الضمني هو تصرف يستنتج منه التنازل كمباركة صاحب الحق بالشفعة البيع الذي تم بين البائع والمشتري
المصدر : موقع حماة الحق للمحاماة
1 person likes this.